صبحي شحاته - دفء..

كان يسمع صفيرا، أو ضحكة، أو: بس بس بس، أو الساعة كام من فضلك...
وهو يمر كل يوم تقريبا، بجوار البلوك الآيل للسقوط، وسط المساكن القديمة، حال انتهاء ورديته في مصنع البلاستيك مساء، جائعا ومتعبا، يريد أن ينام بأي طريقة،
لذا لم يرفع وجهه ليرى مصدر الصفير، أو الضحكة المفاجئة، أو غير ذلك، مما كان يعتبره لعب عيال فاضية، رغم أنه كان يمكنه المرور من اتجاه آخر...
بعد ذلك راحت تتساقط عليه أشياء، منها مشبك غسيل أصاب رأسه، تناوله من على الأرض، وهو يتألم بغيظ، ثم ألقاه في النافذة، التي سقط منها، دون أن ينظر إليها، أو نظر بعيون لا ترى، وانصرف وهو يتحسس رأسه...
ألقي عليه في اليوم التالي كوب ماء، فنظر باستغراب وغضب، إلى النافذة، تبسمت له فتاة بشقاوة ودخلت بسرعة، لم يرها جيدا، لكنه انصرف، كأن لم يحدث شيء، وهو يرفع ياقة الجاكت القديم للريح تجففها...
الآن... الريح باردة تضرب النافذة، ومعها المساكن الشعبية كلها بقوة، نظر تحسبا أن تلقى عليه شيئا آخر، كانت الفتاة تقف في النافذة المفتوحة، تحاول غلقها دون أن تفعل... لملم الجاكت القديم حول صدره وهو يرتعش، دون أن ينصرف...
هطل المطر فجأة، ألقت الفتاة إليه مظلة شفافة ناسلة، كانت معلقة بجوار النافذة من الداخل لابد، أمسك بها مبتسما، فردها، فإذا بها ممزقة تماما، رفعها على رأسه، وهو يكبت ضحكه، وراح من تحتها ينظر كأنها تحميه من المطر، الذي يغرقه إغراقا، إلي الفتاة وهي تقف في النافذة بالدور الثاني، المعلق بجوارها حزم الثوم، وأكياس بلاستيك قديمة أخرى، بجوار ماسورة الصرف القديمة، بطول البلوك الكالح المحفر المشروخ...
كانت الفتاة صبية تقارب السابعة عشر تقريبا، أصغر منه بقليل، تبسمت له متنهدة ومحمرة، وهي تقف في النافذة المفتوحة بكامل جسدها الفارع، في بيجامتها الرقيقة المثيرة في براءتها، لا تأبه بالمطر، وتلوح له مضطربة فرحة...
فجأة عطست بشدة رغما عنها، ليست مرة وأنما مرات متلاحقة... والمطر يضرب صدرها الناهد، المثير، وهي تضع خرقة من خرق المطبخ المتسخة على فمها الشهي، كاتمة العطاس المتفلت رغما عنها، وعينيها تحدقان إليه بخجل وإحراج وكسوف،
وهو يقف تحت المظلة المثقبة المتهرئة غارقا في المطر، لا يريد الانصراف، ولا يقوي على كبت ضحكته أيضا، التي باغتته رغما عنه، وتفلتت من قلبه الذي انفتح لأول مرة في حياته، لشخص بدا له أجمل ما في الوجود كله، هكذا مرة واحد وإلى الأبد...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى