مصطفى الحاج حسين - (مقهى الشرق).. مجموعة قصصية

* مقهى الشرق..
نعم.. أعترف بأنِّي جبان، وأخاف،
وصاحب قلب ضعيف.. فليضحك منُّي من يشاء، وليسخر، بل ليتهكم عليّ ما طاب له، ولا يرافقني أو يصطحبني معه إن أراد، أو لا يمشي معي أبداً.
كنَّا وأصدقائي، نجتمع ونجلس في مقهى (الشرق) الكائن بالقرب من عبَّارة الماليَّة (بناية العداس) وكان حبّنا للأدب للكتابة وللقراءة هو الذي يربطنا ويجمع بيننا فنحن من أدباء الجيل الجديد، كلّنا يمارس الكتابة، ودائماً نأتي إلى هذا المقهى حاملين بأيدينا الحقائب والكتب والجرائد والمجلّات، فيقرأ أحدنا للآخر ، كتاباتنا الجديدة،
فنتناقش وننتقد ونحلّل، وكانت الصراحة ترافق أحاديثنا، فنحن متّفقون ألّا نجامل وألّا نذهب للمديح المجاني، لأنّنا نعتبر من الأدباء الشباب، نعمل بجدِّيّة، على تطوير مواهبنا، لذلك لجأنا إلى الصّراحة والصّدق وإلى عدم المجاملة، حتّى نتطوّر وتكبر تجربتنا، ويصير لكلّ واحد منّا، اسمه وحضوره وتجربته، في الساحة الأدبيّة المحليّة والعربيّة، وربّما العالميّة أيضاً، في المستقبل العاجل والقريب.
كنت أحسد صديقي (زاهر) أحد أفراد شلّتنا الأدبيّة، المواظبة على الحضور، بدون إنقطاع، إلى المقهى الذي اعتدنا ريادته بعيداً عن مقهى (القصر)، الذي يعجُّ بالأدباء المتورَّمين بنرجسيّتهم، والملتفّون حول كبير أدباء مدينة (حلب) (صاحب الغليون) الشهير، وهم، أي باقي أدباء المدينة كالأجراء عنده، حيث تكون معظم أحاديثهم، التي لا تتوقّف، عبارة عن نفاق وتمسّح ومسايرة وتملّق وتمجيد وتعظيم لهذا الأديب، لدرجة أن تسبّبوا له بمرض، اسمه جنون العظمة.. لذلك نحن، أي شلّتنا الصّغيرة، والتي لا يتجاوز عددها خمسة أو ستّة أشخاص، هربنا من ذاك المقهى، واتّفقنا أن نجتمع هنا، في كلّ يوم تقريباً.. أقول:
- لقد شردّت عن ما كنت أنوي التّكلّم عليه، وهو صديقي (زاهر) وأنا جدّ آسف على هذه الإطالة.
كان (زاهر) في كلّ مرّة يأتي إلى هنا، وهو محمل بالكتب الثّمينة والعظيمة والجديدة، والتي كنّا نحن رفاقه نحلم ونتمنّى الحصول عليها لقراءتها، حتّى إن كانت على سبيل الإعارة.
كان يأخذ مصروفه من والده بعد، فهو طالب جامعيّ سنة ثالثة أدب فرانسي
وأنا كنت أعمل معلّم بناء بأجر جيّد، ومع هذا لا أستطيع شراء جزء بسيط من الكتب التي يحملها معه كلّما جاء إلى المقهى، وكان في بيته يملك مكتبة عظيمة من حيث العدد والقيمة
الثقافية، رفوف تزخر وتكتنز وتتزاحم وتتكدّس وتصطفّ بشكل متناسق خلّاب، وبالطّبع كنّا جميعنا نحن أصدقاءه، نستعير من عنده الكتب، مع أنّه ليس مهوساً بالقراءة مثلي، وهو أقلّنا غزارة في الكتابة، كلّ بضعة أيّام يكتب صفحة أو صفحتين من روايته، ويقرأها لنا ويستفيد من ملاحظاتنا ليعود مرّة ثانية وثالثة إلى كتابتها.. أقول كان مصدر حسد منّا، ولست الوحيد الذي يغبطه ويحسده، وفي مرّات عديدة كنت أسأله:
- كم تأخذ من والدك خرجيّة حتّى تشتري كلّ هذه الكتب؟!.
وكان يضحك دون أن يردّ على سؤالي هذا.
وكنّا نشاهد معه، أو نجد في مكتبته، أكثر من نسخة للكتاب الواحد، فنتعجّب ونتسائل مستغربين:
- أنت تشتري أكثر من نسخة للكتاب الواحد!!!.. لماذا؟!.
فيردّ:
- هذه كتب قيّمة ومهمّة، وغداً سترتفع أسعارها، وأنا أخذّ من الكتب (مطمورة) أجمعها ثمّ سأقوم ببيعها في المستقبل
.. وكنّا نشتري منه بعض النسخ المكرّرة.. والغريب أنه كان يبيعها لنا بنصف ثمنها، وحين نستغرب ونندهش، كان يضحك ويقول:
- معكم ليست ضائعة، فأنتم أصدقائي
ومن حقّكم عليّ أن أراعيكم في السّعر
فكنّا نشكره ونفرح.
واليوم ونحن نثرثر في المقهى، أخبرته بأنّني سأذهب لأصوّر بعض القصائد الجديدة لي، بعد أن نسختها على الآلة الكاتبة التي أملكها، فطلب منّي أن يذهب برفقتي، وقال:
- هنا عند مدخل بناية (العدّاس) توجد مكتبة فيها آلة تصوير.
قلت:
- أنا لا أتعامل معها، معتاد على التْعامل، مع مكتبة، بالقرب من مقهى (القصر) فأخذ يمتدح لي نقاء التّصوّير
وحسن معاملة صاحبها، وأسعاره الرخيصة، فقمنا وذهبنا.
دخلنا إلى المكتبة، وكان بداخلها رجل مسنّ، نحيل الجسم وضعيف النّظر، يعتمد على نظّارة سميكة البلّور.
أخرجت من حقيبتي أوراقي وطلبت من الرّجل أن يصوّر لي كلّ ورقة من أوراقي ثلاث نسخ.. وبدأ العجوز ينسخ، وأنا وضعت حقيبتي فوق الطّاولة، أمام مكنة التّصوّير، وأخذت أراقب وأنتظر، في حين كان (زاهر) يتجوّل في المكتبة، يتفرّج على الكتب ويقرأ عناوينها، ويختار بعضاً منها ليشتريها.
لكنّ الغريب في الأمر، أن يقترب منّي (زاهر) وبهدوءٍ جمٍّ، حمل حقيبتي وجرائدي، ووضع تحتهم، رزمة من الكتب، حيث، جعلها مغطّاة بالجرائد والمحفظة الجلديّة السوداء.
حين نظرت إليه مندهشاً، من تصرّفه هذا، غمزني بعينيّه، ففهمت منه أنّها إشارة أن أصمت.. وكان الرّجل المسنّ
منهمكاً بالتّصوير، وغير منتبه لتحركات (زاهر) الذي عاد يتفتّل في أرجاء المكتبة، بينما هو أيضا يحمل حقيبتهُ وجرائدهُ ومجلّاته.. انتهى الرجل، وأخرجت من حقيبتي النّقود لأحاسبه، وأنا أسأله:
- كم تريد منّي يا حجَي؟.. قال:
- حسابك ٢٤ ليرة.
أعطيته مئة ليرة، ليقتطع منها حسابه، َحين ردّ لي الباقي، شكرته وهممت بالإنصراف، وكان (زاهر) قد جاء إلى جانبي، وفي يده حزمة كببرة من الكتب، كان قد غطاها أيضاً بحقيبته وجرائده ومجلّاته، تطلّعت إليه، عاود غمزته الخبيثة، فأجبرت على حمل حقيبتي وما تحتها، ويدي ترتعش، وقلبي منقبضاً ويدقّ بعنف.. كرّرت شكري للرجل وخرجنا.
وما إن خرجنا أنا (وزاهر) من المكتبة، وكنت في غاية الخوف والقلق والذّعر،
وبعد أن ابتعدنا مقدار مترين، أو أكثر بقليل عن المكتبة، حتّى التفتُّ إلى (زاهر) الذي لمحت ضحكته المتكوّمة فوق شفتيه الحليقتين، وأردّت أن أعبّر له عن استيائي وغضبي، وعدم موافقته على ما فعل.. وإذ بي أسمع صوتاً يأتي من خلفنا، قفز قلبي، سقطت ركبتاي، إرتعبت جدّاً، وأصفرّ وجهي، ونشف ريقي، ووثب دمي، وصاحت روحي، وماتت نظراتي.. فلتفّت بعجلة لأرى وأستوضح وأعرف من ينادي؟!، ومن هو المقصود؟!، فقد كان الصّوت يأتي من خلفنا :
- يا أساتذة.. من فضلكم توقّفا.
نظرتُ، وإذ بي أبصر ذاك الكهل الذي سرقنا كتبه.. تضاعف خوفي، انبثقَ بداخلي ذعر لا شبيه له، لأوّل مرّة في حياتي أواجهه وأتعرّض له.. وبدون تفكير منّي وجدتني أبتعد عن (زاهر) وأركضُ.. استجمعت كامل قوايَ، وانطلقتُ كالمجنون، مثل سهم طائش خرج من قوس الصّياد، قفزت بلا إلتفات، مررت من أمام المقهى، لم أتوقّف عنده أو أدخله.. عبرت من أمام زجاجه بلمح البصر، اجتزت شارع (القوّتلي)، دخلت مفرق (بستان كليب)
الأضواء تشقّ صدر الظّلام، والنّاس يمشون في زحمة، وأنا أدفع كلّ من أصادفه في طريقي، غير عابئ أو مكترث، بالنّظرات الشّذرة التي تلاحقني، مستغربة اندفاعي وشراسة أنفاسي اللاهثة.. لاحت لي ساعة(باب الفرج)، لم أنظر إلى عقاربها كعادتي في كلّ مرّة أمرّ من جانبها، كنت فارَاً كجرذٍ ملاحق.. انعطفت نحو شارع المتحف الوطني، كنّا سنذهب أنا (وزاهر) لحضور المعرض التّشكيليّ الذي سيفتتح اليوم مساء.. وأنا ألهث بمرارةٍ
وبنطالي يكاد أن ينزل إلى ركبتيّ، إنه يزحل، دائماً يتعبني وأنا أمسك به وأنهضه.. لكنّه الآن وأنا أركض، وأحمل بيديّ حقيبتي وجرائدي وحزمة الكتب المسروقة، ومؤخّرتي الضّامرة والغير مكتنزة، كان من السّهولة، أن يزحل البنطال من عليها، مهما شدّدت الحزام على خصري.. كنت أمدّ يدي، وتحاول أصابعي رفع البنطال، إلى أعلى بصعوبة بالغة:
- اللعنة عليك يا (زاهر)، لقد ورّطتني
،و أوقعتني بمصيبة عظيمة، لا أعرف كيف سأتغلّب عليها.
مؤكّد أنّ الكهل، أنتبه علينا ونحن نحمل الكتب.. (زاهر) حمل بين يدية رزمة هائلة وكبيرة، تلفت الانتباه، قد يصل عددها إلى ما يقارب العشرة، وأنا أحمل ما يقارب الخمسة.. عليك اللعنة يا (زاهر).. كان عليك أن تخبرني، بما تنوي أن تفعل.. وكنتُ حتماً سأرفض، ولن أشاركك سرقة هذا المسنّ البائس.
وصلت المتحف.. دخلت حديقة (عبد الناصر).. بحثت عن مقعد فارغ، وقريب من بوّابة المتحف.. جلست أستريح، فقد أوشك قلبي على التّوقّف
.. لهاثي غطّى المكان، والعرق يتدفّق من جسمي بغزارة مجنونة، مع أنّ الطّقس ليس بالحارَ.. بل يميل للبرودة، فنحن في فصل الرّبيع.
كنتُ أراقب من مكاني المظلم، مجيء (زاهر) إلى المتحف، حسب اتّفاقنا لحضور المعرض التّشكلي.. عيناي كانتا مسمّرتين على الباب الذي سيدخل منه، هذا إن جاء، ولم يستطع الكهل، تسليمه لقسم الشرطة، القريب من المقهى.
وبعد أن هدأت أنفاسي، وعادت دقّات قلبي إلى الانتظام، أشعلت سيجارتي وأنا أكتوي بنار الانتظار، ينهشني القلق ويسكنني الخوف.
انتظرتُ ما يقارب السّاعة، لم أشاهد أو ألمح قدوم (زاهد).. نهضتُ عازماً على الدّخول، ربّما جاء ودخل وأنا لم أنتبه لقدومه.. دخلتُ المتحف وأنا متوجّس ومضطرب وخائف.. كانت صالة العرض كبيرة للغاية، نظرتُ، تأمّلتُ، بحثتُ، حدّقتُ، أمعنتُ النّظر، لكن لا وجود (لزاهر) على الإطلاق، لمحتُ بعض الأصدقاء والمعارف، لم أقترب من أحد.. تسلّلتُ وخرجتُ من الصّالة، دون أن أتكلّم مع أيّ شخص من معارفي الكثر.
اسودّت الدنيا بوجهي، رغم كثافة الظّلام.. مشيت وأنا أسأل نفسي:
- ترى هل قبضوا عليه؟!.. وهل سيعترف عليّ، بحجّة أنّي شريك له؟!.
اللعنة عليه إن فعل.. أنا لست شريكه، فهو من أقدم على الفعل، وأرغمني على مساعدته.. وضعني في مأزق ..حين
دسّ لي الكتب التي انتقاها، والتقطها من فوق الرّفوف، تحت محفظتي وجرائدي، بعد أن غافل العجوز صاحب المكتبة، الذي كان مشغولاً، وهو يصوّر لي أوراقي؟!، التي نسختها على الآلة الكاتبة، لأرسلها إلى النّشر في العاصمة.
توجّهتُ إلى منشيّة الباصات، ووقفتُ عند موقف (مساكن الكلّاسة)، سأذهب لبيته.. عساني أطمئنّ عليه.
طوال الطّريق، وأنا أدعو الله أن أجدّه، وأرتاح من هذا الهمّ الذي حلّ عليّ، بشكل مفاجئ، دون تمهيد أو مقدّمات.
الآن عرفت سرّ مكتبتك الضّخمة يا (زاهر).. أنتَ متسلّط على هذه المكتبة إذاً، مستغلّ هذا الرّجل الطّيّب المسّن
.. ولهذا صار عندك كتب كثيرة، أضعاف ما نحن نملك منها، أنا وأصدقاؤك.. وأنا الذي أعمل، ولي دخل جيّد، بينما أنت وباقي الرّفاق مازلتم طلبة، تأخذون الخرجيّة والمصاريف من أهاليكم.
قالت لي أمْه، خالتي أمّ (زاهر):
- (زاهر) لم يأت بعد.. ذهب صباحاً إلى الجامعة، ولم يعد حتّى الآن.
أين أبحث عنك يا (زاهر)؟!.. هل يمكن أن تكون ذهبت إلى (سيف الدْولة)، عند أصدقائنا، في البيت الشْبابي؟!.. مؤكّد، سأجدك هناك، وإلّا أين ستذهب
؟!.. هذا إن لم يكن قد قبضوا عليك في قسم الشّرطة.
في شقْة الأصدقاء، لم يكن هناك، تضاعف وتفاقم قلقي وخوفي.
ربّما الآن يبحثون عنّي.. يا الله!.. مصيبة وحلّت فوق رأسي.. سوف أتبهدل وأنفضح أمام الجميع.. أهلي وأقاربي وخطيبتي، والوسط الأدبّي.. الموت أهون عليّ من هذه الفضيحة.. لعنك الله يا (زاهر).. هل ستتثقّف عن طريق الكتب المسروقة؟!.
كان بإمكاننا أن نلجأ للاستعارة، من مكتبة الجامعة، ومن مكتبة إتّحاد الكتّاب العرب، ومن المركز الثّقافيَ، والمكتبة الوطنيّة.. كلٍهم عندهم كتب كثيرة وعظيمة، أنا رغم شرائي الكتب، كثيراً ما ألجأ إليهم.. والكتب التي نتبادلها مع أصدقائنا ليست بالقليلة أيضاً.
ماذا سيكون موقفي أمام أبي وأمّي وأخوتي وأخواتي وخطيبتي، وأقاربي وجيراني، وأصدقائي، وجماعة الوسط الأدبّي؟!!!.. آهِ.. اللعنة عليّ لحظة أردّت أن أغطّي عليك في عمليّة السّرقة، كان عليّ أن أحمل حقيبتي وجرائدي وأمضي، دون أن أحمل الكتب التي دسستها لي.. لو كنت أعرف عنك هذا ما كنت دخلتُ بصحبتك إلى المكتبة.. بل ربّما ما عقدتُ معك صداقة حميميّة أبداً.. لم يكن ليخطر في بالي، أنّك من الممكن أن تكون فيك هذه الصّفات السّيئة، أو الخسيسة.. أنت تبرّر للمثقّف أن يسرق الكتب، من أجل قرأتها؟!.. وممَّن؟!.. من هذا الرجل الطّاعن في السّنّ، والذي من المؤكّد أنّه يشكو من أمراض عديدة.. أتريد أن يحدث هذا مع والدك؟!.. وتدَّعي أنّك كاتب روائيّ، تدافع بكتاباتك عن المظلومين والفقراء والمعوزين!!!.. عجيب منك هذا.. يا مَنْ جعلتُ منه صديقي.
عدتُ إلى بيتي، صار الوقت متأخّراً.. وكنت خائفاً من عودتي، فربّما أجد الشّرطة في انتظاري.. سيقبضون عليّ أمام أعين أهلي، ويضعون القيد في يديَّ.. وربّما يضربونني أمامهم وأمام الجيران.. لن أقول سامحك الله يا (زاهر).. بل سأقول:
- لا سامحك الله أبداً.
كان بيتنا على حاله، لم يحدث فيه أيّ إضطراب،فعرفت أن لا أحد جاء ليسأل
عنّي، حمدت الله في سرّي، ورفضت مجالسة أهلي، ذهبت إلى غرفتي بعد أن طلبتُ من أختي، فنجاناً من القهوة.
طوال الليل وأنا مرتعب وقلق، لم أذق طعماً للنوم، وكنت كلّما سمعت جلبة أو صوتاً، أقول لنفسي جاؤوا ليأخذوني، وما من سيّارة دخلت حارتنا حتّى
خلتها سيّارة الشّرطة، وصلت إلينا بعد أن حصلوا على اسمي وعنواني منك.
كانت من أصعب وأقسى الليالي التي مرّت عليّ.. وما إن أطلّ الصّباح، حتّى قفزت لأذهب وأتفقّدك في بيتك، دون أن أتناول فطوري، أو أخبر أبي، بأنّي لن أعمل معه اليوم.
ولحظة أن فتحتَ لي أنت بابكم، كم فرحتُ وسعدّتُ وشعرتُ بالأمان.. وكنتَ أنتَ تضحك بخبث وتسأل:
- أين أنتَ يارجل .. ولماذا هربتَ؟!.
سألتك عن المسنّ، وماذا كان يريد منّا
؟.
اتّسعت ضحكتك أكثر، وأجبت:
- كان قد أخطأ معك في الحساب.. لحق بنا ليردّ لك ليرتين، وهو يتأسّف ويعتذر.
وحين قصصتُ عليكَ، ما حدثَ معي في هذه الليلة اللعينة، تضاعفت ضحكتكَ الماكرة، وأنتَ تخاطبني:
- أنتَ رجل جبان يا صاحبي.. وضعيف
قلب للغاية!!!.
إسطنبول
* مرارة..
لأجلي، اشترى أبي تلفازاً لنا بصورةِ الأسودِ والأبيضِ، لأتوقَّفَ عن ارتيادِ دورِ السينما، إذ لمْ أتركْ فيلماً إلَّا
وأحضرُه مراتٍ عديدةً.
فرحْنا بالتلفازِ كثيراً أنا وأخوتي، لكنَّني لمْ أحقِّق ماكان يرغبُهُ أبي منِّي، فلم أقلِعْ عن عادتي في التّردُّد الدائمِ على السينمات.
وكثيراً ماكنتُ أغافلُهُ برفقةِ أختي (مريم)، لمشاهدةِ الأفلامِ المِصريَّةِ.
وبعد فترةٍ قصيرةٍ، سقط التلفازُ من أعلى الخزانةِ فتهشَّمَ، ممَّا أبقانا لأشهرٍ حزانى لحرمانِنا منَ التلفاز، حتَّى تسنَّى لأختي(مريم) جمعَ مبلغٍ مناسبٍ من جرَّاءِ عملِها في الخياطةِ، حيثُ كانت تُحيكُ وتُخيطُ الفساتينَ الجميلةَ ببراعةٍ
فشترى لنا أبي تلفازأً جديداً، وسُعدنا به، حيثُ أخذتِ العائلةُ تتحلَّقُ حولَه في ليالي الشتاءِ الماطرةِ، وتجتمعُ لتشاهدَ مسلسلَ السهرةِ، فلاينامُ الواحدُ منَّا إلّا بعد أنْ يستمعَ إلى برنامجِ الوشَّةِ الخالدِ.
كان والدي يعملُ في البناءِ، وأنا أشتغِلُ معه، لكنَّ العملَ في هذا الفصلِ الباردِ، يتوقَّفُ تقريباً لذلك كنت أحِبُّ الشتاء، لأتحرَّر من مهنها ٍ لا أطيقُها، بسبب قساوتِها ومخاطرِها، وشدَّةِ التعبِ فيها، وكنتُ أغتنمُ فُرصتي في الشتاءِ لأتفرَّغَ للسينما، بينما كان والدي، يمقُتُ هذا الفصلَ من السنةِ، حيث يكونُ بلا عملٍ، رغمَ مسؤوليتِهِ عن أسرةٍ كببرةِ العَدَدِ، وشديدةِ الاستهلاكِ، فينفقُ ما ادَّخرَهُ من نقودٍ، ثمَّ ليبدأَ بالاستدانةِ من أقربائِهِ ومعارفِهِ.
وحدَثَ أنِ استدانَ من ابنِ عمِّه أبي (شفقٍ) مرةً على أنْ يردَّ له هذا الدينَ، في فصلِ الصيفِ، لكنَّنا لا ندري لماذا استعجلَ (أبو شفق) على مطالبة أبي.
؟!.ما السببُ؟!. ما الدوافعُ +؟!.. لا أحدَ يعلم.. !! عِلماًَّ أنه لم يكنْ هنالكَ زعلٌ، أو أيُّ خِلافٍ بين أبي وبين (أبو شفقٍ)، الذي كان يوماً أجيراً عنده، ولم يفلحْ بأنْ يصيرَ معلمَ بناءٍ، رُغم محاولاتِ والدي الكثيرةِ لتعليمِه.
كان (أبو شفقٍ) في تلك الأيام، ينادونَهُ (عبدو) لكنَّه بعد أن توظَّفَ في الدولة، وصار له شأنٌ في الحزبِ الحاكمِ،تحوَّل
اسمُه، من (عبدو)إلى(أبو شفقٍ)، فلم يعُدْ يناديه أحدٌ باسمه، بما فيهم والدي، إذ صار له هيبةٌ ومكانةٌ ومكتبٌ، وقدِ اتسعتْ رقعةُ شواربِه فوقَ فمهِ الواسعِ التكشيرةِ إلى أنِ أختلسَ ملايينَ الليراتِ من صندوق المحاسبةِ، وأتى بشهودٍ زورٍ، فدفعَ لهم بسخاءٍ، ليحلفوا على المصحفِ الشريفِ، ودفع للقاضي رشوةً ضخمةً، ليصدِّق كَذِبَ الشهودِ، بدونِ تدقيقٍ، فحكمَ عليه بالسجنِ لمدةِ سنةٍ، وكان داخلَ السّجنِ معزَّزاً ومكرَّماً
،إذ راح يتصرَّف وكأنَّه مأمورُ السّجنِ، وكان يرتشي داخلَ السجنِ ويقوم بالوساطات للسجناء وأهليهم وكان بالاتفاقِ مع مديرِ السجنِ يخرجُ خِلسةً من السجنِ، لينامَ في بيتِهِ مع زوجته ليلةً على الأقلِّ في كلِّ أسبوعٍ.
وبعد سِجنِه الترفيهي هذا، تمَّ طردُهُ من الحزب ِفلمْ يأسفْ على ذلك، حيث صار بالمُقابلِ غنياً، وله تجارتُه، ومشاريعُه، ومكانتُه العالية، وراح يتعاطى الخمورَ، ويبحث عن الفاحشةِ ليلَ نهار.
وكان (أبو شفقٍ) ظالماً حتَّى على أولادِه وزوجته فكثيراً ما كُنا نسمعُ منْ أخوته الفقراءِ، عن أخيهِمِ السّارقِ هذا، والذي هو يتفاخرُ بتاريخِهِ ويعتبرُ أنَّ السّرقةَ من الدولة حلالٌ وليست حراماً، وهي حقٌ مكتسبٌ، لكلِّ مَنٍ استطاعَ إليها سبيلا، ومع هذا هو لا يحلّلُ ولا يحرّمُ في كلِّ القطاعات، الخاصَّة والعامَّة، ولأنَّه غارقٌ في المعاصي كان يخشى أن تلِدَ له زوجتُه بنتاً، فيأتي من يعتدي له عليها، أو يجرُّها إلى الرّذيلةِ.. ولهذا كان يرغمُ زوجتَه على الإجهاضِ، في كلِّ حملٍ لها، ولما كانتِ امرأتُه ترفُضُ، وتذهبُ أحيانا لعندِ أهلِها
،كان يهدِّدها بالطلاقِ فتُجبَرُ على الخنوعِ وتحقيقِ مطلبِه، وتخضعُ لعمليَّةِ الإجهاضِ الخطرةِ والممنوعةَِّ قانونياً، وكانت حكمةُ اللهِ أن تُجهِضَ زوجتُه في كلِّ مرَّةٍ ذكراً، فيندمُ أبو شفقٍ ويغضبُ، إذ كان يرغبُ بالذكور حتَّى يرثوا أموالَه الكثيرةَ، ومشاريعَهُ الضخمة.
إنَّ قضيَّةَ مجيئِهِ إلى دارِنا، لمطالبةِ أبي، كانت مفاجٍئة لنا، وغيرَ منطقيَّةٍ أبداً، فهو ليس بحاجةٍ إلى النقود، ولمْ يحُنْ موعدُ سدادِها بعدُ ثم ليس هذا التوقيت مناسبا؟! أمرٌ غريبُ أن يأتي في صباحِ عيدِ الفطر.
وهو لا يدفعُ زكاةٌ، ولا يصومُ رمضانَ، إذاً هل جاء لإذلالِ أبي؟!..أم أنَّه كان مخموراً، وليس بكاملِ وعيه؟!.
أكان يريد الإنتقامَ من أبي، لأنه كان ذاتَ يومٍ معلِّمَه في الشغل؟!.. لا ندري ما هي الدوافعُ، لكنَّه جاءَ صباحَ العيدِ.
سمعتُ صوتَ سيارةٍ، وَقَفَتْ أمام بابِ دارِنا، ثم أخذ زمورُها المزعجُ يصدحُ ويتعالى، خرجتُ..وفتحتُ الباب، لأنظرَ
من هذا قليلُ الذوقِ، تطلَّعتُ إليه وعرفتُهُ، بينما هو كان جالساً خلفَ مقوَدِ سيارتِهِ البيضاءِ بعنجهيَّةٍ.
هتفتُ بفرحةٍ:
عمّي (أبو شفق)!! أهلاً وسهلاً، تفضَّل.
ظلَّ عابساً، ونظرة التعالي بادية في عينيه، ومن منظر شاربه الضخم ،قال:
– أينَ أبوك؟. قلتُ:
– إنَّه بالداخل، تفضل يا عمي.
لكنَّه ظلَّ متجهِّماً، عابساً، وقال بصوتٍ مُتعالٍ وآمرٍ:
– نادي على أبيكَ بسرعةٍ.
دخلت إلى الدار وأنا أصرخ:
أبي، لقد جاء إلينا عمي(أبو شفقٍ)، وهو ينادي عليك.
خرج أبي من الغرفة، وعلائمُ الدهشةِ كانت باديةً على ملامحِ وجهِه، (فأبو شفقٍ)، لم يسبقْ له أنْ زارَنا، ولا في الأعيادِ، كما كان يفعلُ أخوتُه، وكذلك كان أبي يبادلهم الزيارات.
استقبلَه أبي ببشاشةٍ واضحة، مرحباً به بصوتٍ عالٍ، فيه ما يشي بالحيرةِ والارتباكِ والاستغرابِ.
– أهلاً ابنَ العمِّ، يا مرحباً تفضَّل، كلّ عامٍ وأنتَ بألف خير.
لم يكنْ من عادةِ أبي، الترحيبُ بهذه الطريقة فهو ترحابٌ مصطنعٌ ليس نابعاً من القلب.
ردَّ(أبو شفقٍ) باقتضابٍ ، ومن دون أنْ تُطِلَّ بسمةٌ على شفتيهِ الرازحتينٍ تحت شنبِهِ غزيرِ الشَّعرِ، الذي لاينسجمُ مع وجهِه الضيِّقِ الصغيرِ:
– أهلاً، أين أنتَ ؟! لم نعدْ نشاهدُك، بعد أنِ إستدنتَ منِّي؟!.. أتحسبُ أنَّك نصبتَ عليَّ واختفيت؟! واللهِ أنا أقومُ بفضحِكَ، وأتسبَّبُ لك بالبهدلةِ أمام كلِّ العالمِ، وآخذ حقِّي منكَ غصباً عنكَ.
كان كلامُه صدمةً كبيرةً لأبي، وعلى مرأىً منَّا نحن أولادُه المتحلِّقونَ حولَ السيَّارة، أمامَ بابِ دارِنا يومَ العيدِ، وممَّن؟! منِ ابنِ عمِّه الذي يصغَرُهُ بالعمرِ، أجيرِه السابقِ !!!.فأبو (مخطة)
كما كان يلقبونه، يطالبه بمبلغٍ ضئيلٍ وتافهٍ، وهو المكتنز بالنقود.
إزدادَ وجهُ أبي امتقاعاً، وتضاعفَتْ سُمرتُه، وصار يميلُ إلى السوادِ الداكن، بينما طفحَتْ عيونُهُ بالاحمرارِ والغضبِ
صوتُه كادَ يختنقُ ، وبسمتُه انعدمتْ عند شفتيه.
يا الله!!!.. لم أشاهدْ أبي مِنْ قبلُ، يتعرَّضُ لمثلِ هذا الموقفِ اللعينِ السخيفِ التافهِ الظالمِ المؤلمِ غير الإنساني، خشيت عليهِ أنْ يحدُثَ له مكروهٌ، كدْتُ أصرُخُ بهذا العمِّ الشنيع:
– طزْ منكَ ومن نقودِك المسروقةِ، نحن نعرِفُ تاريخك القذرَ ياحرامي.
لكنَّني خشيتُ من أبي، فهو لا يسمحُ لي بالتدخُّلِ حتَّى مع الغريب، فكيف أتدخَّل مع ابنِ عمه؟! إنَّه حتماً سيضربُني، ويأمرُني بالدخولِ.
أخيراً انبعثَ صوتُ أبي، عميقاً شجياً، حين قال:
– لكنْ أنا وعدتُك أن أردَّ نقودَك، في الصيف ونحن لازلنا في الشتاءِ، فلَمْ أشتغِلْ بعدُ، ولم يحُنِ الموعد.. ثم استطرد:
– لِمَ هذه العجلةُ؟! هل أنتَ بحاجةٍ، أو بضائقةٍ لا اسمحَ اللهُ.
وما كادَ أبي ينهي كلامَه، حتَّى زعقَ:
– يا أخي، مع هذا أنا أريدُ كاملَ نقودي، لن أنتظرَ مجيءَ الصيف، أريدُ نقوديَ حالاً، وإنْ شاءَ اللهُ، تذهبُ لتبيعَ أولادَك، أنتم لا تستحقُّونَ المساعدةَ،
أوالوقوفَ بجانبِكم، لا أنتَ ولا أخوتي الحقراء، ولا غيرُكم من الأقرباءِ عديمي الذوقِ والفَهمٍ.
سألَهُ أبي باستنكارٍ:
– هلْ هكذا صارتِ العلاقةُ بيننا؟!. فلو أنِّي أعرفُ لما قصدْتُك، واستدنْتُ منكَ.
قال (أبو شفقٍ) متهكِّماً:
– إذاً عجِّل ردَّ لي نقودي.
أجابه أبي باحتقارٍ:
– حاضر، اليومَ وقبل أنْ تنامَ، ستصِلُكَ نقودُك.
شغَّل سيارتَه، تأهُّباً للسير، لكنَّه تكلم:
– أنا في الانتظارِ، وإنْ لم تأتِ، أعرفُ كيف سأتصرَّفُ.
انطلقَ بسيارتِه، دونَ سلامٍ أو وداع، غيرَ عابئٍ بمَنْ في الشارعِ، منْ أطفالٍ أو مارَّة.
دخلَ أبي الدار، في حالةٍ يرثى لها من شدَّةِ القهرِ والغيظِ.
سألتْه أمِّي، وكان أخوتي قد سرَّبوا لها الخبرَ:
– خَيرٌ ؟!.. مابه (أبو مخطة)،هل جاء لمعايدتِك؟!.. فأنت ابن عمِّه الكبير، ومعلمُه السابقُ في الشغل.
قال أبي وهو يَدْرُجُ سيجارتَهُ:
– يبقى الساقطُ ساقطاً، مهما علا شأنُهُ
وعظُمَ قدرُه.
صاحت أمِّي:
– وهلْ لهذا الوضيعِ قدرٌ أو شأنُ؟!..إنَّه مجرَّدُ حراميٍّ؛ أقسَمَ على كتابِ الله كَذِباً، وسيرتُه معروفةٌ عند القاصي والدّاني، لكنْ قلْ لي ماذا ستفعلُ؟.. وأنتَ وعدتَهُ أن تردَّ إليه نقودَه النجِسةَ هذا اليوم؟!.
دخلَ أبي إلى الغرفةِ، دون أن يجيبَ على سؤالِ أمِّي.
هرعتْ أختي(مريم) لتُحضِر لأبي، إبريقاً منَ الشايِ التي يطلبُها، خاصَّةً حين يكونُ منزعجاً، أو مقهوراً.
دخلتُ أنا إلى الغرفةِ المجاورةِ، كي أدخِّن بالسِّر عن أبي.
وبعد مِضي ما يقاربُ الساعةَ، وبعد أنْ عدتُ إلى الصَور الملونة في المجلات
الفنيّة، وفجأةً، سمعتُ جلَبَةً، وصراخاً
وزعيقاً، ينبعثُ من بيتِنا، في الغرفةِ الثانيةِ، فأطفأتُ سيجارتي على عجلٍ، ورميتُ المجلة من يدي، وهرعتُ لأستطلعَ حقيقة الأمر، وأعرف ما يحدث، فالأصوات أخذتْ تتعالى وتزدادًَُ حدّة وقوّة.
وما إن دخلتُ الغرفةَ ، حتَّى صاحت أُختي(مريم) وهي تبكي، كأنَّها تستنجِدُ بي:
– تعالَ وانظرْ أبوك.. يريدُ أن يبيعَ لنا التلفازَ، إنَّه لي، طَلِعَت عيوني مِنَ السهرِ، حتى اشتريتُه منْ تعبي وأنا ساهرةٌ على مكنةِ الخياطةِ.
وقبل أن أتكلَّمَ، وأنا على أيِّ حالٍ عاجزٌ عن الكلامِ أو التدخُّلِ، فلا أستطيعُ موافقةَ أبي على بيعِ التلفازِ، لأنه فعلاً لأختي، وثمنُه من تعبِها، وهي متعلقةٌ به أكثرَ منِّي، ولا أقدُرُ على الاحتجاجِ، فالموقفُ الذي تعرَّضَ له أبي اليوم، يساوي عُمُري كلُّه، ويستحقُّ لو كان بمقدوري أنْ أبيعَ دمي، وأساعدَ أبي، على الخلاصِ من هذه الورطةِ اللعينة.
كان أبي يصرُخُ بحِدَّةٍ:
– قلتُ لكِ يا ابنةَ الكلبِ، في الصيفِ سأشتري لكمُ أفضلَ منه، سأحضِرُ لكم تلفازاً ملوَّناً.
زعقتْ (مريم) و دموعُها قد بدأت تقطُرُ من خدَّيها:
– لا أريدُ تلفازاً ملوَّناً، اترُكْ لنا هذا، ونحن بألفِ خيرٍ.
اقتربت أمِّي من أُختي شاحبةَ الوجهِ، ترجوها:
- يا ابنتي..الله يرضى عليك، دعي أبوك يتخلَّص من هذا النذلِ، والله لو كان عندنا غسَّالة أو براد، لَقُلتُ له بِعْ ما يناسِبُكَ واترك لها تلفازَها.. اصبري يا (مريم)، الله كريمٌ سيعوِّض علينا بالأفضلِ.
باع أبي التلفازَ، فبكتْ أختي كثيراً، وبكيتُ أنا في الخفاءِ قليلاً.
حلب
* كرامة أحمق..
حين نلت جائزة الإبداع الأدبي والفكري من دولة الكويت، ذهبت إلى دمشق لأصرف الشيك، لأن البنك في حلب لم يسلمني المبلغ، ذهبت بمفردي ليلا، وكنت في تمام الثامنة صباحا أقف أمام البنك.. صرفوا لي المبلغ، وعلى الفور عدت راجعاً إلى حلب .. الوقت صباحا والركاب قلة والبولمانات كثيرة، قطعت تذكرة وصعدت، وقدمت التذكرة للمعاون، فقال لي لا ركاب كثر، إجلس حيث ترغب.. اخترت مقعدا، خلعت معطفي ووضعته مع حقيبتي الصغيرة على الرف فوق رأسي وجلست.. وحين تحركت الحافلة لتمشي، صعد رجل يشكو من شلل في رجله، ومعه امرأة.. والمقاعد كثيرة وفارغة، نحن بضعة ركاب، لا يتجاوز عددنا العشرة، لكن هذه المرأة نظرت في تذكرتها، وتقدمت نحوي، قالت:
- هذا المقعد لنا.
ابتسمت لها ، وقلت:
- أختي المقاعد كلها فارغة.. أقعدي أينما أردت.
قالت وبحدة:
- هنا مكاننا.. وسنقعد هنا.
.
نظرت إليها.. تأملتها جيداً، تبدو هذه المرأة رزيلة ووقحة ووسخة.. وزوجها عاجز، وتبدو عليه علامات الطيبة، فحاولت إقناعها بلطف:
- أختي ما الفرق؟!.. أنا سألت المعاون وقال لي أجلس في المكان الذي تريده.. وجلست هنا بعد أن خلعت معطفي ووضعت حقيبتي كما ترين، فلماذا تريدين عذابي؟!.. المهم أن نصل بالسلامة . صاحت غاضبة، بطريقة بشعة:
- أنهض من مكاننا يا عديم الذوق.
وقبل أن أرد عليها ، فأنا شعرت برغبة بالتحدي.. قال لها زوجها:
- تعالي إلى هذا الكرسي.. يعني ما الفرق؟!.
زعقت بوجهه بانفعال وعدم اكتراث واحترام:
- اسكت أنت لا علاقة لك بالأمر.
قررت أن لا أعطيها المقعد مهما كلف الأمر، مع أنه لا فرق عندي بين مقعد وآخر .. بل لست جاهزا لمثل هذه المشكلة التافهة.. فأنا سعيد بحصولي على هذه الجائزة العربية، والتي كانت حلم جميع أصدقائي، وأنا لا أحمل الابتدائية، في حين كان عدد من شارك في هذه المسابقة يتجاوز الثلاثة آلاف
، نسيت الرقم، وكلهم من حملة الشهادات العليا.. ثم أن سعادتي عظيمة بهذا المبلغ الذي حصلت عليه، أكبر مبلغ ألمسه وأحوذ عليه في حياتي ويكون لي.. منذ اليوم لن تحتج زوجتي على متابعتي للكتابة والنشر ، وسيتوقف أبي عن قوله:
- الأدب لا يطعم خبزاً..
لكن هذه المخلوقة التافهة والساقطة من أين برزت لي، لتقتل عليّ فرحتي، وتشتّت لي خيالاتي وأحلامي؟!..
وتقدم مني المعاون يسألني بلطف:
- أستاذ من فضلك تعال إلى المقعد المجاور.
وتوقف السائق عن المسير، وكان قد خرج من المحطة، واجتاز مسافة ليست بالقليلة.. وتدخل بعض الركاب، والكل يرجو أن ننهي هذه المهزلة.. فقلت مخاطباً المعاون:
- حين أعطيتك تذكرتي، قلت لي أن أجلس على المقعد الذي أختاره.. وأنا اخترت هذا الكرسي، فلماذا لا تطلب منها أن تجلس ومن معها على كرسي آخر؟!.
قال المعاون وعلامات الحرج والارتباك باديتن عليه:
- يا أخي..هي مصممة أن تأخذ الكرسي
المخصص لها.
وتحرك السائق من خلف مقعده، وتحرك نحونا ، قائلاً في استياء:
- سوف ألغي الرحلة بسببكم.. ما رأيكم؟.
صاحت المرأة الفاجرة، والتي شكلها وهنداهما تدلان على مستواها الوضيع:
- ناس لا تحترم النظام والقوانين.
صرخت بازدراء:
- وأنت ما شاء الله، تبدين في قمة التحضر والذوق.
وهنا نهض رجل كان مقعده يقع خلف كرسي السائق، أي في الصف الأول.. واتجه إلينا، كان ضخم الجثة، غزير الشنب، مكفهر الوجه.. تقدم نحونا مسرعا، في عينيه غضب واضح.. وحين وصل إليّ.. صرخ:
- أنت رجل لا يفهم.. ولا تأتي بالذوق.. هيا انهض من هنا قبل أن أحطم وجهك.
تفاقم الوضع.. وجدت نفسي في ورطة لا نهاية لها.. والمرأة استبشرت خيراً بهذا الحيوان.. وأنا في قرارة نفسي ألعن نفسي على هذا المأزق الذي وضعت نفسي فيه.. ليتني منذ البداية نهضت وتخليت لهما عن هذا الكرسي اللعين.. ولكن الآن وفي هذه الطريقة المهينة، صعب عليّ جداً التنازل والقبول، والرضوخ للأمر الواقع.. كرامتي لا تسمح لي أن أهان.. كبريائي تمنعني من القيام بكل هذا التنازل.. يا ربي لم أرسلت لي هذه الداعرة؟!.. ما عساني أن أفعل؟!.. الوضع تأزم.. الرجل البغل يقف فوق رأسي ويلتقط أنفاسه بصعوبة، يبدو أنه مجنون، عصبي إلى أبعد الحدود، جسده الضخم بحجم جسدي بمرتين.. أردت أن أمهد لتنازلي، لخيبتي، لمرارتي، لانهزامي،
لاستسلامي، فقلت:
- كلكم وقفتم معها لأنها امرأه.. لكنكم لم تكونوا مع الحق والمنطق.
لكن هذا المتوحش الذي يقف فوق رأسي، لم يمهلني.. بل امتدت يده الضخمة وصفعتني على وجهي.. وهو يصرخ في هياج:
- قلت لك انهض يا عديم الذوق.. وإلّا قضيت عليك.. أنت لا تعرف مع من أنت تتحدث.. ليكن في علمك.. أنا رئيس مرافقة سيادة العميد الركن (مصطفى التاجر) رئيس فرع الأمن السياسي.
هالني ما أنا فيه من موقف فظيع.. أنا الآن أضرب.. أتعرض للضرب من قبل هذا الخنزير.. بسبب تلك الحقيرة الفاجرة.. يا الله!!!.. اليوم هو يوم فرحتي، يوم سعادتي.. أنا حصلت على أهم جائزة عربية في الأدب، عن مجموعتي القصصية الأولى.. الكل اليوم يحسدني، وكان يتمنى أن ينال الجائزة بدلا عني، فأنا بنظرهم لا أستحقها، لأني لا أحمل حتى وثيقة الإبتدائي، في حين هم يحملون الشهادات الجامعية.. ولكن ما العمل الآن.. أردت التراجع.. لكن هذا السفيه لم يمنحني الفرصة.. وأنا بهذه الطريقة لا ألبي وأتنازل، حتى لو قتلت.
أحتاج إلى معجزة من عندك يا ربي.. معجزة سريعة، خاطفة.. لأنجو من هذا الموقف.. زعقت وأنا أهم بالنهوض:
- أتضربني؟!.. أنت تضربني!!!.. ومن أجل هذه التافهة.. أنا سأريك.
قلت هذا، بينما كنت في داخلي أهزء من نفسي:
- وماذا ستفعل يا بطل؟!.. هذا يأكلك من دون ملح.
لكن هذا الضبع، لم يتراجع، ولم تهتز له شعرة من شنبه الغزير الشعر والأشقر اللون، بسبب تهديدي له.. بل امتدت يده إلى خاصرته وأستل مسدساً، أشهره بوجهي، وهو يصرخ:
- وحق الله سأقتلك.. سأفرغ طلقات المسدس في صلعتك.
دب الذعر بين جميع الركاب، والسائق،
والمعاون وزوج المرأة العاجز، بل وحتى المرأة خافت وندّت عنها صرخة ذعر.. وهي تصيح:
- لا.. لا تقتله.. خلاص.. ما عدت أريد كرسيه، دعه له.
وأنا بدوري كانت أوصالي ترتعد، رغم محاولتي كبح ارتعاشي.. وبذلت جهداً عظيماً لكي أتظاهر بالتماسك والشجاعة.
هتف السائق، بعد أن كان يطلب منا أن نصلي على النبي، ونهدأ:
- الحمد لله.. ها هي الأخت.. تنازلت له عن الكرسي.. وانتهت المشكلة.
وانبعث الأمل في داخلي من جديد.. انتهت المشكلة، وسأعود لخيالاتي وأحلامي.
لكن صاحب الشنب الكثيف، عنصر المخابرات، زعق كالحيوان:
- بل سينهض غصب عنه.. وإلّا أفرغت المسدس في صلعته.
عاودتني موجة التحدي.. شعرت بالاهانة.. مع أني أتمنى من كل قلبي أن أغادر هذه الحافلة، دون أن يعيدوا إليّ نقودي، وسأخذ تكسي وأعود للكراج لأصعد على حافلة أخرى.. قلت في يأس وأنا أتظاهر بالشجاعة:
- هيا اقتلني.. ماذا تنتظر؟!.. لن أترك الكرسي.
وصاح الجميع بصوت مليء بالضيق:
- يا جماعة صلوا على النبي.
وما كان من البغل الذي يشهر مسدسه
.. إلّا أن ضربني بأخمص المسدس على رأسي ، وهو يزئر كوحش:
- وحق الله سأقتلك.
وصرخت جوارحي بجنون وقنوط:
- يارب أعطينا حلاً يرضي الجميع.. يا رب لا أريد أن أموت.. أريد أن أبقى وأعيش، وأكتب.. سأكون كاتباً عظيماً، مثل نجيب محفوظ.. ونزار قباني.. ومحمود درويش.. وزكريا تامر..
وفجأة.. ومثل انبعاث البرق.. خطر لي أن أقول:
- إن كنت تظن نفسك رئيس مرافقة سيادة العميد (مصطفى التاجر)... فأنا ابن عمة الرائد (طلال الأسعد).....
وما إن أنهيت كلامي هذا، وأنا في غاية السوء والقلق .. حتى رفع مسدسه عني.. وتطلع بي بتمعن.. وهتف:
- قول وحق الله إنك ابن عمة سيادة الرائد طلال الأسعد.
وكان الرائد (طلال الأسعد) هذا، هو بالفعل قريب لصديق عزيز على قلبي.. ولا أعرف كيف تذكرته.. في هذا الوقت الغصيب.. قلت:
- نعم أنا قريبه.. واليوم ستلقاني عنده.
تراجع ذو الشنب الضخم.. نظر إليّ باسماً.. وهتف بفرحة:
- لك أبوس اللي خلق الرائد (طلال).. سيادته حبيب قلبي.. واقترب مني ليحضنني، وتنهمر على رأسي ووجهي قبلاته الحارة والصادقة.
وهكذا انتهت المشكلة.
إسطنبول
كشك الأدباء..
أنا تعرَّضت للسرقة، للأسف الشديد، ولا أستطيع أن أتهم أحداً منكم.. لأنكم أحبتي وأنا أثق بكم جداً.. لا أحد غريب منكم عني، فأنتم أخوتي وأصدقائي، وأعرف أنكم تحبوني، ولا يمكن لأحد منكم أن يغدر بي، ويطاوعه قلبه على تحطيمي ويتسبب لي بدخول السجن بتهمة النصب والإحتيال، ويسيء لسمعتي أمام الناس، وخاصة أمام رفاقي في الوسط الأدبي، الذي أنا أنتمي إليه..
وأنتم تعرفون أن رأس المال الذي أعمل به، ليس لي.. فهو أمانة عندي، أعطاني الدكتور نقوده بهدف التشغيل، هو يستفيد وأنا أستفيد، وأنا بدوري أمَّنت لكم فرصة عمل مريحة بأجور جيدة.. الآن ماذا بي أن أفعل؟!.. كيف سأواجه الدكتور؟!.. كيف أقابله؟!..
وماذا أقول له؟!.. هل أخبره أني انسرقت؟!.. وهل سيصدقني؟!.. وطبعاً سيسألني:
- من الذي سرقك؟!.
ماذا سأجيبه؟!.. وأنتم كلكم محسوبون عليّ، أي أنتم جميعكم من طرفي.. هو لم يختر أي واحد منكم.. بل هو لا يعرفكم، ولا يتعرف على أي واحد منكم.. هو يعرفني أنا فقط.. أعطى نقوده لي.. لأنه كان يثق بي، ويريد لي الخير.. فقد سحب من البنك ما كان قد أودعه، وهو حصيلة شقاء عمره في التدريس بالجامعة وتأليفه الكتب ونشاطه الثقافي الكبير.
كنت مميَّزاً عنده، كان بمثابة الأب لي.. شجعني على الكتابة، مدَّ يد العون لي.. سلط على موهبتي الأضواء.. منحني الجوائز القيمة.. قرَّبني منه، وأنا الذي لا يحمل الوثيقة الإبتدائية، في حين كان يلتفون حوله العشرات بل المئات ممن يحملون الشهادات الجامعية، والماجستير والدكتوراه.
كنت محسوداً من قبل أغلبيتهم، بسبب اهتمامه ورعايته وحبه لي.
فماذا أقول له الآن؟!.. وأنا عليّ في كل مطلع شهر أن أذهب إلى بيته وأدفع له أرباحه.
لو أخبرته سيقول:
- أنت وحدك المسؤول عن عمالك فهم جاؤوا من قبلك، وهم أخوتك وأقربائك وأصدقائك.. لا دخل لي بهم.. أنا أعرفك أنت، وسند الأمانة أنت الذي وقعت عليه عند المحامي.
وربما يسألني:
- بمن أنت تشك؟!.
بماذا أجيبه؟!.
أنا لا أشك بأحد منكم.. مستحيل أن أفكر بهذه الطريقة.. فأنتم أعزاء وجديرون بثقتي.. ولكن كيف أرد عليه؟!.
ستكون فرصة عظيمة لمن يحسدوني ليتحدثوا عني، خاصة لمن لم يحالفه الحظ ويفوز بالجائزة العربية، التي نلتها أنا في هذه السنة.. فقد جعلت كرههم لي يزداد ويتفاقم.. والآن صار لهم ممسكاً عندي، سوف يلطخون اسمي الذي تعبت عليه كثيراً، وينسبون لي أقذر الصفات وأبشعها.. منهم من سيجعل مني زير نساء، وبعضهم سيؤكد بأنني ألعب القمار، وأتعاطى الخمر أو ربما المخدرات.. أو أنني قمت بإخفاء النقود، ثم أدعيت خسارتها.
وأنا ليس بمقدوري الدفاع عن نفسي.. ولا يمكنني أن أوجه تهمة السرقة لأحد منكم، لأن من أقدم على سرقتي، كان حتماً شديد الذكاء، ولئيماً، وهو قادر على الدفاع عن نفسه، وقادر على إثبات التهمة عليَّ.


مصطفى الحاج حسين
إسطنبول



=======================
الفهرس:
1 - مقهى الشرق
2 - مرارة
3 - كرامة أحمق
4 - كشك الأدباء


--------------------------------------------
مصطفى الحاج حسين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى