زيد مطيع دماج - الهيلوكس

قدت سيارتي عائداً إلى المنزل كالعادة... كنت مجهداً إثر انتهائي من عملي المعتاد... حاولت سماع موسيقى لعزف منفرد على العود لأغان من التراث المحبب إلى نفسي من مسجل السيارة...

لا أدري لماذا داهمني القلق والخوف في هذه الأيام...؟! لم أعد في حالة طبيعية... لم يحدث لي ذلك من قبل...! حتى الزوجة والأولاد داخل المنزل مصابون بنفس الحالة...!!

لا أدري لماذا أوقفت مسجل السيارة على غير عادتي... ونظرت إلى أرصفة الشارع من الجانبين...! كان شعوري بأن المارة والجالسين وسائقي وراكبي السيارات المحاذين لي من اليمين واليسار مأزومون، قلقون ومحبطون كغير عادتهم... يمشون ذهاباً وإياباً على الأرصفة أو واقفون أمام محلاتهم كأنهم في فيلم صامت توقف فجأة...! كانت مدينتنا تعيش حالة من الفزع والرعب لتكرر عمليات الاغتيالات وموجة عارمة من التفجيرات المدوية...

واصلت المسير بسيارتي إلى الشارع المعروف بازدحامه في مثل هذا الوقت من النهار... شعرت بالوجل... كنت خائفاً من أن اصطدم بأية سيارة عن يمني أو يساري فكم قد حدث لي ذلك في معظم الأيام في هذا الشارع وفي نفس هذا الوقت...! مَنْ على يميني يصيح بألفاظ نابية على من في يساري... وكلٌ يتهم الآخر بأنه السبب...!

سمعتُ أزيزاً حاداً لمحرك سيارة من خلفي تتبعني... احترت كيف استطيع إفساح الطريق لها في هذا الزحام الشديد وسيارتي محصورة بين (كماشة) من السيارات على اليمين وعلى اليسار...! بررت إزعاج راكب هذه السيارة لي... ربما يكون مستعجلاً لضرورة ملحة... لإسعاف مريض أو موت قريب له...!


نظرت في المرآة العاكسة التي أمام وجهي... أصبت بفزع وهلع ورعب مخيف... إنها سيارة (الهيلوكس) المرعبة...! أسرعت نحو أول شارع أتجه فيه إلى منزلي... لاحظت بأنها ما زالت تتبعني...!

أقف أمام إشارة مرورية حمراء... كانت ورائي...! أنزلق من شارع رئيسي إلى شارع فرعي بسرعة... كانت ورائي أيضاً...!

طمأنت نفسي بقدر المستطاع بأن الأمر ربما يكون عادياً جداً... وأن لا داعي لهذا الفزع والرعب... فأنا لست شخصية هامة... شعرت بالأمان بأنني لا يمكن أن أكون مستهدفاً... هكذا طمأنت نفسي... وكم ارتحت لذلك...!

لكن السيارة (الهيلوكس) مازالت ورائي تتبعني حتى كادت أن تلاصق سيارتي من الخلف...! اتجهت بسرعة جنونية نحو الشارع الرئيسي الأخير المتجه إلى منزلي... (الهيلوكس) مازالت ورائي...!!

كانت الإشارة المرورية حمراء... صممت على اجتيازها مخاطراً حتى لو اصطدمت بسيارة أخرى أو سجل عسكري المرور مخالفة جسيمة...!! فعلتها، وزعقت صفار رجل المرور وسجل بدفتره رقم سيارتي... مخالفة جسيمة... قلت في نفسي لا يهم ذلك ما دمت قد تخلصت من متابعة سيارة (الهيلوكس) المرعبة...

نظرت في المرأة العاكسة التي أمام وجهي... كانت السيارة (الهيلوكس) بعدي تكاد أن تصطدم بسيارات قادمة من الشارع المعاكس... وصفارة رجل المرور مستمرة بصفيرها المزعج وهو يسجل رقمها...

فزعت أكثر... وأصابني الخوف والرعب والهلع... ولم استطع التحكم برجلي المرتعشة على الكابح أو (الكليش)... دخلت مسرعاً إلى شارع فرعي... كانت ورائي... اتجهت إلى شارع ضيق كان منزلي فيه... كانت لا تزال ورائي...!!


فاحت رائحة دم الموت في أنفي... أوقفت سيارتي أمام باب المنزل وخرجت منها مسرعاً رغم ارتعاش ساقي المنهكتين إلى الباب، أدقه بعنف وأصيح بصوت مبحوح دون جدوى...!!

رجعت بظهري إلى الباب... رفعت كلتا يداي مستسلماً لاهثاً متهالكاً وساقي المرتعشتان بالكاد تتحملان وقوفي...!! أنهرت نهائياً على ركبتي معلناً الشهادتين عندما نزلوا من سيارتهم (الهيلوكس) واتجهوا نحوي... أنزلت يدي وأغمضت عيني منتظراً صوت زخات من الرصاص يمطرونه على جسدي من أسلحتهم الآلية...


كانت الزوجة من وراء الباب تصيح:

- من الطارق...؟!

لم أجبها...

- دكتور...!

ولم أجبها...

صاح أحدهم:

- دكتور...!

ولم أجبه...

- يا دكتور رجاءً... أسمعنا...

ولم أجبه...

- يا دكتور... رجاءً أسمعنا... مالك هكذا مرعوب...؟!

ووضع يده على كتفي وهزني بلطف:

- دكتور نحن في حاجة إليك...!!

ساد صمت ليس بالكثير... أفقت بعده قائلاً بصوت شاحب:

- ماذا تريدون مني...؟!

أشار أحدهم وبيده (مضارب) من الزجاج مخبرية من دم وبول وبراز قائلاً:

- أين نذهب بهذه التحاليل يا دكتور...؟


فتحت زوجتي الباب فجأة... لم تكن تتوقع مظهري المنهار رغم ابتسامتي الباهتة... ارتميت بجسمي على قاعة غرفة الاستقبال وأنا أضحك وأخبط بكلتا يداي ورجلي على قاع الغرفة...

والزوجة والأبناء مندهشون وفزعون... خامرهم إحساس بأنني قد أصبت بمس من الجنون أو (بزار من الجان)...

صنعاء: 18/3/1993م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى