ألف ليلة و ليلة أسماء السكوتي - السفر والدم والنسيان في الرحلة الرابعة للسندباد البحري

«صرت خائفًا أن تموت زوجتي قبلي فيدفنونني معها وأنا بالحياة ثم إني سليت نفسي وقلت لعلي أموت قبلها ولم يعلم أحد السابق من اللاحق وصرت أتلاهى في بعض الأمور فما مضت مدة يسيرة بعد ذلك حتى مرضت زوجتي وقد مكثت أيام قلائل وماتت». [1]

على من يجب أن نشفق أكثر في هذه الحكاية؛ على الزوجة التي تمنى السندباد أن يموت قبلها حتى تدفن هي حية، أم على المسافر الغريب الذي لم يعرف تقاليد الدفن ومسؤوليات الزوج الأبدية قبل أن يتورط في هذه الزيجة التي بدأت بالطبول وانتهت بدفنه حيًا في مغارة الأموات مصحوبًا بجثة امرأته وكوز ماء وسبعة أقراص من الخبز؟ عمومًا، من يقرأ حكاية الرحلات السبع لآخرها يعرف أن للسندباد من الحيل والحلول العجيبة ما يغنيه عن شفقتنا.

لكن، لنعد إلى البداية؛ إلى فكرة الرحيل والسفر، للمعاناة التي يفترضانها ويفرضانها على الغريب التائه في أرض الله الواسعة. أتكون العودة إلى الديار نقطة نهاية وراحة ورحمة، أم أنها مجرد استراحة قصيرة يعقبها رحيل وتيه جديد؟ تقدم رحلات السندباد مثالًا على حالة يتحول فيها السفر إدمانًا والاستقرار عذابًا ثقيلًا. لكن لماذا قد يعود عاقل إلى التيه طائعًا، ألا تكفي مواجهة المينوتور وحش المتاهة مرة واحدة! يقدم السندباد جوابًا لهذا المعضلة: لنا أن نعود إلى عذابات الغربة والتيه مرة ومرات شرط أن نستعين عليهما بالنسيان. هكذا، في افتتاحية كل رحلة، وبعد إعلان العودة شبه المستحيلة من الرحلة السابقة حيث القرود والغيلان وطائر الرخ المنتقم وآكلو البشر.. يعلن السندباد عبارته المكرورة: «ونسيت ما قاسيته بسبب اللهو والطرب والبسط والانشراح» تمهيدًا لحكي عذابات الرحلة الجديدة.

يبدو -والله أعلم- أن نسيان السندباد من النوع المرضي، ذلك أن مسافرنا النسّاي لا يتوب عن الرحيل ولا عن اتباع نفسه الخبيثة المغرية بالسفر، إلا أنه أحيانًا ولو لمهلة يتذكر كل ما نسيه من عذابات، ولعل لحظة التذكر الأكبر في حكاية السندباد كانت في منتصف الرحلة السادسة، مباشرة بعد أن أتم حفر قبره، ليواجه نفسه لأول مرة معاتبًا ويلخص حالته المستعصية بحسرة قائلًا:

«صرت ألوم نفسي على قلة عقلي وخروجي من بلادي ومدينتي سفري إلى البلاد بعد الذي قاسيته أولًا وثانيًا وثالثًا ورابعًا وخامسًا، ولا سفرة من الأسفار إلا وأقاسي فيها أهوالًا وشدائد أشق وأصعب من الأهوال التي قبلها وما أصدق بالنجاة والسلامة وأتوب عن السفر في البحر وعن عودي إليه ولست محتاجًا لمال وعندي شيء كثير والذي عندي لا أقدر أن أفنيه ولا أضيع نصفه في باقي عمري وعندي ما يكفيني وزيادة».[2]

بقليل من الذكاء وبأقل إطلاع على بنية الحكاية العجائبية حيث لا يموت البطل أبدًا، سنعرف أن بطلنا لم يدفن في حفرته وأن الله مد في عمره ليعود إلى بلده، لكنه مرة أخرى كان له من رصيد النسيان أو الغباء ما يكفي ليعود لرحلة سابعة (لماذا عاد للموت بقدميه؟ هل في سبيل متعة المغامرة، أم بكل بساطة ليتم العدد السحري «سبعة»؟)

بنيويًا، يحمل موضوع النسيان وظيفة فواصلية في النص، ذاك أنها تعلن نهاية رحلة وتبشر ببداية أخرى على غرار أبيات حسن التخلص في القصيدة العمودية التي تعلن الانتقال من ثيمة إلى أخرى دون أن تكسر الدفقة الشعرية. ولنا كذلك أن نقرأ النسيان من منطلقات وجودية، ذلك أنه وكما أشار كيليطو في مقال الجنون الحكيم، «الإنسان العاقل ليس عاقلًا إلا لأنه ينسى الموت»[3]، وبالتالي، وكما يتناسى البشر الموت يوميًا حتى يعيشوا أي يذهبون إلى أشغالهم ويركبون المواصلات المزدحمة ويدفعون الإيجار، فعلى المسافر بعد كل وصول وعودة أن ينسى ما رآه من عذابات حتى يستطيع السفر مرة أخرى. لكن، هناك أشياء لا يمكن أن تنسى، ولا ينبغي أن تنسى، خاصة إذا كان ما سينسى جريمة، أو بالأحرى سلسلة من الجرائم. أبرز مثال على ذلك، في تتمة القصة التي بدأت بها هذا النص؛ ذلك أن السندباد بعد أن يجد نفسه في المغارة مع خبزاته السبعة يبدأ بقتل الأزواج المرافقين للأموات ليأخذ طعامهم، تكون أولى الضحايا امرأة ألقيت مع زوجها الميت ثم تطول قائمة الضحايا، وحتى بعد أن يجد السندباد مخرجًا من مغارة الأموات ويغيب مسوغ القتل في سبيل البقاء يستمر في قتل المرافقين، يحكي:

«أنزلوا رجلًا ميتًا وامرأة معه بالحياة وهي تبكي وتصيح على نفسها وقد أنزلوا عندها شيئًا كثيرًا من الزاد والماء فصرت أنظر المرأة وهي لم تنظرني وقد غطوا فم البئر بالحجر وانصرفوا إلى حال سبيلهم فقمت وأخذت في يدي قصبة رجل ميت وجئت إلى المرأة وضربتها في وسط رأسها فوقعت على الأرض مغشيًا عليها فضربتها ثانيًا وثالثًا فماتت فأخذت خبزها وما معها... وأقمت في تلك المغارة مدة من الزمان وأن آكل كل ما دفنوه أقتل من دفن معه بالحياة وآخذ أكله وشربه... [بعد أن وجدت مخرجًا من المغارة] بقيت في كل يوم أنزل المغارة وأطلع عليها وكل من دفنوه آخذ زاده وماءه وأقتله سواء كان ذكرا أو أنثى أطلع من ذلك الثقب فأجلس على جانب البحر وانتظر الفرج».[4]

كيف استطاع السندباد لاحقًا أن يحكي كل هذا بهذا البرود؟ كيف استطاع أن يختم هذه الرحلة الدامية التي بدأت بوقوعه في أيدي أكلة البشر وانتهت بتحوله هو نفسه إلى قاتل متسلسل بعبارة مكرورة أخرى عن النسيان؟ كيف استطاع أن ينسى ما فعله في تلك الحفرة؟ لقد استمر السندباد في القتل والسرقة حتى بعد أن وجد مخرجًا ولم يلتفت ولو لمرة ليتأمل في سلوكه كما لا يوقف سرده ولو للحظة ليفسر لمستمعيه الضرورات التي دفعته لهذه الأفعال، ولا حتى ليسوغ فعلته تحت شعار غريزة البقاء أو الرحمة لأولئك الذين حُكم عليهم بالموت البطيء فأنقذهم بميتة سريعة. هل نفسر انعدام التسويغ بكون السندباد شخصية «سايكوباثية»، أو لعله أدرك أن أفعاله أشر من أن يتقبلها أي منطق تفسيري ففضل الإسراع في السرد حتى«يغلوش» (بالتعبير المصري العامي) على جرائمه الشنعاء!

عمومًا، فليس هذا أعجب ما في الحكاية؛ الأعجب، أن الحمال وبقية المستمعين لحكايات السندباد البحري عادوا في اليوم التالي لسماع بقية الرحلات من هذا القاتل المتسلسل ولم يخافوا أن يجتمعوا به في مجلس واحد ولا أن يأكلوا من صوانه. لكن إذا كان للحمال سبب مادي للعودة (ذاك أن السندباد البحري كان يعطيه في آخر كل حكاية مائة مثقال من الذهب)، فلماذا عاد الآخرون؟ هل متعة السرد من السحر بحيث تشغلهم عن حقيقة المجرم الذي يسمعون منه؟ وماذا لو كان غالى في شره وقتلهم بعد انتهاء الرحلات السبع؟ ألم يخبرهم السندباد مباشرة قبل حكاية مغارة الأموات بحكاية آكلي البشر الذين جعلوا رفاقه يكثرون من الأكل حتى «تذهل عقولهم وتنطمس أفكارهم ويصيرون مثل الإبل»[5] (تستخدم نفس الحيلة في بداية فيلم جيبلي المخطوفة Spirited Away لهاياو ميازاكي في إحالة على الاستهلاك الجشع في زمن الرأسمالية). ماذا لو كان مبتغى السندباد البحري من كل هذه الحكايات هو أن يحشو مستمعيه بالحكايات حتى تقف فطنتهم بدورهم ويصبحوا لقمة سهلة للحاكي الدموي المبتلى بنعمة النسيان!




[1] ألف ليلة وليلة، طبعة بولاق،1935، ص 104
[2] نفسه، ص 114
[3] كيليطو، لسان آدم، توبقال، 2001، ص 101
[4] الليالي، ص 105
[5] نفسه، ص 101

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى