ديوان الغائبين ديوان الغائبين : علي قنديل - مصـــــــر - 1953 - 1975

علي يوسف قنديل
ـ شاعر مصري.
ـ مواليد 5/ 4/ 1953. الخادمية / كفر الشيخ.
ـ توفي 17/ 7/ 1975.
كانت وفاته طالبا في كلية طب القاهرة ، في حادث سيارة صيف 1975، حيث دهسته سيارة جيش أمام قصر ثقافة كفر الشيخ.
ـ من أهم كتاب تحديث القصيدة المصرية ، وكان تلميذا مباشرا للشاعر الكبير محمد عفيفي مطر.
ـ بعد وفاته أصدر له الأصدقاء ديوان (كائنات علي قنديل الطالعة) ، وذلك في نوفمبر 1976 ، وتضمن الديوان مقدمة عنوانها (شرارة خاطفة على قوس الحياة والموت) للشاعر محمد عفيفي مطر.
ـ يقيم له الأصدقاء احتفالا شعريا كل عام في مسقط رأسه بمدينة كفر الشيخ ، يحضرها أعضاء جماعة إضاءة وغيرها من جماعات شعرية ، وممن يتابعون الحضور: حلمي سالم ، جمال القصاص ، محمود نسيم ، ماجد يوسف ، أمجد ريان ، تاج الدين محمد تاج الدين ، أحمد سماحة ، وشقيقه القاص والمترجم ابراهيم قنديل.





علي قنديل...
اللون الثامن في قوس قزح!!
شرارة خاطفة على قوس الحياة والموت...


القاهرة


شريط القطارات كان يوازى تفجر وردة
وكان المساء خواتم ذهبية في الأصابع
تورد للقلب ما يعجز الصمت أن يحتويه
وكان المدى صاريا لا يقيم.
من فتح الصدر بيارة للنجميات (إذ يتساقطن بين المواويل )؟
من أشعل الوجد أرجوحة ؟
والطفولة جنية ؟
والسديم رحيلا إلى الجنة؟..
سألت النخيل:
على البعد ماذا ترى يا نخيل ؟
- دخانا طويلا، صراخا قليلا
وفي التحت نمل وشيء كثير، فعذرا بني أنا لا أميل.
سألت البريد.
- أتيت طريدا، وعدت شريدا فدعني بني طريقي طويل
سألت القطارات، كان شريط القطارات زغرودة لا تحد
أجابت: تعال، فمن طرز الرأس بالاشتهاءات ؟
حرر كعب الصغير من النوم ؟
أطلق هذا الصفير / الغرابة ؟
.
……
غفوت قليلا،
وكنت أرى النهر يجرى.

(1) يقظة الدخان في سماء الدهشة:
دخان يتكاثف وعواء يقترب
تخللت مدى مربدا
وحيث تقاطع لحم الدهشة مع ساقية الأرق
انغرست لافتة أولى:
القاهرة
دخان يقترب
سماء مدرجة في قائمة الأعمال
وفيما بين الحلم ومائدة الإفطار:
توابيت تتناسل،
فطر يتكاثر
والساعة في عكس إيقاع القلب تدق.
أفتح نافذة:
يتهدج موج يصل الشرق بأعصاب الغبطة
أفتح عمقا:
تنشطر اليقظة في ألق الشيخوخة،
فأعدل هندامي،
أفتح.. أفتح تجربة:


القاهرة تتربع على العرش:
دائرة تتضخم،
نصف القطر بديهيات شرطية
آلهة تنظمها الفاترينات لكي يصطفق رنين الأصباغ،
وآلهة أخرى


>أعط المشهد رقته <

سقف يتدلى، يتدلى في هيئة قبعة غريبة
فنظل يدحرجنا الليل وشمسي لا تشرق إلا
من ورق العملة
هل أنت عواء يتكاثف ؟....
أم ذاكرة المعدن والفحم يبخرها وجع الإسفلت ؟
سمعنا وأطعنا:
دائرة تتضخم.. تزحف فيه العربات
وتزحف في الجسد كسيف يفصل بين:
الممكن
والمعقول !!
شهدنا..
امنا
ماء يتدفق للعامة
( وفيما بين اتجاه العزق واتجاه الري
شاعر لم يأت بعد )
لماذا لا يضطرب النيل ؟..
لماذا دائرة تتضخم ؟
يصبح نصف القمر هلالا للبيع.. مناخا للبيع،
وتمثالا يتفق علية ؟
هل خارج دائرة تتضخم غيب يتضخم ؟
أبحث عن فيروز وهى تهرب من يوتوبيا
إلى أخرى..
أو أفتح " دفتر الصمت " حيث
عفيفي مطر يتسلق مئذنة الدمع
أو أدخل في حركة طلع يقاوم فتك العفن
أبحث.. أفتح..أدخل:
رهج في الصدر ومجمرة في العينين،
وفعل يركض صوب الخلد:
(أجرب)

القاهرة تؤذن لصلاة العصر

تشب المآذن فوق.. لماذا ؟
يسائلني رأسه الكربلائي وهو قطيع عن الجسد العربي
أنظر حولي:
لا طير حي
لا طير مقتول
لا أوراق خضر
لا نار حمراء.
لا أبواب تفتح،
لا أركان تتهدم،
لا حفيف.
لا زهر
لا خرير
والنيل لا يضطرب ولا يريم

وأنظر حولي:
غابة من كهربا ء لزجة تلعق بين الحلم
والإقامة قائمة بالعطلات والكتب الدراسية
وحينما ينبجس الرأس في الليل..
يبدأ ميدان الحسين في الضيق.. في الضيق
يلتف كخية ملهمة على رأس الحسين
ويخلو الطريق.
آه شريط القطارات بعثرني في فتوق الليالي،
وجرجرني للفجيعة !!
يبدأ من أين ؟ وهم الرجوع،
ومن أين ينفذ طعن الخديعة ؟!.


جربت أن ألبس النيل صدارة
كي ألوذ به بالفرار،
وجربت أن أعشق النجم
أدخل فيه حوارا يهاجر
أو أقلق الريح في الليل أسكن
رحلاتها المستباحة...
لكنني
كنت ألقى وحيدا إلى القاهرة


تخضع القاهرة لبعض القوانين:

1- عثرت على قانونها الهندسي:
إد – أسرة لينة وغابة ارتكاس.
إد – كل إمرة وسوسة، كل عجوز خناس.
إد – سكين تنمو، تصبح بيت السرقة والحراس.
إد – قدم تتغلغل تخمد لهب القلب وتكسر ذاكرة الأجراس.
إد – ينقطع الخيط الواصل بين الصرخة والأنفاس.

2 – عثرت على قانونها اللهبي:
يظل الراجل يبنى العمائر حتى إذا اكتملت
هنيئة للساكتين... أشهر دونه وعتباتها
سيف محلى ودم مرتقب.

3 – عثرت على قانونها الجدلي:

قـ هـ ر
قهرت تقهر فهي قاهرة ومقهورة.

(2) المدى زورق


المدى زورق
غير أن المدينة / وجع في عظام النهار،
كلسة تغرق.
ورخام القرار:
الثلوج التي تحرق،
لحن الفرار
يعلو
غير أن المدى زورق مشعل
من خلال الغبار:
صوته المهمل
صوته / الجميز والحنظل.
يعلو ويعلو فوق لحن الفرار
ليال تتراكم في عيني
كالنوافذ المغلقة
أغوص داخلي:
تحاصرني وجوه أصدقاء ماتوا،
وأصدقاء خطفتهم عربات النسيان،
وتفاحة شائكة.
أغوص
كبريت بلله الدمع،
وقصائد تطرق طرق اللغة.
أسمع:
في الليل يتجشأ المقطم، ويمش كالعمى
ناثرا ترابه، يصل النيل فيهمد فيه،
وما خلفه جثث خامدة يبرق منها
سل يدعى الجنس / القاهرة،
ويظلم فيها إسفلت يدعى الغد / القاهرة
وأسمع:
في الصباح عواء يتجشأ.. يذهب إلى العمل
وعمل يتبدد في العواء
صلصلة قيودي تجرني،
في الصباح:
أتوبيس 124،
كلية الطب – دخان الغليون في
الكافيتريا – بعض المثقفين.
وتتضخم دائرة / زنبقة وحشية
يا الله ! زنبقة وحشية.


* النيل – حوار:

ساجد
من بدء أول وردة قامت وصمتك ضفتان
عطش السنين صفاؤك السطحي؟ أم أبدأ الحوار؟!
رأيت أدركت، اختبأت مقلدا حزن اليمام موحدا.

.....
ساجد
من بدأ أول وردة قامت وصمتك موتتان
أرق السنين نسيمك المطوي؟ أم شوك الديار؟
سبحت في الزمن استبحت تمثل الموت، انقطعت
عن الكلام مسهدا
إني وحيد مثل وحدتك الطويلة..
شدني لخلودك المعقود
....


ساجد
من بدأ أول وردة قامت وصمتك طعنتان
لا شمس،
لا كبريت،
لا تبغي الحوار


رأيت ياما قد رأيت ولم تحرك المنى
لم تغرك الأشعار
لم تضطرب للريح،
لم تصعد لأعلى
.......


( آه من لحن الفرار:
صار منفاي الوطن
وطني صار الفرار )
يقترب
دخان يقترب
ساعة على عكس إيقاعات القلب تدق
لكنني أرى:
أرى يوما - ربما قريب كأصابع اليد – يأتي
يقف العالم معصوفا، ويثبت كل ذي حال.
على حالة:

اليد القاتلة يشهد عليها دم القتيل،
والكتاب الخائن تنحل عنة أحرفة
والماء المغتصب ينتفض،
الذبائح تستيقظ والخوف يصير التيار الجارف
النهر الذي سكت ينطق، ومن تكلم يسمع
يوما – ربما قريب كدم محتقن.
اقترب يا دخان،
ويا عربات أزحفي
وانطرق يا حديد على قبرة القلب



لا القاهرة تبقى قاهرة
ولا الدلتا دلتا
ولا الشاعر مسجونا في لسانه.


ساعة تدق
" الوقت متأخر "
والسماء تترك الغرفة للأجنحة السوداء ينثرها.
طائر الرعب الأليف،


آه شريط القطارات،
يخرجون للشوارع نزفا من جرح أبله،
يسابقون الضوء الخائب


ويقومون من سقطة إلى أخرى كالديدان المشرقة
ما أبهج المرارة !!


نام المقطم فوق جفني
وظل قفص الصدر يحبسني
غيبا وعصفورا خريفيا
أقذف حصان النار يرفسني
أو صبني في النهر محلولا هلاميا


31/ 3 / 1975 م
كائنات علي قنديل الطالعة



( 1 ) يمكن:
يمكن لعبق النارنج أن ينبُتَ بين عروق الصحراء،
وأن يكتبَ تاريخهُ على مساحات الأوجه الميتة
حين يسقط الظل كاشفاً عن بقعة النور التي
تنمو كوردةٍ تمتد في كل اتجاه... ويستدرجُ
الساحرُ الآدمي شمسهُ من مدارات الغروب.

( 2 ) إيحاء
هناك ترقدُ الألوانُ على العرش،
من تحتها تمر طوابير الصباح بين تصاعد
الأشجار والتفافات السحاب كالنطاق الأخضر
حول خاصرةِ الزمن المتحركِ في كل الأبعاد
هناك أحجام ثقيلة من وقع الخُطى، والعيونُ والمصائد
والأنهار التي لا تنزل مرتين، وأطفال هناك
حيث الجبالُ التي تنمو من أعلى... وحيث زهور
لم تقف عليها فراشة بعد.

( 3 ) خَلق
كان عدم، وكانت ظلمة
ولم يترك السابقون شمعة ً ولا رجاء
وكان بي جني يصحو
مددتُ أغصاناً كثيرة ً مني تشعبتُ حِبالا ً
وخبأتٍ يابسة ً كحفنةٍ من الرمل
وبلا حياء الميت مكرتُ واستدرجت كتلة من
هلام الحياة وصرتُ ألتهمها وأبحث فيها عن ثقبٍ يخفيني.
رعدة جعلتني مشتعلا ً كقلب ندفه من الثلج
وكان الصدى يأتيني من أركان الأرض:
" خلقت من نفسي كهرباء نفسي.
خلقت من نفسي نفسي "
وجاءت الأشياء التي أسماؤها عندي:
أنهارا ً
وشموسا ً
وتربة ً
وغناءَ
أما الأيام فقد كانت تنحني لأعبر فوقها
وبي جني آخر يصحو
يدفعني
من سماءٍ
إلي سماء.

( 4 ) أرق
على أن أكون اللون الثامن في قوس قزح

( 5 ) فِعل
ما الذي قاله المطر
في لياليك الوحيدة
يا إشارات الشرر ؟
-: قادما ً كان من بعيد
كالحصان المؤرق
يخزن الشعر في صداه
والنبوءاتِ والرعاة
كان طهري ومحرقي
قال مالا يقال
أضرم العين والسؤال
ومضى عبر لهجتي
في تجاويف الخيال

( 6 ) وقفة
مُقفلة شرفاتُ الدار
والمصباحُ غائب
لا أهلا ً
لا موقد نار
لا فوضى تتجاذب
رحلت أدراجُ الأسرار
معهم
إلا صَمت نام وتقلقه
نقط الماء السائب

انفجار وردة


مطر الربيع رداؤك الضحاك والباكي
والشمس نافذة تؤرجح مقلتيك
والنار أعصاب تسجل فوق نهديك:
وشم الغرابة، والحنين الطفل، والشوق البدائي المخبئ تحته فوضي التخلق وامتداد
الشك والأسفار.
ها أنت ذي وجه الطلوع ومنبع الأنهار
شجر الخرافات.. الحقيقة...
واللغات... الفعل...
والليل المخصب بالموسيقي، والنهار
تأنين لي بيدين كوكبتين تنتزعانني من كف
أيامي الهزيلة، من تواريخ الندامة
السائل السحري – صوتك – يستضئ كأنه
وجه الإله يطل في ليل السامة.
ويذيبني في صحوة الأشياء حتى أحكم التحديق
أركض في دماء الرياح والأمواج حيث
جوادي المهتاج... ألكزه إلى المجهول في
دوامة التلقيح والأمشاج.
فتمددي بين الهضاب وحرري أعناق
كل النخل، أجري في السماء
هزي عناقيد القمر:
يساقط النور المخضر والحروف المشبعة
حلمي ثقيل بالصور
وأود أن أشتم طعم الأرض فيك
حقيقة متتابعة.
أنت التي تتكشفين إلى، تنتفضين أجمل من
ينابيع المياه
حطي على كل البيوت، وحلقي عند الصلاة
تبأورى في ساحة البشر، ارقصي في
كل ركن تخمد الأصوات فيه...
أنت التي ما أشتهيه
أنت التي ما نشتهيته


سبتمبر 73
نقوش علي جسد فينوس الضائعة



علقت كف الهوى، عيني، في وجه السماء
تحت عقم الصيف
أو بين انكماشات الشتاء.
دحرجتني الريح مشتعلا وأطفأني القمر
أغرقني البرق في بحر الحروف الراعشات
فشربت السر في القيعان حتى أثمرت شفتاي:
إبهاما وصمتا...
وتلقتني العواصف راكدا، متمردا.
صحوا. وميتا
مزقتني الشمس
في كل اتجاه، بعثرت أجزائي
رتقت بي ما تفتق من لباس الكون، ابتسمت لي
أصبحت بوابة التاريخ مرتقبي،
فعل الله
يرجعني إلي جسدي.. إلي الأشلاء



وردة للهدوء والضجيج
مجموعة من الرجال والنساء:

دروبنا مرخية.. بليدة
جذورها تمتد في بحيرة السآمة
ويومنا ثلجية دماؤه
يمر فوقها الحديث واللزوجة الخواء

من عارنا الذي نسره
وكرهنا الذي يكحل العيون
تقوم من صدورنا علامة
وتستطيل بيننا المسافة
فترتوي عرائس القتامة
الفتى الصغير:
تفجري يا وردة الهدوء والضجيج
يا وردتي الحزينة
جميلة كالظل والسحابة
عريقة كالنار والغصون والكتابة
تفجري عن الحقيقة الرحيمة
وطهريني من عواقب السكوت والكلام
والتحديق في زخارف البيوت
أود أن أعيش قبل أن أموت
مجموعة الرجال والنساء:
من الذي يمزق السكينة ؟ !
من الذي يدق في تجمد المدينة ؟ !
أواه من تلاعب الرياح
من خيانة الحروف حين ترفض الإخفاء والمواربة
الآن... من يمد كفه لنا،
فنحتمي من الشموس وانطلاق الأتربة ؟ !
يا ليل
يا محيطنا المقدس النبيل
الشمس خلف بابنا تكاد أن تبين
ونحن في ظلامك الأمين،
نخاف نورها وزهرها الجريء
الفتي:
لابد للمسافر الصغير
أن يستريح في حدائق الأشعة
وفي عيون ما أعتلي من الطيور
أو....
يمتطي سرير ليلة الكئيب
مُستقبلا في البعد والمساحة
أحلامه المباحة.
محاورة الظل والإضاءة
الكورس:
حملناك في منبت القلب منذ ابتداء الزمن
نخمر فيك تراب الولادة
ونوقد فيك شعاع التألم وشماً وعادة
لتأتى لنا من خلال السنين
جوادا: جناحاه ماء وطين
وصوته نبر من الميتين، وصحو يزلزل
عقم البدن
حلمنا بساقيك ريحا تغامر
وتنفض عنا تراب المقابر
وترشق في كل عين نموت
وفي كل شريان كف تفئ، بظل السكوت
شراراً ووخزا
قلنا: سيأتي بك الرعد
وسوف تنشق عنك الحجارة
وقلنا: ستخلق من كل نجمان يطلع بين
خضاب البكارة
ومتنا اشتياقا إليك
فأين وصولك ؟...
أين يداك ؟ وفيهما أصداؤنا تلتحم ؟
الصوت:
يقترب الشرطي سريعا فسريعا
دقات حذائه مطرقة فوق الكتفين
انكمش بقبضته – حلما مفزوعا-
أتقلص في حجم الذرة
أغمض عيني المجهدتين
شيء في الداخل ينمو كمجرة،
يركلني
أتهالك
أتفتت
أصبح جمجمة داكنة أو حبلا مقطوعا
الكورس:
نطالع فيك شحوب القراءة
ونقرأ فيك كتاب الطوالع
نطالع فيك شحوب القراءة
ونقرأ فيك كتاب الطوالع

الصوت:

كان الصباح مفضضا بالندى، مخضوضراً بالسعف
تبدو القباب ثقيلة كالمجرم المعترف
والشمس – مثل الشمس – تحرق نفسها
والصمت ليس يهزه شيء سوي صوت الدجاج
نظرت من خلف الزجاج
فرأيت ظلا فاترا للحزن يطلعه التراب
متشكلا بوجوهكم
ويظل وجهي خلفكم
مترددا بين السحاب
مساحات النشور
"حوريس " في جوف الجبال،
أصداء طقس وابتهال.
وجه إله حائر بين اشتباكات السؤال
ونضارة تلتاث من رمل الجفاف
تخضر تحت البرقع المنسوج من خيط الحداد
وتشب فوق الصهد طولا والتفاف
حوريس يطلع بالشعير وبالغلال
بمواسم الأرز السخية
متعاليا مثل النخيل
حرا كأطراف البحيرات القصية
لكنه عند الهضاب،
مازال ظلا واغتراب.
ورمى على صمت الزمان
صوتا كطرق الرعد يجتاح الدخان
عرفته
إذ تصحو إليه، تفور من حفر الرقاد
" إيزيس " تهرع للمشاتل والسواقي والجسور
وتهز أبواب القبور:
" حوريس عاد
حوريس عاد
فتهللوا يا قوم. هذا وجهه نور يبشر
مثل " رع "
هذي سفينته تشق البحر تأتى بالكروم،
حوريس يلبس زيه المخضر والمحمر والتاجان
فوق جبينه عرش تطاول للنجوم "
ايزيس تلعق صوتها المخنوق ألسنة الغيوم
فتغوص تحت خطوط كف الأرض
أبعد من مساحات النشور / وتظل أبواب القبور:
جوعى، تفتش في الدجى عن خيط نور.
وتظل حبات السنابل ضامراتٍ
في تواريخ الجذور.
أغنية من شتاء مضى
كنت طفلا، والظهيرة
استحمت في المطر
حين كان الظل يزرعني بعينيك يمامة
ويجريني على كفيك خطا لاهثا
فرسا فخورا بالوسامة
والماء يغفو بالحفر.
ما الذي قلناه في ذاك الشتاء
ما الذي غيرني، طيرني
وأرغمني على عشق السفر
عبر نهديك كعصفور الورق ؟
هل تراتيل الشفق
أم حصان أطلقته الريح من صدرك
يعبر بي إلي أقصى الفضاء ؟
أومأت عيناك لي – شفتاك – فاهتزت رؤاي
من ترى حررني. فك خطاي:
مرج خديك أم اللحن المضيع ؟
والذي مد إلينا قوارب الحلم ارتعاشه...
كان ما خطت يدانا في الدفاتر
أم حقول النور والأفق المروع ؟ !


زمن الموت

- إلي الخضر الذي مات
ولم يمت - *
- 1 -
لقد شكلت من زمني نحوت الدهشة الأولي
غزوت عيوني المفقوءة الأضواء
بطلق القاع والصحراء
وضعت النور بين يدي بالألغاز مجبولا
جذبت سكوني المغلوب داخل صمتك الفائر
وفجرت الينابيع العنيدة في فيافي ليلي الراكد
نفخت النار في الأشلاء.
ترى من كنت يا أنشودة التغريب والفوضى ؟
متى كسرت قشرة بيضة الأزمان
لتشرق في تواريخي كبدء خميرة الأكوان
تعلمني طقوس جزيرة عريانة الألوان
وتشفق بي:
( أظل العمر داخل قوقعات النحت، مقتولا –
بلا أكفان
ومرتضيا بدفع البحر والتيار
إلي أن يأتي الصياد يخرجني إلي الشاطئ )
أمدا كنت ؟ جزرا كنت ؟ أم طوفان ؟
أم السخرية المسنونة الإيقاع،
تهز العالم المتهرئ الأضلاع،
وتنبئ عن خرافة عودة الإنسان.

- 2 –
جبينك لوحة تمتد فوق الحائط الباهت
بعينيها المؤرقتين كالنصلين، أو كالحق حين يبين
وشعرك غابة سوداء، كالكونشرتو الصامت
وأنت الحيرة الزرقاء، أنت القارب المشدود ت ـ
عبر المطلق الداجي
فكيف جبلت كالأسطورة الحية
وكالأزميل رحت تدق وجه سنيك العشرين ؟
رأيت أمامي الساعات تبدأ من أواخرها
وتصعد من تناصفها إلي ما يبتدئ فيها
عرفت سريرة الأيام
عرفت اللعبة الكبرى.
فمن أعطيه قوة سحري الماكر:
فينهي حياته حرا ويبديها ؟!
ولكني أنا الساحر
شربت خديعة الأيام
ولم أنج من الأشباح، ينبت عندها الماضي
ويرقص فوقها الحاضر.
أخاف عليك شدة مركز الأرض
وسطوة لعنة الأرباب
هي الأشياء موحشة ( فحاسب ) قد يخون الباب

ـ أنا وحدي الذي يخضر في الأوحال
لدي مفاتح الأشياء.
لندخل سدرة الأمطار، نبحث عن بذور الخلق نصرخ،
تفتح الأبعاد
نمارس رقصة الإخصاب تزهو النار خضراء
وتطلع بالثمار فيرقص الأطفال.
ويبدو العالم المحزون حر الخطو نشوانا

ـ3ـ
يعود الوجه، وجه الزيت والدخان
علي طرقاتنا كاللحظة المخنوقة الإحساس
فيزوي حلمنا بظلامه الممسوخ
أكان لابد أن يلد اشتعالنا نوره القدسي
أكان لابد أن نعرى أمام الناس ؟
وبعد سنين يرقى "الخضر " فوق غشاوة السحب
وراء ستائر الغياب
ليبدأ لعبة أخرى
وينظر من أعاليه، عسى أن يدرك الأسباب !



إشارة

كم حساب السنين
أيها المنتظر ؟

منذ بدء الظلام
قابع في المقر

ما الذي ترتجي ؟

أرتجي مشرقا
قادما من سفر
هل شحذت العيون
كي ترى طلعته

منذ بدء الظلام
قد فقد البصر
إنما مهنتي:
احتضان الأمل ؟

أن وجه الصباح
سوف ـ يوما ـ يطل
*
الغريب.. القريب
أن وجه الصباح
كل يوم يجيء
فأعلن.. فأعلن
فأعلن
فأعلن !
أغسطس 73

سرينادة



أطفئ الشمعة قم
لا يناديك باسمك غير ليل التائهين
وسرير الغرباء،
هذه دنياك، نم أو لا تنم
كل ما يحببك ظل ونفايات وماء
وبقايا من عبارات الشتاء،
والذي تبكيه جرح دون دم.


يا زجاج النافذة
لا تحيني بإغراء المشاهد،
كل ما تبديه فاسد
ومدينتك الرحيبة
ليس يملؤها سوى خشب الكراسي والموائد
ومدينتك الرحيبة
( التي كانت لتجوال الخيال القروي
زهرة تمتد في كل اتجاه
وأغان للرياح
والعصافير الجديدة )
كلها صارت بليدة
ثقب ابره
خيط قلبي راكد فيه
ومعقود بيأس طرفاه
تائه بيتي وبابي في الغروب،
والأحباء تسافر في قرار الزمن
هم يروحون وبيتي في الغروب
من يناديني فأفني في الإجابة ؟
من يحررني، يدفع ثمني، يا تواريخ الكآبة ؟


يا غزالاتي الصغار،
لا يحب الموت أحد في هذى المدينة.
لا تضيعي في الأعاصير الطليقة،
الزحام الخادع المرأى فراغات بدينه
لا تضيعي،
لا يحب البوح بالأسرار أحد، والمدينة
علبة من نار


أطفئ الشمعة، أشعل ماء قلبي
من يقل لي (( هات )) أعطه سر نهري
من يلامس امتداد الكف يأكل تمر حيي
تائه عقلي وبيتي في المدينة شبح
والناس تخشى أن تعافرني عطاء شجريا..
يا غزالاتي الشقية
لا تضيعي بالشعاب
فالذي نلناه سجنا معدنيا.. ووريقات.. وباب.
إشراقات شعرية


( 1 )
في عمق الأعماق:
سر
- فابحثوا –
سر يزحزح ناصية الآفاق

( 2 )
من ضاجع الكون وحده، كتبت له في كل عنصر ولادة
, وفي كل ذرة شهادة.
وفي الأقاصي يظل حياً، لا ينقلب عليه دهر
ولا تجتازه قافلة،
ويخرج الوردُ من وريده – أبداً – للعالمين.

( 3 )
تمددي للداخل يا دائرة العالم،
تبأوري في عنادي
والبسي نبضتي،
وارقصي في طقوسي
ولا تبرحيني أبداً.
هنا سرة الشعر، وأسرار المجرات البعيدة
هنا شجرة الوجود التي تطعمني وتأوي إليّ.

( 4 )
شقوا بالدمع نهراً صاعداً للسماء
تغسل العرائسُ فيه أقدامها
ويشرب عطش الأنبياء
شقوا بالدمع نهراً لقلب الأرض
الدمع فرض.

( 5 )
يَخرج من ثقب طائرة ورقية
سديماً يتماوج في الأسواق، ويلتف حوله السابلة
يأخذون جميعاً مما أتى به.
يَخرج من حنجرة السماء
يخرج من ليل إلى نهار
ألقاً كسدرة القلب، وطيبة ً كالماء.
ندى هو عبث الأطفال، هو عبث الرياح في الأشجار.
ما كان في خاطره كان،
وصائر ما مست يداه.
فاضحكوا في شعاب الطريق
وانظروا،
عَله الآن أن يخرج

( 6 )
صرت أجري إلى الأشياء
يَذكُرني النهر المخصب بعصارات البداية،
تذكرني الشمس التي نفخت في من روحها ناراً خضراء.
وهذا الأمل الذي لا يوصف، لم ينس شيئاً
حين ملأني من الخارج والداخل،
أما تلك الأرض. فهي لي.
في دمي كل الخمائر التي تجاذبتها
وكل الأصوات التي تعشقتها تلتئم عند حنجرتي:
عناقيد من ذهب وكراتٍ من نحاس،
وقلبي مشتعل على كل الجبهات.
أن أكون بين الأرحام: البذرة المعذبة،
والشمس التي تغلي،
والنطفة التي تنبثق بما لم تعرفه الولادة.

( 7 )
أَنا وهَاملت ونيتشه.....
ثلاثة مجانين.
عند شاطئ البحر التقينا ذات ظهيرة
وتبادلنا الصمت المنتفخ بالجمر والبخار
كنتُ أعرف....
رمى هاملت نفسه في البحر وراء سمكة الذهب
نيتشه المباغت أسقطني وراء هاملت
وأنا صحت عاليا.
اكتشفت الآلهة أن شيئاً ما قد يثقب كرة
الأرض اليابسة
لوحت مائة ذراع إلهي بنيتشه في هواء خريفي
ثم ألحقته بنا.
في ظلمة قاع البحر تبادلنا الصمت ثانية.
وكان الصمت هنا أعقل جنوناً...
وكانت البيئة الجديدة ترغمنا على فعل شيء ما.
لم نتفق - ثلاثتنا – على شيء
فنحن بالفعل مجانين...
ولكن سطح الأرض حلم محرم
وأنا أعرض عليكم الأمر:
هل نموت لأننا لا نلتقي في البحر ؟
أترضون يا سكان السطح ؟!

( 8 )
واقف تحت نخلة العالم أرقبكَ خلسة ً
من أنت إذا لم تأت ؟
بين كفي الفراشات المنيرة والبلح الأخضر
والنمل يحاصرني،
وأدعوك،
إذا لم تأت تسحقني اللزوجة والشموس القاسية.
أتفهم ؟
دارت الأرض حولي. لستُ مركزها.
تقلبتُ في الكون، استطلت صرخة ليست منتهية،
حسبتك تسمع، وانتظرت صدى الصرخة...
إذن فلست هناك !
عودتي عبر الطريق الترابي المظلم بالمقابر
ارتعاداتي التي تجمد الأطراف
قلبي الهابط،
ما معنى هذا كله بعد انفلات التاريخ
واستهلاكي صوتي وعبقريتي عند الأطراف
النائية ؟
لا أريدك لي، لذاتك أريدك: لكي أفهم الزمن.
لم يوعز إلى أحد، وُلدتُ مذهولاً،
وُلدتُ بقوة دفع الأسئلة.
أرجوك، إذا كنتَ على الشاطئ الآخر
فقط إرم حجراً صغيراً في الماء،
يعرف الماءُ التموج وينطق أخيراً.
عودتي صامتاً، وانغلاقي على همي،
وركوعي أمام السؤال...
ما معنى هذا كله، ولا أم لي ولا أب، ولا أمهات
ولا أباء في العالم كله.
يُسقط أحدنا الآخرَ من حسابه ؟
إذن أبصق على اسمك وأسمي نفسي إلى الأبد
حتى لو عدتُ بلا شيء....
واقف تحت نخلة العالم أنا
لي شكل النخلة إن لم تكن ثمارها لي،
لي صوت العالم إن لم أمتلكه.

( 9 )
طُعنت مرتين
بخنجر المدينة
وفرشة السكينة
وأمك المسكينة
تظل في الليالي / تعبد كوكبين
" ابني يضيعُ ؟
أَين ؟ "

( 10 )
تظهرُ أم تختفي
يا شعرُ.. يا خاطفي ؟
حَملتني ثقل هذه الأمانة:
الطب والشعر والكهانة.
محبة تلك أم خيانة ؟ !
هل خنتني يا شعرُ ؟
ما أفسدك
يا لضياع من يبيع نفسه
ليعبدك.
لا شعر من يخون
نثراً تكون !

( 11 )
الليل صدر الأم،
يا يمامة.
أمسى قرار البحر وانسجامه
صُبَت كئوسُ الكون
نامت القيامة.
نامي ولا تهتمي.
يا يمامة.

( 12 )
لا أفق يُبصرني
لا سماء
مزروعة خطاي في تهدج الرثاء
غداً تشقني الرياح رافداً للدمع
أو يجتازني الصباح،
جنية ً أصير.
أين حلم الماء.
لا أفق يدركني ولا سماء
خطاي حجم الأرض وانفراجة ُ الرجاء
خفقُ اللهيب بعضي،
وبعضي الغريب.
أنا الذي يفض أو يعيد
بكارة الأشياء

( 13 )
صمتُ القبور في مخارج القوى
إشارة اللغات للدخول في المغامرة
وللبذور حينما تشبُ عن نهادن الثرى
طيارة مقمّرة
لا يفهم الملوك والأباطرة.

( 14 )
لا تسل عن " علىّ "
فقد دحرجته خيول المساء
إلي آخر القمح والفول
حين تساقط َ حقل السماء
وأخفي الصغارَ وهم يصنعون العشاء
تماماً:
يؤدون دور المحبين والأنبياء.

( 15 )
تأتي لكل قارئ: قراءة
وكل مبصر تأتيه: شمعة ُ مضاءة
ومن أباح الحب: ملكة السماء
ومن تطهر قلبه بالدمع: أشعل الفضاء.
إن الذي أعنيه قادمُ
لا ريب
قادم وقت الإدانة والبراءة.


علي قنديل 13 / 3 / 1975





علي قنديل.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى