حواس محمود - الأدباء والزمن

عندما تتحدث الناس في أمورها الجارية وكأنها متفقة على معنى المقصود من كلمة ” الزمن ” أو ” الوقت ” وإذا طلب إلى أحد منهم أن يفكر قليلا ليعطي تعريفا واضحا تحير واندهش لأنه لا يستطيع الإجابة ، وإذا استطاع فيندر أن تكون إجابته دقيقة ، وكلما حاول تحليل طبيعة الكلمة وما تحمله من تفسيرات ودلالات ومعاني اصطدم بصعوبات على الفور ،ويظن أثناء المناقشة أن الألفاظ الجارية تثير الحركات والمتتاليات ، وتتشابك الآراء والأفكار ، وتصل في نهاية المطاف إلى وجهات نظر متعارضة لا تشفي غليلا ، لقد تعددت تعريفات الزمن إذ يعرفه أفلاطون : ” إنَ الزمن هو الصورة المتحركة للأزلية ” ويعرفه أرسطو بقوله : ” إن الزمن هو مقياس الحركة ” فيما يقول عنه الفخر الرازي ” الزمن هو جوهر يسيل ” والحقيقة أن الزمن كلمة تدل على مرور الثواني والدقائق والساعات والأيام والشهور والسنين ، ويرتبط ارتباطا وثيقا بحياة الإنسان والأحداث التي يشهدها ، فقد يشعر في حالات القلق والإحباط بثقل اليوم ، يقول عنه بأنه كالدهر ، وقد يشعر في حالات الفرح والغبطة والسعادة بأن اليوم مر وكأنه ثوان أو دقائق ، وفيما يتعلق الأمر بموقف العلماء والأدباء والمفكرين من الزمن فإنهم ينظرون أنه من خلال مقاومتهم للفناء تتمثل بتأليف الكتب وتصنيف الأسفار التي تظل بعد رحيلهم شاهدة على أعمالهم وتخلدهم من خلال هذه الأعمال وتمجد جهودهم العالمية والأدبية العظيمة ، ولقد أعلن الكاتب الايرلندي الساخر ” جورج برناردشو ” أن عمر الإنسان قصير ولكي يحقق إنجازا ما عليه أن يعيش مئة عام ، وهناك بعض الأدباء الذين يتنبؤون بأحداث الزمن المستقبلية من خلال بصيرتهم النافذة ، وعقلهم المتقد ، وإحساسهم الرهيف ، ومما يروى في هذا الصدد أن نجيب محفوظ قد رصد في روايته ” ميرامار ” وقائع وأحداثا استخلص النقاد من خلالها أن الواقع المزري في مصر الستينات سيقود إلى هزيمة عسكرية ، وقد وقعت الهزيمة حقا عام 1967 م وكذلك الشاعر السوري ممدوح عدوان في روايته ” الأبتر ”
وكذلك طالعتنا عنوانات لدواوين شعرية توحي بنبوءة أصحابها واستشرافهم للمستقبل ، فمن المعروف أن فتاة تدعى ” زرقاء اليمامة ” كانت ترى بعينها ما لم يكن يراه الناس فهي بعيدة النظر وحادة البصر ترى ما هو على مسيرة ثلاثة أيام ، وقد نبهت قومها ذات يوم على أعداء قادمين إليهم فلم يصدقوها وعاقبوها ، وقد أفاد من هذه الحكاية التاريخية الشاعر المصري الراحل ” أمل دنقل ” حين عنون ديوانه الشعري ب ” البكاء بين يدي زرقاء اليمامة ” وصدر أيضا في دمشق ديوان شعري للشاعر السوري الراحل محمد عمران سنة 1979 بعنوان ” أنا الذي رأيت ” ، هذا ولقد عبر الشاعر الجاهلي عن الزمن بلفظة ” الدهر ” وهي لفظة كثر ورودها في الشعر الجاهلي كثرة مفرطة وخاصة في شعر الأطلال والرثاء ، وقد اعتبر الشعراء الجاهليون الدهر بمثابة المسؤول الأول عن الدمار الذي يلحق بالأشياء ، وعن الموت الذي يلحق بالأحياء ، وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة ” نموت ونحيا ولا يهلكنا إلا الدهر ” في تصوير من القرآن الكريم لما كان الناس يعتقدون به قبل الإسلام ، وجدير بالإشارة أنه لم يقتصر إحساس الشاعر الجاهلي بالزمن وتعبيره عن هذا الإحساس على غرض الرثاء فحسب ، بل تجاوز ذلك إلى مختلف الموضوعات الشعرية الأخرى، يقول في هذا الصدد الناقد الكبير محمد النويهي : ” فمن وراء هذا الشعر يكمن إحساسهم بالزمن ، ومأساة انقضائه إحساسا قويا بليغ المرارة تجلى هذا الإحساس في مختلف موضوعاتهم الشعرية ، في وصفهم لرحيل المحبوبة وانفصام الصداقات وتبدد الشمل وخراب الديار التي كانت آهلة ، وانقضاء الربيع الرحيم الخصيب ، ومجيء الصيف الجاف الحار ، والشباب الذي تولى سريعا بكل عنفوانه ومباهجه ولذاته ومصارع الحيوان الوحشي ، وتقلبات الصراع بين الإنسان والإنسان من نصر إلى هزيمة ، ومن حياة إلى الموت ففلسفتهم في الموت والحياة لم تحضر في قسم الحكمة من قصائدهم بل شاعت وتغلغلت في أقسامها الأخرى فمن ورائها جميعا تكمن الحقيقة الرهيبة حقيقة الموت والفناء التي تنتظر كل مخلوق وكل حالة .
يقول المتنبي في الزمن ” الدهر ”
لم يترك الدهر في قلبي ولا كبدي شيئا تتميه عين ولا جيد
ماذا لقيت من الدنيا ؟ وأعجبه إني بما أنا شاك منه محسود
ويقول أيضا :
ولو برز الزمان إلي شخصا لخضَب شعر مفرقه حسامي
ولم يقتصر تناول موضوع الزمن على الشعراء وحدهم ، ولكن للروائيين – أيضا- منه نصيب : فها هو الروائي الفرنسي المشهور ” مارسيل بروست” يؤلف في العقد الثاني من القرن المنصرم رواية بعنوان ” البحث عن الزمن المفقود” وتشير الناقدة ” ماري م. كولم ” إلى أنَ أثر الزمن في الناس لم يحظ بتعبير حقيقي عنه في الأدب إلى أن ظهر ” مارسيل بروست” الذي جعل من الزمن بطل روايته ” البحث عن الزمن المفقود” وفيها يدلل على أن الزمن هو أقوى الأمور كلها فعلا في حياة الإنسان ، ويمكن القول بأن مؤثرات الزمان لم تكن لتقتصر على ما كتبه بروست فحسب ، فهو حاضر في أدب بروست وجويس ومان فرجينيا وولف وفولكنر وسارتر، إنه كامن في شعر فاليري وريكله وإيليوت وريفردي ، كما أنه مرتكز جمالية سترانفسكي ، هذا ولقد ألف ميخائيل باختين كتابا بعنوان” أشكال الزمان والمكان في الرواية” ترجمة يوسف حلاق ، ونشر ته وزارة الثقافة السورية بدمشق 1990 ، وهكذا نجد أن الزمن موضوع فلسفي وأدبي وحياتي اجتماعي يهم جميع من يحيا على وجه هذه المعمورة ، لما له من أبعاد تاريخية وحضارية كبرى ، ولما له بصمات قوية على صفحات التاريخ ، فما أحرانا أن نقتنص الفرصة – اللحظة التاريخية الراهنة- لتطوير مجتمعاتنا وحياتنا وقيمنا وثقافتنا للحاق بركب الحضارة العالمية .


المراجع:
1- حمدي مصطفى حرب ” قصة الزمن” الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر- القاهرة 1970
2- عادل الفريجات ” رحلة في رحاب فكرة الزمن” مجلة المعرفة السورية العدد 423 ديسمبر 1998 ص 179
3- الشعر الجاهلي – منهج في دراسته وتقويمه- 1/428
4- الأديب وصناعته – دراسات في الأدب والتقد اختارها وترجمها جبرا ابراهيم جبرا ص 118- ص119 بيروت ط2 – 1983
Continue Reading
Previous: “عيد ميلاد ميت… !” لماذا نحتفل له رواية لـ احمد طايل بقلم: سيد جمعة/ مصر
Next: كتيبة الأربعين والملحمة الفلسطينية بقلم: إبراهيم


حواس محمود / النرويج




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى