كتاب كامل مصطفى الحاج حسين - (غزارة الصّمت).. مجموعة شعرية

*صَفِيـرُ بالدَّمـعِ..
... وأراهُ يبعُـدُ عنّي!
كنجمٍ يغوصُ في المَـدى
يتوغَّلُ في غيابِهِ
يجتازُ المسافةَ
ما بينَ غُصَّتي واختناقي
وأَحسِبُ أنَّ يديهِ
تنفضانِ ما تعلَّقَ بهما
من ندائي
هو ماءُ دمعتي
وضوءُ ذكرياتي
هو شفقُ القصيدةِ
وسماءُ أنفاسي
هو لُحَاءُ نبضي
وجمرُ آهتي
يمضي في زورقِ الظَّلامِ
ولا يلتفتُ لحطامي
ما الذي بدَّلكَ وحوَّلكَ
وأيُّ حبٍّ منّي أغضـبـَـكَ
وَروَّعَكَ؟!
ماذا اقترفَ فؤادي
بحقِّكَ من ذنوبٍ
حتّى أجدني أخسَركَ؟!
وأنا الذي اعتدتُ أن أشربَ
الضّوءَ من بسمتِكَ
وأن أنهلَ الشُّطآنَ
من لمسَتِكَ
وأن أجتازَ الموتَ
كلَّما لجأتُ إلى محَبَّتِكَ
أنتَ ثنايا وجودي
ورفيفُ حدودي
رفيقُ تفتُّحي
وصانعُ صمودي
فلا تهجر أغصاني
ولا تغادر وريدي
لأنَّكَ موسيقا السّحابِ
في هضابِ نشيدي
أينَ تمضي
وأنتَ الذَّاهبُ في الجـُـذورِ؟!
أينَ تذهبُ
وأنتَ الرٌفعُ لـي الجـُـسور؟!
أينَ تَّتجهُ
وأنا القادمُ منكَ
لأبحثَ عَنكَ
منذُ أن خُلقتُ
وَجَدتُ روحي تَسكنُ فيكَ
منذُ أن وجدتُ
وَجَدتُ روحَكَ تلبسُني
أنا خُطاكَ لو أنَّكَ رَحَلتَ
أنتَ أجنحتي لو أنّني تَشرَّدتُ
قلبي ينبضُ في صَدرِكَ
إن تفجَّرَ فيهِ الحبُّ
قلبُكَ يُرَتِّبُ لي دمي
لو أنَّ دمعةً طرقت نبضي
فلا تَبتَعِد
كي لا أَبعِدَ عنِّي
ولا تتركني
كي لا أترُكَ جُثَّتي تَندبُني
وأتبَعُكَ.*
إسطنبول
* المُفَدَّى..
يَزهُو بِبَذَّتِهِ العَسكَرِيّةِ
أَمَامَ الشُّهَدَاءِ
الّذِينَ نَفَّذَ فِيهُم
حِكمَ الإعدَامِ
لِخِيانَتِهُم العُظمَى
فَهُم نَغَّصُوا عَلَيهِ حَيَاتهُ
حِينَ هَتَفُوا بِصَفَاقَةٍ لِلحُرِّيّةِ
وَالحُرّيةُ كَلِمةٌ مَمنُوعٌ تَدَاوُلهَا
فِي كُلِّ البِلَادِ
فَقَد اِستُأصِلَت مِنَ اللُغَةِ
مُذ اعتَلَى رِقَابَ العِبَادِ
وَاحتَرَقَت
مِن عَلَى مَنَابِرَ إتِّحَادِ الكُتَّابِ
حَيثُ شُلِعَت مِن أَلسُنَةِ الشّعَرَاءِ
وَبُتِرَت مِن أصَابِعِهُم
مَمنُوعٌ عَلَى كُلِّ مُتَألّمٍ
أن يَقُولَ آهٍ
مَمنُوعٌ عَلَى الجَّائِعِ
أن يَضَعَ يَدَهُ عَلَى بَطنِهِ
مَمنُوعٌ عَلَى مَن يُهَانَ
أن يَتَذَكّرَ كَرَامَتِهِ
وَمَمنُوعٌ عَلَى العَرَبيّةِ المُغتَصَبَةِ
أن يَخطُرَ فِي بَالِهَا
أُسمَ المُعتَصِمَ
فِي عُرفِهِ وَهُوَ القَائِدُ
أنَّ الشَّعبَ عِبَارَةَ عَن عَبِيدٍ
الوَطَنُ لَهُ وَحدَهُ
وَكُلُّ مَن يَدُبُّ عَلَى أَرضِهِ
مُلكَاً لِرَغَبَاتِهِ
وَهَكَذَا تَسُودُ قَوَانِينِهِ
عَلَى الرَّعِيَّةِ الفَقِيرَةِ
بَلَا تَمَيّزٍ أَو اِنحِيَازٍ
الأَشقِيَاءُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسنَانِ المُشطِ
يَأكُلُونَ التُّرابَ
لِأنّهُم مِنَ التُّرَابِ
يَنَامُونَ عَلَى التُّرَابِ
لِأنّهُم مِنَ التّرَابِ
يُدفَنُونَ أَحيَاءَ تَحتَ الرٌُكَامِ
لِأنّهُم مِنَ التُّرَابِ
وَرِجَالَ الكَهنُوتِ المُنَافِقِينَ
أََفتُوا بِعِبَادَتِهِ بَدَلَ الله
فَهَوَ المُكَلَّفُ
بِتَعلِيمِ شَعبِهِ الطّاعَةَ والعِبَادَةَ
كُلُّ الزُّعَمَاءِ يَقِفُونَ مَعَهُ
فَقَد تآزَرُوا وَتَعَاضَدُوا
وَتَعَاوَنُوا وَتَسَاعَدُوا
وَاتَّفَقُوا
دَمُ الشُّعُوبِ مَهدُورٍ مُرَاقٍ
لَا قِيمَةَ لَهُ
فِي مَجلِسِ الأَمنِ اللَعِينِ
دَمُ الشُّعُوبِ نَتِنٌ
يَفُوحُ بِرَائِحَةِ التَّمَرُّدِ
مُورِقٌ بِأَزَاهِيرِ الحُرِّيَّةِ
وَلِهَذَا كَانَ اتّفَاقِهُم
مِن حَقِّ الحَاكِمَ العَرَبِيُّ
أن يَقصِفَ شَعبِهِ بِالبَرَامِيلِ العَميَاءِ
يَحِقُّ لَهُ اعتِقَالَ كُلَّ مَشبُوةٍ
وَيُذِيقَهُ مَرَارَةَ الاغتِصَابِ والمَوتِ
يَحِقُّ لَهُ
أَن يُشَرِّدَ مُوَاطِنِيهِ
مِن أََجلِ أَن يَتَّسِعَ الغُزَاةَ
وَيَحِقُّ لَهُ
تَدمِيرُ المُدِنُ السَّاخِنَةِ
المَسكُونَةِ بِالفِتنَةِ
وَأَن يَحرِقَ الأَرضَ وَمَا عَلَيهَا
وَأَن يَستُورِدَ جُيُوشَاً تُسَانِدَهُ
وَأَن يُفَرّطَ بِالسِّيَادَةِ
وَأَن يَبِيعَ المَوَارِدَ ذَاتَ الأَهَمِّيّةِ
وَلَهُ مِنَ الحُقُوقِ المُطلَقَةِ
أَن يَتَنَازَلَ عَنِ البَحرِ
بِحُجَّةِ أَنَّهُ مَالِحَاً
وَعَنِ السّمَاءِ
لِأنّهَا عَالِيَةٍ
وَعَنِ الهَوَاءِ
فَهُوَ مُغبَرٍّ
لَيسَ لَهُ غَيرَ كُرسِيٍّ نَخِرٍ
شعر مُتَدَاعِي الأَرجُلَ
عَرضَهُ لَيسَ لُهُ
شَرَفَهُ لَا يَعنِيهِ
كَرَامَتَهُ لَيسَت بِذِي بَالٍ
وَهَكَذَا
يَهتُفُ لَهُ المُتَخَاذِلِينَ
الجُّبَناءُ
عَاشَ القَائِدُ لِلأَبَدِ.*
إسطنبول
* مؤامرة شديدة التّدبير..
أحرقتُ ذاكرتي
بظلمةِ الغيابِ
ودفنتُ أحلامي
بصحراءِ طيفِكِ
وصرتُ لا أرى في الحبِّ
سوى الجنونِ
أعلنُ براءتي من عشقِكِ
لقد استعدتُ عافيتي
وأقلعتُ عنِ الاحتراقِ
ما عدتُ أهتفُ لطيفِكِ
في وحشةِ الليالي
ما عدت أنتحرُ عندَ بابِكِ
أو أطرقُ نوافذَ صمتِكِ
أنتِ لا شيءَ بالنسبةِ لي
بعدَ الآن سأهاجمُكِ
وأشكِّكُ الآخرينَ بجمالِكِ
سأقولُ عن رحيقِكِ
إنه لا يثيرُ الفراشاتِ
وأدّعي أن البحرَ
أوسعُ من عينيكِ
والشّمسَ أكثرُ إضاءةً منكِ
وسأمتدحُ الشّفقَ نكايةً عنكِ
وأشهدُ للندى
على أنّهُ أنقى من أنفاسِكِ
لن أتركَ المدى لكِ وحدَكِ
سأحرضُ القمرَ أن ينافسَ نورَ وجهِكِ
سأعملُ كلَّ ما يسيءُ إليكِ
ويقللُ من عظمتِكِ
سأطلبُ من القصيدةِ أن تنحازَ ضدَّكِ
وأرجو الفراشاتِ ألا تطاردَكِ
وأتوسّلُ للنهرِ
ليكونَ أكثرَ عذوبةً منكِ
سأنتقمُ منكِ
وسيكونُ الانتقامُ موجعاً
حينَ أمسكُ قلبي بأظافري
كي لا يركضَ خلفَكِ
حينَ تشرقين.*
إسطنبول
* اختطاف..
أنتِ الوحيدةُ في هذا العالمِ
التي تعيشينَ بدونِ قلبٍ
وبلا عقلٍ
وبروحٍ مشلولةِ الآفاقِ
وأنتِ لا تبصرينَ الحبَّ
عمياءُ التّنفُّسِ
متهدِّمةُ الضّوءِ
قاسيةُ النّدى
متحجِّرةُ الفضاءِ
لا تمسحينَ دموعَ القصائدِ
ولا تكترثينَ لانتحارِ اللهفةِ
تُجافينَ البوحَ
وتهزئينَ من شواطئِ الآهاتِ
أنتِ تهربينَ من أُنوثتَكِ
تُيبِّسينَ وردَكِ
تغتالينَ عطرَكِ
وتعتقلينَ فراشاتِ الابتسامِ
وأنا أقتربُ من جحيمِكِ
يشدُّني إليكِ غبائي
أحبُّكِ..
وأدركُ أنَّكِ حمقاءُ
لن يهمَّكِ احتراقي
قصائدي تطعمينَها سلَّةَ المهملاتِ
تدوسينَ على نبضي
وتصعدينَ إلى سريرِكِ
لتنامي مرتاحةَ البالِ
أنا لا ألومُكِ أيّتها التّمثالُ
أحزنُ على حظِّ قلبي
على مستقبلِ روحي
على تعثُّرِ عمري
منذُ عرفتُكِ
لم يعد أمري بيدي
حاولتُ كثيراً الابتعادَ
لكنَّ الليالي متآمرةٌ عليَّ
والشّمسُ لم تكن يوماً
إلى جواري
فكيفَ أنساكِ؟!*
إسطنبول
* سامحتك..
أنا في كلِّ يومٍ
أطعمُ قصيدتي أوجاعي
وأتفقّدُ الدُّروبَ
لأزرعَ على ضفافِها
أشواقي وحناني
وأسقي السّماءَ الشَّاحبةَ
من دموعي
أعطي للهواءِ أنفاسي
وأمنحُ للندى همساتي
وأقولُ للأرضِ تريَّثي
سأهديكِ قريباً جثماني
أنا أقشِّرُ عن روحي
لحاءَ الموتِ
لأقدِّمَ للكلماتِ ثماري
وأنتِ غائبةٌ عنِ احتراقي
ترتشفينَ وميضَ المدى
تتلهَّينَ مع سحرِ المرايا
يا ينبوعَ البهاءِ والإشراقِ
لا يعنيكِ تفتُّتُ أيّامي
ولا جوعُ لهاثي
ستسألُكِ عنّيَ الليالي
ويفطنُ قلبُكِ لغيابي
وسترجُمُكِ المسافاتُ بالوحشةِ السّوداءِ
تعالَي نهدمُ هذهِ العتمةَ
ونهدُّ أسوارَ الخوفِ
سيعاتبُكِ قبري إن صادفَكِ
وقلبي سيرفعُ بحقِّكِ الشّكاوي
سيثأرُ لي منكِ سريرُكِ
ويقضُّ مضجعَكِ
وسترميكِ النّجومُ بالشهبِ
أنا جلبتُ لكِ الماءَ
من الكوثرِ
وأنتِ قدَّمتِ لي
ملحَ السّرابِ
كم أخشى عليكِ
من عقابِ الله حبيبتي
ولهذا أراني مجبراً
على مسامحتِكِ.*
إسطنبول
* مقاطعة..
لو قيلَ لي
الحبُّ يقفُ في تلكَ الجِهةِ
سأذهبُ للجهةِ المعاكسةِ
لو قيلَ لي
الحبُّ يسألُ عنكَ
سأتظاهرُ بعدمِ السّماعِ
لو قيلَ لي
الحبُّ يقتربُ منكَ
سأُولِّي الأدبارَ
مثلَ أرنبٍ مذعورٍ
لو قيلَ لي
الحبُّ يطرقُ بابَكَ
سأقفلُ بابي بالسكاكينِ
لو قيلَ لي
الحبُّ يشبهُ الوردَ
سأنامُ في الصّحراء
لو قيلَ لي
الحبُّ يسكنُ النّدى
سأتركُ للعطشِ
أن يفتكَ بقصيدتي
لو قيلَ لي
الحبُّ يقطنُ الأرضَ
سأقفزُ إلى السّماءِ السّابعةِ
لو قيلَ لي
الحبُّ يعيشُ في الضّوءِ
سأختارُ العيشَ
في العتمةِ الأبديةِ
لو قيلَ لي
قلبُكَ يهفو للحبِّ
سأستلُّ خنجريَ المسمومَ
وأطعنُ الخائنَ
لو قيل لي
روحُكَ تتوقُ للحبِّ
لأشعلتُ النّارَ
في رحابِ جنوني
لو قيلَ لي
الحبُّ سيعقدُ معكَ الصّلحَ
سأكونُ (الزّيرَ سالم)
ولن أصالحَ. *
إسطنبول
* مغترَّةٌ بحبِّي..
تهشّمت ضحكةُ البلّورِ
حينَ لوَّحتْ لكِ نافذتي
وأنتِ لم ترفعي رأسَكِ
وتتفقَّدي بكائي
مدخلُ العمارةِ كادَ يتبعُكِ
لكنَّ كبرياءَ الدَّرجِ
قالَ لهُ:
- تماسك
إنها تمرُّ بدونِ سلامٍ
وصرخَ الرَّصيفُ بكلِّ أوجاعي
لكنَّكِ كنتِ منشغلةً عنهُ
الأرضُ من تحتِكِ تهمسُ بنبضي
أشجارُ الطّريقِ رفرفت بحنيني
وأعمدةُ الكهرباءِ انحنت لضوئِكِ
الهواءُ كان صاغراً
يتنفّسُ عرقَكِ بشغفٍ
حتّى أنَّ المارةَ انتبهوا
على خيبةِ قصيدتي
وهي تقطعُ عليكِ الطّريقَ
كانَ المساءُ يراقبُ المشهدَ
ودموعُهِ على وشكِ الهطولِ
والسّماءُ في الأعالي
كانت ترسلُ لكِ عتابَها
كانَ بإمكانِكِ أن تمسّدي
للقطّةِ المبحوحةِ المواءِ
وكنتِ تستطيعينَ أن تهدِّئي
من تشنّجاتِ الليلِ
لكنَّكِ في كلِّ مرَّةٍ
تعبرينَ الشّارعَ بتغطرسٍ
مغترَّةً بحبِّي
واثقةً
من أنَّ القصيدةَ
سوفَ تأتي
وأنَّني سأمنحُكِ فرصةً أخرى
على أملِ الاعتذار.*
إسطنبول
* مذكّرةٌ لاعتقالِكِ..
سأرفعُ دعوتي عليكِ
وأفضحُ أمرَكِ
أقسمُ.. ألاّ أتراجعَ
مهما لاقيتُ عتاباً
وواجهتُ ضغوطاً
نعم..
سأطالبُكِ بعمرٍ أضعتُهُ
تّقرّباَ منكِ
وبتعويضٍ هائلٍ
عن عذاباتي وقسوةِ ليلي
وعن قصائدي التي هدرت حبرَ قلبي
ارتكبت بحقّي مآس
أماتتني لمراتٍ
دفعتني للانتحارِ
تعذَّبتُ.. تألَّمتُ
وعلى شواطئِ حبِّكِ تهالكتُ واحترقتُ
وأنتِ أمامَ مرآتِكِ تضحكينَ
وأمامَ النّاسِ تبد
ينَ غيرَ مكترثةٍ
وفي الخفاءِ
تعملينَ على سحري
تلجئينَ للمشعوذينَ
لأجنَّ بحبِّكِ
وكي لا أصحوَ مثقالَ لحظةٍ
كشفتُ الآن أمرَكِ
تأكّدتُ من أفعالِكِ
ولا أتّهمُكِ اعتباطاً
أو دونَ أدلَّةٍ
قولي لي
لماذا أراكِ أجملَ النّساءِ قاطبةً؟!
لماذا يتشبّهُ الوردُ بكِ كلّما تفتّحَ؟!
ولمَ الهواءُ حولَكِ يكونُ معطّراً؟!
ولمَ الضّوءُ يهفهفُ لوجودِكِ ؟!
والأرضُ تكونُ أكثرَ اخضراراً
تحتَ خطواتِكِ؟!
والماءُ بحضورِكِ يزدادُ عذوبةً ونقاءً؟
والقمرُ يتوهّجُ أينما تكونينَ؟!
ما معنى أن يكونَ المدى أكثرَ رحابةً
إن طلِّ وجهُكِ؟!
ما معنى أن تنحنيَ الأشجارُ
حينَ تدخلينَ الحديقةَ؟!
وما تفسيرُ
ارتباطِ النّدى باسمِكِ؟!
وقصائدي تأبى الولادةَ
إن لم تكن عنكِ؟!
كلُّ شيءٍ واضحٌ وبائنٌ
ِ تتعاملينَ مع السّحرةِ
فليسَ من المعقولِ
أن أحبَّكِ بهذا القدرِ
وتكونينَ نجمةَ هذا الكونِ
دونَ سحر!!
أبعدي سحرَكِ عنٌي فإنّي تعبتُ
قولي لعطرِكِ أن يغادرَ أنفاسي
أخبري النّسمةَ أن لا تأتيني
على شكلِ رقتِكِ
دعي البحارَ تغادرُ عينيكِ
حرّري بسمتَكِ من وميضِها
كي أراكِ امرأةً عاديّةً
ربما أستطيعُ التحرّرَ منكِ
ومن سحرِكِ القاتل.*
إسطنبول
* لا كلامَ عندي..
لا كلامَ عندي أقولُهُ لكِ
لقد قلتُهُ كلَّهُ آلافَ المرّاتِ
كلماتي صارت تتحرّجُ منكِ
أحرفي انتابَها يأسٌ شديدٌ
والمعاني ذَبلت معانيها
شابت لغتي في القصيدةِ
وأنتِ لم تقرئي خفقانَ قلبي
ولم يهزُّكِ حبّي يوماً
كأنَّ قلبَكِ مختومٌ بالشّمعِ الأحمرِ!!
وعينيكِ لا تبصرانِ وردي!!
كم بكت أقلامي في الليالي؟!
وكم أحسَّت دفاتري بالمرارةِ؟!
حتّى مصباحُ غرفتي انهارت أعصابُهُ
وأنتِ غافلةٌ عن آلامي المبرحةِ
يا ويلَ عمري يومَ تعلّقتُ بكِ
ظننتُكِ وردةً بلا شوكٍ
نسمةً مغسولةً بشهدِ النّدى
كأنّكِ وُجدتِ لتقتليني
بلا ذنبٍ لي
تنثرينَ التَّعاسةَ في طريقي
وتشعلينَ النّارَ في حقولي
تَسحَلينَ كلماتي
على أشواكِ الشّوقِ
أحبُّكِ وأعرفُ أنَّكِ سرابٌ
بيني وبينَكِ صحارى المستحيلِ
أنتِ النّدى وأنا اليباسُ
أنتِ المدى وأنا القوقعةُ
أعطيني فرصةً لأهربَ من قلبي
وأتخلَّصَ من سُكنةِ روحي
وأغادرَ دمي بعيداً
وأتنصَّلَ من آثامِ قصائدي
وأفرَّ من هذهِ الأرضِ
وأنفذَ من أصابعِ السّماءِ
وأركضَ في براري العدمِ
هناكَ..
يمكنُ لي أن أستريحَ
حيثُ أحتمي
من سطوةِ حبِّكِ الآسرِ.*
إسطنبول
* سنّة الشّيطانِ..
وأرى الليلَ يمشي
في طرقاتِ البـردِ
يتصيّدُ لهفةَ العُشّاقِ
وقصائدَ الوردِ الذّبيحِ
والعتمةُ تسعى
إلى صحارى القلوبِ
التَّائهةِ عن نبضها
في هزيعِ النّـارِ
الظّلامُ يطاردُ أحصنةَ الرّجاءِ
جـاءَ ليقضَّ مضجعَ الأحلامِ
في يديهِ الهواجسُ
وفي صدرهِ العواءُ
يراقبُ نوافذَ الأفئدةِ
ويدسُّ السٌّمَ في القبلاتِ
لا يشفقُ على آهاتِ الحنينِ
يتربّصُ بالهمساتِ
ويخنقُ فراشاتِ الانتظار
أعدّ للحبِّ مشانقَ
ونصبَ الفخاخَ للندى
مبتغاهُ دمُ الابتسامةِ
هو من نسيجِ الضّغينةِ
نَمَا في قلبهِ الضّلالُ
يريدُ اغتيالَ الضّوءِ
ليرتفعَ على أكتافِ الموتِ
متوَّجاً بالمقابرِ
ويصعدَ سلَّمَ الرّذيلةِ
إلى أعالي المناصبِ
لينحني لهُ الذّلُ
وتركعُ أمامهُ النّعوشُ
هو ليلُ الخديعةِ
أطلّ من جحرِ الأفاعي
والتفَّ على أعناقِ العربِ
حاكماً عليهم بسنَّةِ الشّيطانِ
وأعرافِ الجَاهليّةِ.*
إسطنبول
* جنازة الزّمنِ..
يفتّشني السّؤالُ عن خبايا صمتي
يحفرُ في روحي أخاديدَ النّارِ
وأنا أقارعُ مسافاتِ العتمةِ
في قلبي يتراكمُ دمعُ الغبارِ
أصيحُ على اسمي علَّهُ يعرفُني
لكنَّ دميَ يطردُ أوردتي
ويقفزُ على جدرانِ صرخاتي
يريدُ فضاءَ رمادي
سيفتحُ جرحي للسماءِ العاثرةِ
ويدفنُ جثَّةَ الرّيحِ في اختناقي
ألملمُ الليلَ عن وجهِ وحشتي
وأقولُ لصحراءِ شفتّيَ
هيّا اشربي علقمَ النّوافذِ
أكلّمُ أحصنةَ البردِ
اهجعي إلى غربتي
فأنا توأمُ العدمِ
أمشي في جنازةِ الزّمنِ
أحملُ أحجارَ حلمي
فوقَ انكساراتي النَّابتةِ
ملحَ الهزيمةِ
وأنا أدقُ أبوابَ التّلاشي
أسألُ عن مدفنٍ للأرضِ
وأعلنُ أمامَ الفناءِ
عن موتِ العروبةِ قاطبةً
ماتتِ الأكوانُ
وانتحرَ الأزلُ
يومَ بعتُم سوريةَ.*
إسطنبول
* مقاومة..
ابتعد عنّي
بِقَدْرِ ما في الكونِ
من مساحاتٍ ومسافات
ولتكن بينَنا آلافُ الحواجزِ والسّدودِ
وجدرانٌ شاهقةُ النّسيان
فأنا لا أريدُكَ
ولا أرغبُ بتذكّرِكَ
أنتَ أكثرُ مَن سبَّبَ ليَ الأوجاعَ
وأحرقَ أيّامي
بدونِ أدنى شفقةٍ
كم رددتَني مكسورَ الخاطرِ
مِن على أبوابِكَ
وكنتُ أنحني أمامَكَ
باحترامٍ وخشوعٍ
ودموعي تنهمرُ على بساطِكَ
وجدتني وحيداً
آثرتَ إذلالي
رأيتني ضعيفاً
طابَ لكَ تعذيبي
ابتعد..
بقدرِ ما يتواجدُ المدى
أزِح من طريقِ روحي
ارجع عن دربِ قلبي
وارحل بعيداً عن دمي
فأنا منعتُ مرورَكَ
من بحرِ قصيدتي
لا مكانَ على شواطئِ
انهزامي
آهِ يا حبُّ
كم أنتَ قتلتَني؟!
وكم أنتَ لم تعبأْ بي؟!*
إسطنبول
* اندفاع..
أحياناً أكرهُ نفسي
لأنّي أكتبُ عنكِ
ما كانَ عليَّ أن أفضحَ ضعفي
وأكرسَ لغتي لأجلِكِ
قصائدي خذلتني
وأضَرَّت بي وبحبِّي
فلو كنتُ ذكيَّاً كما ينبغي
لقلتُ عن شمسِكِ بالشمعةِ
وعن سحرِكِ بالعاديٌ
وعن بحرِكِ بالمالحِ
وعن عطرِكِ بالطبيعيّ
كانَ عليَّ أن لا أكثرَ من اهتمامي بكِ
أن أخفيَ العظيمَ من إعجابي
وأضبطَ دقاتِ قلبي بصرامةٍ
أهذّبَ اندلاعَ لهفتي
أقمعَ براكينَ جنوني
لم يكن من الضّرورةِ
أن تعرفي حجمَ حبِّي كلّه
كانَ يفترض
أن أخفضَ صوتَ عطشي
وأصبَّ الثّلجَ على ناري
وأن ألجمَ رعشةَ صوتي
حينَ ألقي عليكِ التّحيّةَ
أواري شوقَ عيوني
أمنعَ عن أصابعي الارتجافَ
أقيّدَ قلبي حينَ تمرِّينَ من قربي
وأصلبَ روحي حينَ تبتسمينَ
وأكبِّلَ دمي لمَّا تتكلَّمينَ
ما كانَ عليَّ أن أحبَّك
بهذهِ الطّريقةِ
أعطيتُكِ كلَّ مفاتيحي
سمحتُ لكِ أن تبصري دمعي
كانَ يجبُ أن أحبَّكِ بتعقّلٍ
وأن أتحكَّمَ بعواطفي
بعضُ هذا الحبِّ يكفي
بضعُ قصائدَ عنكِ تكفي
الآنَ..
فاتَ الأوانُ
انفضحَ أمرُ هيامي
وصرتُ أنا بالنسبةِ إليكِ
مجرَّدَ شاعرٍ
وجِدَ ليكتبَ عنكِ
ويرضي غرورَكِ
أمَّا عذاباتي ودموعي
فهي..
لا تعني لكِ شيئاً
ولا تحرِّكُ فيكِ
ساكناً.*
إسطنبول
* أنثى..
سرَقني حبُّكِ من أيَّامي
كنتُ صغيراً وطائشاً
لم يُسنحَ لي أن أفكِّرَ
أو آخذَ برأيِ مَن يخشى عليَّ
كانَ الأمرُ خاطفاً
مُذْ رأيتُكِ داهمَني سحرُكِ
لَمْ ألتفتْ خلفي
حينَ توحَّدتُ بظلِّكِ
كانَ لُهاثي يُربكُ خطواتي
وقلبي يصرخُ ملءَ نبضِهِ
اجتزتُ خلفَكِ ألفَ كرةٍ أرضيَّةٍ
وأعماراً كثيرةً
كنتُ أموتُ فيها بشدَّةٍ
ثُمَّ أنتفضُ
وكانَ عليَّ أن ألفتَ انتباهَكِ
كي تبادليني الحبَّ
لكنَّنِي أمامَ فتنتِكِ
وروعةِ أوصافِكِ
أحسَسْتُ أنَّ أدواتي ضعيفةٌ
وقدراتي متواضعةٌ
وأنتِ تستحقِّينَ الكونَ بأكملِهِ
والجنَّةَ بسائرِ ما فيها
فماذا عليَّ أن أفعلَ؟!
لأستحوذَ على حُبِّكِ
وأتَسَلَّلَ بِخفَّةٍ إلى قلبِكِ
كَشَفتُ لكِ عن بساطتي
قلتُ:
ـ لَعَلَّ دُموعِي تسترحمُ فُؤادَكِ
لَعَلَّ وفائي يَشْفَعُ لي عندكِ
لَعَلَّ قصائِدي تُؤثّرُ بِكِ
لَعَلَّ احتراقي يُثِيرُ اهتمامَكِ
لكنَّكِ أُنثى
تُحبُّ الأقوياءَ
ويُغويكِ الأثرياءُ
وتُعجَبينَ بالكاذبينَ
الخبثاء!!!*
إسطنبول
* مطرُ اللهفةِ..
يشربُني رملُ الطّريقِ
ويأكلُ ثمارَ حنيني
ويستعرُ شبقُ المسافاتِ
تخطفُ منّي بُحّةَ خطايَ
وتنكمشُ الأرضُ عن لهاثي
أسرقُ من دمعتي ظلالَها
ومن آهتي فضاءَها
ومن نبضي أركانَ الجِهاتِ
لأطلقَ تلويحتي لعصافيرِ الرَّمادِ
موجُ الصّحارى يعصفُ بملحِ النَّزيفِ
ويشدُّني إليكِ موتي
على أكتافِ انكساري
يحملُني مطرُ اللهفةِ
سأزرعُ في جيدِكِ جمري
وأغسلُ وجهكِ بجوعي
وأوزِّعُ على أصابعِكِ آفاقي
يا ينبوعَ أنفاسي
ألفُ كونٍ لا يتَّسعُ لعشقِكِ
ألفُ عمرٍ لا يكفيني
وأنا أهمسُ لعينيكِ
سماءُ قصيدتي أنتِ
شمسُ بسمتي المورقةِ
ندى جحيمِ الغيابِ
في حضنِكِ يترامى المدى
ومن صوتِكِ تتهادى الجنّةُ
أنتِ قمرُ الظّلماتِ الضّاريةِ
وهجُ الرُّوحِ في عرائشِ التَّكوينِ
ضحكةُ الأزلِ
لشهوةِ الأبدِ
سأكتبُ على صفحةِ الاحتراقِ
وعلى رموشِ الوجودِ
وعلى شهقةِ الوميضِ
أحبُّكِ.. أحبُّكِ.. أحبُّكِ
يا دُرَّةَ الأمجادِ
ويا ياقوتةَ الأنوارِ
يا حلب.*
إسطنبول
* تحذير..
القِمةُ تذكّرني بالانحدارِ والهاويةِ
وعليّ أن أتوخّى الحذرَ
وأنتبهَ من المنزلقاتِ والسّقوطِ
فهناكَ مَن يحاولُ أن يعثّرَني
ويرمي بي إلى قاعِ الحضيضِ
يتظاهرُ بمحبتي
ويدّعي صداقتي
ويأكلُ من صحني
انتبه من نفسِكَ يا أنتَ
فأنتَ تملكُ أصابعَ من نورٍ
وقلباً من ندى
تعبتَ كثيراً في حياتِكَ
بذلتَ جهوداً مضنيةً
تسلّقتَ على جدارِ الموتِ
أشعلتَ أيامَكَ لتضيءَ عتمةَ المجهولِ
حاربتَ الانهزامَ
تحدّيتَ متاريسَ الخنوعِ
وكبرتَ حرفاً حرفاً
نموتُ خليَّةً خليّةً
ترعرعتَ في خضمِّ العاصفةِ
وصعدتَ سلّمَ الحلمِ
لم تجد من يساندُكَ
وأنتَ تعدُّ جراحَكَ
لم تلقَ يداً تحنو
على أوجاعِكَ
فكم من مرّةٍ نجوتَ
من محاولاتِ الاغتيالِ؟!
وتنبَّهتَ في اللحظةِ الأخيرةِ
من الدّسائسِ والخططِ الخبيثةِ
فلا تثق بصغارِ الشّأنِ
وضعافِ النّفوسِ
الذينَ تأكلُهمُ الغيرةُ من قامتِكَ
هم أقزامُ المواهبِ
قلوبُهم مفطورةٌ على الحسدِ
والشرِّ والضّغينةِ
أبعدهم عنكَ
لا تلتقِ معهُم
وتجنّب فحيحَ محبّتهِم
قَدَرُ الكبيرِ
أن يُلسَعَ
وأن يُلدغَ
وأن يُرمى بالمكائدِ.*
إسطنبول
* شجرُ الفرحِ الآتي..
على كاهلِ دمعتي
تنامُ المسافاتُ
وعلى بوحِ قلبي
تحطُّ أحجارُ الاحتراقِ
وتنمو في شهقاتِ دمي
صحارى الاغترابِ
بداخلي تمشي
عتمةُ الصّقيعِ الجَارفِ
وعلى تلالِ روحيَ الصّامتةِ
تدوي صرخاتُ الأفقِ
جرحي يهتفُ
من أصقاعِ النّزيفِ
أنا يباسُ الغيمِ
في حلقِ السّماءِ
وترابُ النّدى الأصم
أحلَّقُ فوقَ انكساري
لأمسحَ عن أغصانِ قصيدتي
جداولَ الفجيعةِ العارمةِ
يعاندُني الهواءُ الحرونُ
يتسمَّرُ خارجَ نوافذي
وأصابعُهُ تسدُّ عليَّ النّهوضَ
لترمي السّماءُ فوقَ رؤايَ
جلبابَها الأسودَ
تعضُّ ارتجافي
وتدمي لوعةَ الإعصارِ
في هروبي
يشدُّني قلقُ الخواءِ
ينثرُني فوقَ صفيحِ الذّكرياتِ
أفتحُ بوَّابةَ القفارِ
وأطلُّ على جمرِ الهواجسِ
لأقولَ بافتخارٍ :
- الآنَ أنجزتُ ثماري
فالتهم ياموتُ قشوري
وفضلاتِ ولادتي النّابتةِ
لأنَّ قصائدي
شجرُ الفرحِ الآتي.*
إسطنبول
* عتمة الغربة..
ثمَّ وجدتُّني أسقطُ
من قِمَّةِ أحلامي
أتهاوى في عتمةِ الغربةِ
أصرخُ ملءَ دمعتي
أتمسَّكُ بضفائرِ القصيدةِ
أحرفي لهيبُ الرُّوحِ
آهتي جمرُ الوحشةِ
أستندُ على سكِّينِ الحنينِ
وأنادي
وطني المبتور الضّحكةِ
المذبوح الوردِ
المضمّخ بشبقِ الموتِ
يا أرضَ الجَنّةِ
قد غزاكِ الجَحيمُ
جهنَّمُ سوّرت فضاءَ الحبِّ
وأنا أطرقُ جدارَ العدمِ
علَّ نسمةً تفلتُ منهُ
أو يصهلُ قلبُهُ بالنّدى
نقارعُ الموتَ بأصابعِ الياسمينِ
نستظلُّ بالخياناتِ
وتنمو أحصنةُ الكرامةِ
وسطَ مؤامراتِ الأحبَّةِ
كلُّ مَن هو حولَنا يأكلُ نبضَنا
والسّماءُ تغطّي الدَّمَ
تحجبُ الحقيقةَ عنِ الزَّمانِ
وحدَهُ الموتُ يعرفُ الأسرارَ
والأرضُ وحدَها تدركُ
ما يضمرُ لها من انقساماتِ
وراياتٍ شتَّى
وأناشيدَ متعدِّدة اللغاتِ
الحربُ فيما بيننا
ومن أمامنا وخلفنا
وتحتنا وفوقنا
ومن كلِّ الجِهاتِ
عبرَ الماءِ
والهواءِ
والضوءِ
وعبرَ بحارِ
الصّمت.*
إسطنبول
* أخلو إلى قلبي..
أخلو إلى قلبي لأراكِ
وألمسُ بنبضي رائحتَكِ
وأشتمُّ ندى الصّحراءِ
في تعرُّقِ صمتِكِ الأبيضِ
وأهمسُ لضفائرِ راحتيكِ
أحبُّ صخبَ غيابِكِ عنِّي
لأنِّي أسرجُ دمي
لأقفزَ إلى سماءِ القصيدةِ
ويمتطي البرقُ أصابعي
فتهطلُ الكلماتُ
من سدرةِ روحي اللائبةِ
تبحثُ عنِّيَ الدُّروبُ
تدلُّها عليَّ أعشابُ النّارِ
وتصطفقُ أمواجُ الحنينِ الهادرةُ
تحطّمُ سواترَ الغربةِ
يُسكَبُ في دفاتري
قمحُ الاشتعالِ
وذهبُ المطرِ
حيثُ تَصِفُكِ أرضُ اللهفةِ
بياقوتةِ الشَّفقِ
وزمرِّدِ اللهبِ
أنتِ يا أنثى الماءِ
يا سحابةَ السُّكَّرِ
وملحَ الرَّغبةِ
أحبُّكِ
وحُبِّي يفيضُ على الوردِ
وعلى أنفاسِ قوسِ قُزَحٍ
وعلى تنهيدةِ الكونِ
وشبقِ المدى الممتدِّ
من شوارعِ الجَحيمِ المستعرِ
إلى ساحاتِ الجَنَّةِ الهانئةِ
أخلو إلى قلبي
حينَ يخلو بيَ الشَّوقُ
والشَّوقُ دائماً
تختلي بهِ قصيدتي
لكنَّ القصيدةَ لا تخلو من دمعتي
ودمعتي
تخلو من التَّريثِ والانتظار.*
إسطنبول
* دفاترُ النَّارِ..
أفتّشُ بينَ بياضِ أوراقي
عن مقعدٍ لسوادِ غيابي
وأغيبُ عن موتي أزماناً
وأنا مندسٌّ بينَ شرايينِ
قصيدتي الأرملةِ
بعدَ انفصالي عن لغتي
لغتي يُحكيها الصَّمتُ
وما تصادفُ من صدى السّكوتِ
أكلِّمُ صقيعَ الأصابعِ
أحرضُ ما يسكنُها من أبجديّةٍ
فتشهقُ في يباسِها
سراديبُ الرّمادِ
كان لأحرفي وهجُ الضّحكةِ
وفضاءٌ من عسلِ السّحرِ
ومطرٌ من نشوةِ التَّفتّحِ
وكان لقصيدتي ما شاءت
مِن عطرِ المدى
حيثُ الأفقُ يلتفُّ على خصرِها
كساعدِ عاشقٍ يطوِّقُ وردتَهُ
لم تكن ذاكرتي وقتَها
فقدت أغصانَها
ولم تكن جذوري
اختطفت من صلصالِ الشّمسِ
أصادقُ وحشتي
حينَ وحشتي تخرجُ عن غيابِها
أصافحُ أحرفَ صمتِها بضراوةٍ
أستأنسُ بشهيقِها
أتغطّى بلحافِ السّكونِ
وأتغلغلُ في عشبِ دمعِها الدٌامي
أنا العاثرُ على تبعثري
في أرجاءِ القيظِ
الشَّاربُ من أكفِّ السّرابِ
والحالمُ بمَن يسألُ عنّي
ويناديني
ولو مِن خلفِ السَّديمِ
أمدُّ يدي
لأيّةِ نجمةٍ يخطرُ لها أن تصافحَني
أفتحُ نافذتي
لأيِّ بصيصِ ضوءٍ
وأشرعُ أنفاسي
لأيّةِ نسمةٍ تقتربُ
أكلت لحاءَ آهتي
جدرانُ الغربةِ الصّمّاءُ
شربتْني صحارى الجَحِيم
وما زالَ قلبي يرهفُ الانتظارَ
ويصيخُ النّبضَ للمدى المشنوقِ
يتلمَّسُ جسدَ الدُخانِ
ويقبضُ على فلولِ السّحابِ
موتٌ أطبقَ على أسطري الخاويةِ
وجعٌ يتضخّمُ في الذّاكرةِ
وقبرٌ لا يتَّسعُ لأشواقي
فمَن يأخذُ عنّي جثتي الصّاهلةِ؟!
مَن يحملَ عنِّي دمعتي الصّاخّبةَ؟!
وبمَن أستجيرُ مِن ناريَ الرّمضاءِ؟!
وأنا أذكرُ بأنِّيَ
كنتُ محاطاً بقدرٍ وفيرٍ
من الأحبّةِ والأصدقاء
قبل أن تنشبَ معاركُ الإبادةِ
صارَ لزاماً على الشّقيقِ
أن يجزَّ عنقَ توأمِهِ
وعلى الصّديقِ أن يفجِّرَ
صدغَ مَن كانَ ينادمُهُ
وعلى الجَارِ أن ينسفَ
منزلَ مَن كانَ يجاورُهُ
حربٌ ضروسٌ شبَّت في البلادِ
تشعَّبت ، توسَّعت ، وامتدَّت
واستطالت، وخيّمت
على زرقةِ السّماءِ
وملحِ البحرِ
وشتائلِ الأرضِ
والقاتلُ والقتيلُ هما يدركان
أنّهما في هذهِ الحربِ
لا ناقةَ لهما فيها ولا جمل.*
إسطنبول
* نافذةُ الموج..
تَفتَحُني نافذتي
لتطلَّ على اختناقي
وتتنفَّسَ عتمتيَ الباكيةَ
وأرى جرحي يمدُّ يَدَهُ
تنبعثُ استغاثاتُ الدَّمِ
وقلبي يثبُ كذئبٍ أكلَهُ الجُوعُ
ترفرفُ خلايايَ
تنتزعُ ضحكتَها
من بئرِ العطشِ
أنفاسي تنتصبُ على ساقيها
أوردتي توقظُ أغصانَها
ودمعتي تكفكفُ تجاعيدَ الحُرقَةِ
وتفتحُ لي القصيدةُ دفتري
تعطي لحبرِ الرُّوحِ ثمارَ الكلامِ
أحشو سجائري بنبضي
وأشعلُ فتيلَ الذِّكرياتِ
ستنفجرُ آهةُ الغيمِ
وتمطرُ غربتي صخبَ الجهاتِ
تتزاحمُ على خطواتي الدُّروبُ
تغطِّيني حَيرَتي بالأجنحةِ
وأنا أهفو إلى قهوةِ النَّدى
ألجمُ سعيرَ جنوني
وأقتربُ من ضحى الياسمينِ
أتسابقُ مع حنيني
رغبتي أحصنةٌ
ولهاثي موجٌ جامحٌ
يرتطمُ بالمدى
فَمَن يمنعني مِن عناقِ الوطنِ
حينَ السّماءُ تفتحُ لي حضنَها
وأنا أمتطي إرادتي
وأمتشقُ حبلَ المشنقةِ؟!*
إسطنبول
* قلبي..
لا رجعةَ لكَ لعندي
أنتَ مطرودٌ من حياتي
ماعدتُ أعترفُ بكَ
انتهى كلُّّ شيءٍ بيننا
مذ تحدَّيتَ إرادتي
وتسبَّبتَ لي بالمتاعبِ والألمِ
إنِّي أعلنُ وعلى رؤوسِ الأشهادِ
لن أشفقَ عليكَ بعدَ اليوم
ولن أسامحكَ مهما اعتذرتَ
وأبديتَ ندمكَ الشّديدَ
فما فعلتهُ بي ليسَ بالشيءِ القليل
سنواتٌ طويلةٌ وأنا بسببكَ
أعيشُ القهرَ والاختناق
أنامُ دامعَ الرّوحِ
أنزفُ أوجاعي على جسدِ القصيدةِ
وأنتَ كنتَ تعرفُ
أن لا أملَ هناكَ
فلمَ هذا الذّهابُ؟!
ولمَ فرضتَ عليَّ التّنازلَ؟!
كنتُ أنا أميرَ العذارى
يتهافتنَ على ابتسامتي
يذُبنَ من كلماتي
يتعاركنَ للوصولِ إليَّ
وأنتَ تعلّقتَ بندى السّراب
وهمٌ أطاحَ بعزَّةِ نفسي
جرَّحَ كبريائي
وضعني أمامَ مرآتي
إنِّي أتَّهمكَ بالجنونِ
سيٌِدُ الفوضى أنتَ
لا تحسبُ حساباً للنتائجِ
أوقعتني في حبٍّ عقيمٍ
وجَّهتُ لكَ النّصحَ
رجوتكَ
حذّرتكَ
أنذرتكَ
انحنيتُ على قدميكَ
وأنتَ شاهدٌ على عذاباتي
حاولتُ جاهداً معكَ
بذلتُ ما فوقَ استطاعتي
في كلِّ يومٍ كنتُ أطرقُ بابها
قصائدي عنها تتمنّاها الورود
والينابيعُ
وسائرُ الفراشاتِ العذارى
هي..
لم ترمق نبضكَ بابتسامة
لم تحنُ على قصيدةٍ منكَ
وأنتَ عنيدٌ في حبِّكَ
لا تقرُّ بالهزيمةِ
وأنا لستُ من ينساقُ خلفَ قلبهِ
أعطيتكَ الكثيرَ من الفرصِ
طاوعتكَ عمراً بأكملهِ
فماذا تريدُ
أيُّها القلبُ المشرَّدُ؟!
ماذا تريدُ
وهي لا تردُّ على ندائي؟!
وقد هانَ عليها شقائي!!
اذهب بلا رجعةٍ
ما عاد لكَ مكانٌ في صدري
أحرقتُ لغتي خلفي
أرسلتُ لها إنذاراً بالإخلاءِ
من حضنِ قصيدتي
سأحرِّرُ مساماتي من حبِّها
مساماً مساماً
سأغلقُ بوَّابةَ روحي أمامها
وسيمنعها دمي من التّسلّلِ إليَّ
أنفاسي في حالةِ نفيرٍ قصوى
جاهزٌ أنا لمنعِ نفسي
من حبِّها
لكنَّكَ أيّها القلبُ
لا تؤتمنُ
ولهذا..
أعلنُ انشقاقي عنكَ.*
إسطنبول
* شدقُ الغربةِ..
وتهمسُ ليَ الدُّروبُ
تغوي خطايَ
برائحةِ الذّكرياتِ المثيرةِ
وينهضُ بداخلي أفقٌ
يومضُ بأنفاسي الحنينُ
يا حبيَ النّابتَ على سفوحِ الغيمِ
يا ندى الفجرِ في صحراءِ رحيلي
أحنُّ إلى مسقطِ عشقي
وإلى رضابِ الأنينِ
وشهقةِ أصابعِ المطرِ
كم كانَ قلبي يقطفُ الضّوءَ
عن شفاهِ العنبِ ؟!
آهٍ يا موتيَ الذي يرابطُ
في دمي
يراقبُ فلولَ الموجِ
لينقضَّ على قصيدتي
ويرغمُ الطّريقَ على التَّلاشي
أحدِّقُ في عماءِ الدَّهشةِ
أستصرخُ سحابَ اليباسِ
وأنادي على بلادٍ
ضاعت عن وريدي
ما عادت تسمعُ ثغاءَ الحلمِ
التفَّ الثّعبانُ على غيمِها
وصارت بيوتُها وكراً للخرابِ
أنا أبحثُ عن سماءٍ
لا تقضمُ الأجنحةَ
عن شمسٍ لا تغشى روحي بظلمتِها
أبحثُ عن نهدٍ لا يدر بفميَ
البارودَ
وزبدَ الحطامِ
آهٍ يا وطني من شدقِ الغربةِ
تصحَّرَ أفقُ الكلامِ
تكلَّسَ نبضُ النَّسمةِ
تحجَّرَت أنفاسُ الرُّؤيا
وما عادتِ الأرضُ
تثمرُ العشاق.*
إسطنبول
* يَدُ الرِّيحِ..
أَتَحَلَّقُ حَولَ عُزلَتِي
أَستَأنِسُ بِالذّكرَيَاتِ
أَحَدِّثُ مَن لَا يَسمَعُنِي
وَأَرُدُّ على أسئِلَةٍ
لَم يُرسِلْهَا أَحَدٌ إلَيَّ
أُمضِي جُلَّ وَقتِي
وَأَنَا أُحَاوِلُ أَن أُبَدِّدَ الوَقتَ
لَا وَقتَ عِندِي
لِأَعِيشَ مُستَمتِعَاً بِهذَا الوَقتِ
لِأَنَّ حَيَاتِي وَرَقَةٌ صَفرَاءُ
عَبَثَت فِيهَا يَدُ الرّيحِ البَلهَاءِ
أَينَ مَن كُنتُهُ يَومَ كَانَ
لِوُجُودِي مَعنَىً وَحُضُورُ؟!
لَا أثَرَ أَجِدُهُ يَدُلُّ عَلَيَّ
سِوى خَيَالَاتٍ لَا تَنمَسِكُ
لِأوقِفَها وَأَحتَضِنَها
وَأَسأَلَها عَن حَقِيقَةِ مَا تَقُولُهُ عَنِّي
ثَرثَرَةُ الذِّكرَيَاتِ
هَل أنَا العَاشِقُ الذَي
خَانَتهُ حَبِيبَتُهُ مَعَ مِرآتِهَا؟!
وَظَلَّت تُقفِلُ عَلَى أُنُوثَتِهَا
لِحَدِّ التَّصَحُّرِ!!
وَكَانَت قَصَائِدِي أَحصِنَةً
تَمتَطِيهَا فِي سَاحَاتِ التَّبختُرِ وَالخُيَلاءِ
إِنِّي أُعلِنُ اعتِذَارِي مِنَ الكَلِمَاتِ
الّتِي نَسَجتُهَا مِن لَهفَتِي وَحَنِينِي
أَعتَذِرُ مِن قَلبِي الّذِي أَذَقتُهُ الذَّلَّ
وَمِنَ رُوحِي الّتِي مَرَّغتُ فَضَاءَها
بِوَحلِ النَّجوَى وَالتَّبَتُّلِ
مَا كَانَ عَلَيَّ أَن أَتَنَازَلَ
عَن عَرشِ الكِبرِيَاء
حَتَّى لَو كَانَت تَسكُنُ عُنقَها النُّجِومُ
وَيَخضَعُ الفَضَاءُ لِعِطرِ نَهدَيهَا
وَيَحمِلُ لَهَا القَمَرُ حَقِيبَتَهَا الجِلْديَّةَ
ويصب لهَا النَّدَى مِن إِبرِيقِ النٌورِ
لِتَغتَسِلَ بِعَسَلِ الفَجرِ
مَا كَانَ عَلَيَّ أَن أُغَامِرَ بِالأَبجَدِّيَةِ
وَأَرمِيهَا كَوَردَةٍ
إلى أعَالِي شُرُفَاتِهَا
حَتَّى وَإن كَانَت نَافِذَتُهَا
مِن أَرِيجِ الهَمَسَاتِ
وَبَيتُهَا من صَلصَلِ اللَهفَةِ
كَانَ عَلَيَّ أَن أُرفِقَ بِدَمعِ جُنُونِي
وَأَن أُشفِقَ عَلَى ثُغَاءِ أصَابِعِي
وَهِيَ تكتبُ جَمرَ لَوعَتِي
وَتَذرُفُ صَرَخَاتِ مَوتِي
أنَا الآنَ أَكرَهُكَ يَا حُبُّ
سَأُقفِلُ عَلَى جَمِيعِ مَسَامَاتِي
سَأُغلِقُ عَلَى بَسَاتِينِ دَمِي
سَأُغمِضُ عُيُونَ رُوحِي
وَسَأُكَمِّمُ نَبَضَاتِ قَلبِي
وَسَأُسَيُّجُ بِحَارَ رَغَبَاتِي
لَن أُصغَي إليكَ أَبَدَاً
وَلَن آكُلَ مِن تِلكَ الشّجَرَةِ
مَهمَا جَاعَ صَمتِي
وَاحتَجَّت عَلَيَّ اختِنَاقَاتِي.*
إسطنبول
* حبيبتي حلب..
ما كنتُ لأُحبَّكِ
لَو لَم تَسكُنْكِ الرِّيحُ
فأنتِ لا تُمسَكِينَ
وجِسمُكِ من عِظَامِ البرقِ
لا تُلمَسِينَ
وَضَفائِرُكِ
من ابتِساماتِ قوسِ قُزحٍ
يَحضُنُكِ شَغَفُ الشَّفقِ
يَضُمُّكِ ابتهالُ المدى
ويُعانِقُكِ حَنينُ الفَجرِ
أرى وَجهَكِ يَنبَسطُ على الماءِ
نَسَائمَ خَمرٍ
صُبَّ من قطافِ النّدى
أرى يَديكِ
تَحملانِ الغمامَ بحنوٍ
وتُسقي لهيبَ الرُّوحِ
أرى السَّماءَ
تَكشِفُ لكِ عن صَدرِهَا
لِترضِعَ نُجومَها من هَمسِكِ
وأراكِ تُنادينَنَي
كُلَّما تَنفَّسَ الأثيرُ
وتَنهَّدَتِ المَسافاتُ
وَكُلَّما تَبلَّلَ البَحرُ
بِأموَاجِ عِطرِكِ
أُحبُّكِ لِيَكُونَ لِلحُبِّ اْسمٌ
وَلِيَكُونَ لِحَياتي طَعمٌ
وَلِيَكُونَ لِلشِعرِ قامَةٌ
فَمَا قِيمةُ هذا الكَونِ
إن لم تَكُوني أَمِيرةً على عَرشِهِ؟!
كيفَ لِهذا الهَواءِ أن يَتَنفٌسَ
إن لَم تَفتَحِي نَوافذَكِ؟!
كُلُّ الكَائِناتِ جَاءَت مِن بَعدِكِ
كُلُّ المَخلُوقَاتِ وُجِدَت
لِتُحِبَّكِ
وتَتَعَمَّدَ مِن طُهرِكِ
سَيَّدَةُ الحَقِيقَةِ أنتِ
جُذُورُ التّكوِينِ
عَرَائشُ الضَّوءِ
نَبضُ الزَّمانِ
طَيفُ الأزَلِ
حَبِيبَتِي حَلَب.*
إسطنبول
* فتنةُ النِّهايةِ..
هَرَبَت مِنِّي خُطايَ
تَرَكَتني وَحِيداً
أزحفُ على جبلِ أوجاعي
ويدايَ تَتَعَثَّرانِ بلهفتي
لا دربَ يفتحُ ذراعيهِ لقلبي
لا أُفُقَ تُبصرُهُ روحي
لا سماءَ تَرتَشِفُ حنيني
أعدُو في أزقَّةِ الحُلمِ
أدقُّ أبوابَ السّحاب
لأمنحَ دمعتي عشبَ الانتظارِ
أنا تجاعيدُ الكلامِ
يباسُ الهواءِ
نارُ الانطفاءِ
وهمسُ الرَّحى اللائبةِ
أفتِّشُ عن جذورِ المدى
عن حائطِ الصّدى
عن نوافذِ الرّكامِ
وعن ظلِّ آهتي العجفاءِ
عَسَايَ أصادِفُ نسمةً
في جوفِها بحرٌ من الصّهيلِ
أشرعةٌ من القبلاتِ
شواطئُ من الضّحكاتِ
وتقولُ ليَ الفراشةُ
أنتَ الضّوءُ الذي يشدُّني
قصائدُكَ
الرَّحيقُ الذي يُسكرُني
فأحتضنُ أنوثةَ النّدى
أُهمِي بناري على عِطرِها
وتغفو فرحتي على ضفائِرِها
وأشتمُّ في ثوبِها
أغصانَ الحياةِ
وجعي يَتَسَلَّقُ دربي
يُسَابقُني إلى التَّنَفُّسِ
يقرصُ دمي بشهيَّةٍ
ويصارعُ قامةَ جنوني
أنا تصحُّرُ الرُّؤى
ألبسُ عباءةَ الموتِ
أتعكَّزُ على رمادِ أيَّامي
أرقصُ على لهيبِ الذّكرياتِ
أنادي على رحيلي
وأمضي في غَيهَبِ غيابي
إلى فتنةِ النّهايةِ
وغوايةِ البدايةِ.*
إسطنبول
* نخاعَ التّراب..
أراهنُ موتي
على أن أحيا
دونَ اللجوءِ إليهِ
فأنا أسندُ ظهري
على جدارِ الوقتِ
وأشدُّ من عزيمتي
باعتمادي على زندِ جرحي
وأبصرُ من خلالِ
رمادِ ضحكتي
ظلالَ زيتونِ الكبرياءِ
أنا رحيقُ الاحتراقِ
وأجنحةُ الانهيارِ
ينكسرُ السّقوطُ أمامَ ارتعاشي
وينهضُ التّحدي
من هشاشةِ عظامي
التي تخونُ اغترابي
سأعودُ
ولو أنَّ ألفَ موتٍ ينتظرُني
سأعودُ
ولو أنَّ ألفَ قبرٍ يمسكُ بجثّتي
سأعودُ
ولو أنِّي تعلَّقتُ بأجنحةِ
قصيدتي
سأعودُ
لأنَّ قدري أن تشربَني
أرضُ البلادِ
لتتفتّحَ براعمُ القصائدِ
فوقَ أغصانِ الطّفولةِ
ويكتبَ تلاميذُ العشقِ
اسمي على السّبورةِ
عاشقُ سوريةَ
المتغلغلُ في نخاعِ التّراب.*
إسطنبول
* تذكرةُ حبٍّ لبلادي..
وأنا أشربُ ثمالةَ ذاكرتي
استوقفَني الموتُ
فتَّشَ لساني عمَّا يُخفيهِ
من كَرَبِ الصّمتِ
همسَ لاشتعالِ دمعتي
تمسَّكي بِبُردَتي السّوداءِ
ولا تجفلي من شفاهي
حينَ أغرزُ شهوتي بملحِكِ
سترحلينَ معي
إلى أحشاءِ البرزخِ
وهناكَ ستزفُّكِ الملائكةُ
عروسَ السّرمدِ
أشربُ من دمِ ضحكتي
أرفعُ كأسي نخبَ العدمِ
وأقارعُ أحصنةَ الغيابِ
تختفي البلادُ
لا ألمسُ شمسَها
لا أبصرُ رائحتَها
لا أشتمُّ ماءَها
ولا أُدفَنُ في بياضِها
وأنا ملقىً في جوفِ الهباءِ
أتذكرُ ضفائرَ النّدى
كانت تدغدغُ الأشجارَ
فتثمرُ الطُّرقاتُ بالأقمارِ
وعصافيرِ القُبلِ
أنامُ في قفلِ البابِ
والبابُ موصدٌ على جهنَّمَ
وأنا سأخالفُ تعاليمَ المفتاحِ
وأرسلُ تذكرةَ حبٍّ لبلادي
مَن طوَّقَ البلادَ بالضغينةِ والبغضاءِ؟!
وأطلقَ في أرجائها
عنانَ الخراب؟!
مَن تآمرَ على مجدِها الأغرِّ؟!
مَن حاكَ حولَ روحِها الهلاكَ؟!
كانت بلادي شمعةً
تنيرُ للزمانِ دربَهُ
كانت نسمةً تهفهفُ
بوجهِ الياسمينِ
هي رحيقُ النّورِ
سوسنةُ البهاءِ
عطرُ الخليقةِ
جوهرةُ الكونِ
بلادي شهقةُ الأفلاكِ
نجمةُ النّبضِ
هي غفوةُ الأمطارِ
واستراحةُ للملائكةِ حينَ يتعبونَ
بلادي مليكةُ الأزلِ
ومملكةُ الأبدِ
كانت تسقي السّماءَ
من حليبِ خضرتِها
وتطعمُ ظلَّها للصدى
وتمسحُ عن صدرِنا
طبقاتِ الاختناقِ.*
إسطنبول
* الخَدِيعَةَ..
.. وَأَقُولُ لِمَوتِي
كُن جَمِيلاً حِينَ تَقطُفُ رُوحِي
وَلَا تَعبَث بِمَصَابِيحِ قَصَائِدِي
وَلَا تُمَزِّقْ مُسَوَّدَاتِ حَنِينِي
دَع نَوَافِذِي مَفتُوحَةً عَلَى الدُّرُوبِ
فَأَنَا أَنتَظِرُ نَسمَةً تَهِلُّ عَلَيَّ
مِن سَمَاءِ بِلَادِي
وَصِيَّتِي إِلِيكَ يَا مَوتُ
أَن تَطُوفَ بِرُوحِي
فَوقَ شَاهِقَاتِ مِيلَادِي
دَعنِي أُوَدِّعُ ضِحكَةَ الضَّوءِ
فِي عُيونِ الذِّكرَيَاتِ
سأسامحُكَ بِكُلِّ مَا عِندِي
مِن عِشقٍ وَتَوقٍ مُزدَهِرٍ
وَدُمُوعٍ كَانَت تَنمُو كَشُجِيرَاتٍ
فِي بَسَاتِينِ لَهفَتِي
تَسأُلُ عَن مَهدِ عِشقِي
وَعَن مَوطِنِ أُولَى قُبُلَاتِي
يَا مَوتِي
دَع أَصَابِعِي تَلمِسُ
وَجهَ النَّدَى الطَّافِحِ بِالشُمُوسِ
وَبِأَنفَاسِ اليَّاسَمِينِ
ثُمَّ خُذ مِنِّي مَا تَشتَهِي
مِن حَوَاكِيرِ الغِنَاءِ
وَمِن يَنَابِيعِ الأَبجَدِّيَةِ
واحملني عَلَى زِندِكَ
إلى حَيثُ يَدُلُّكَ المَدَى
صَوبَ جِبَالِ السَّحَابِ
وَادفِنِّي في جَوفِ الصَّدَى
مَا عَادَتِ الأرضُ تتَّسِعُ لِهَزِيمَتِي
وَلَا عَادَتِ الهَزَائِمُ يُغرِيهَا انكِسَارِي
أَنَا يَا مُوتُ مُتُّكَ قَبلَ أَن تَتَعَرَّفَ عَلَيَّ
أَعرِفُ طَعمَكَ مِن يَومِ
أَن عَرَفَتنِي الغُربَةُ
وَأَعرِفُ رَائِحَتَكَ لِحظَةَ
أَن قَطَعُوا عَنّي هَوَاءَ وَطَنِي
فَمَاذَا سَتُمِيتُ منّي
وأنا أحَيا مِن غَيرِ رُوحٍ؟!
وَقَلبِي خَلَّفتُهُ وَرَائِي
مَسكِينٌ أنتَ يا مَوتُ
سَأُشفِقُ عَلَيكَ حِينَ لَن تَلقَانِي
وَتَكتَشِفَ أنَّي خَدَعتُكَ.*
إسطنبول
* غزارة الصّمت..
يتألفُ الموتُ
من بعضِ هجرانِكِ
وبخلِ قُبُلاتِكِ
وتردّدِ يدَيكِ
وغزارةِ صمتِكِ
وسماكةِ برودِكِ
موتي نسيجُ حـبِّكِ الغبيِّ
حصيلةُ تقصّي غيابِكِ
عصارةُ أشواقي إليكِ
نتيجةُ إنصرافكِ عنّي
واعتباري عاشقٌ سوقيُّ القصائدِ
يكتبُ بخشونةٍ عن حنانهِ
موتي بركانٌ في قبرِ الأحلامِ
عاصفةٌ في صحرائِكِ
سحابةُ هدوءٍ على أسطرِكِ
ونافذةٌ مفتوحةٌ على الهواجسِ
والرّمادِ.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
الفهرس:
=======================
01 - صفير الدمع
02 - المفدى
03 - مؤامرة شديدة التدبير
04 - اختطاف
05 - سامحتك
06 - مقاطعة
07 - مغترة بحبي
08 - مذكرة لاعتقالك
09 - لا كلام عندي
10 - سنّة الشيطان
11 - جنازة الزمن
12 - مقاومة
13 - إندفاع
14 - أنثى
15 - مطر اللهفة
16 - تحذير
17 - شجر الفرح الآتي
18 - عتمة الغربة
19 - أخلو إلى قلبي
20 - دفاتر النار
21 - نافذة الموج
22 - قلبي
23 - شدق الغربة
24 - يد الريح
25 - حبيبتي حلب
26 - فتنة النهاية
27 - نخاع التراب
28 - تذكرة حب لبلادي
29 - الخديعةِ
30 - غزارة الصّمت


-------------------------------------------------
مصطفى الحاج حسين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى