ألف ليلة و ليلة أسماء السكوتي - أسوأ حكايات ألف ليلة وليلة

دون كيخوته وطواحين الهواء. جحيم دانتي. حكايات ألف ليلة المنقذة من الموت. مأساة الكتب المشهورة أنها تُلخَّص في بضع كلمات، تعاد مرة ومرة، لدرجة أننا نظن أننا نعرفها دون أن نقرأها. اكتشفت منذ أسابيع أني قضيت سنوات في الأكاديمية كغيري من الطلبة أتكلم عن الليالي وشهرزاد، أتأمل علاقة الحاكية بالسلطة، وأناقش العوالم السحرية التي أغرت المستشرقين دون أن أقرأ الكتاب ولو مرة! كلنا نعرف الليالي وعفاريتها وفوانيسها. بعضنا يعرفها من كيليطو وبورخيس. بعضنا يعرفها من أفلام ديزني. والبعض الآخر يعرفها من مختارات تفضّل حكايات الأمير المسحور وقصر النحاس على غيرها من الحكايات. بعد أن قرأت ألف ليلة وليلة أخيرًا، اكتشفت أن عددًا لا بأس به من حكاياتها خال من العفاريت والمسوخ والساحرات، وأن النقاد وديزني لا يخبروننا عادة إلا عن الحكايات الجميلة والعجيبة متجاهلين باقيتها.

في منتصف الثمانينات، أصدرت دار نشر بريل الهولندية نسخة محققة من ألف ليلة، مؤلفة من عدة أجزاء بتحقيق محسن مهدي، جزء واحد فقط للحكايات والبقية للتأكد من أصولها وتناصاتها ونسخها المختلفة. في بحثها عن الجذور الأولى لنصوص الليالي، تركت نسخة بريل كل الحكايات التي أضيفت لاحقًا، من قبيل السندباد البحري وعلاء الدين وعلي بابا، وركزت على ما لا شك في أصله وأصالته. للأسف، ليس الأصيل دائمًا مدهشًا وممتعًا. للأصالة وجوه عدة أهمها الملل والزهق. ربما يقبل الأكاديمي استبدال السحري بالدقيق والأصيل والمحقق، لينشر مقالا ويحقق سبقًا، أما غيره من القراء الأكثر منطقية، فيبحثون عن اللذة ما استطاعوا إليها سبيلًا. تتوجه هذه المقالة للنوع الثاني من القراء، لتحكي عن حكايات ألف ليلة المغمورة أو السيئة التي لا نسمع عنها عادة لخلوها من العجائبي، أو لفشلها في سحر مخاطبيها داخل النص (وربما خارجه أيضًا)، أو أخيرًا لطولها واسترسالها المستفزين. إذا كان لابد لهذه المقالة من طرح، فطرحها أن لحكايات ألف ليلة وليلة أكثر من وجه واحد، بعضها حقق مبدأ التصعيد وصار أعجب وأفضح، بعضها ظل وعدًا لم يوف، والبعض الثالث امتد حد الإرهاق.

الحكايات التي حققت مبدأ التصعيد

تبدأ الليالي باكتشاف شهزمان لخيانة زوجته له. يقتلها وعشيقها الطباخ ثم يرحل إلى أخيه شهريار لينسى فضيحته. في ضيافة أخيه، يفقد شهزمان شهيته ويذبل ويذوي إلى أن يكتشف أن زوجة شهريار بدورها تخون زوجها مع عبد أسود. بمجرد أن يكتشف شهزمان فضيحة أخيه، تعود إليه الحياة ويعود إلى سابق عهده. مبرهنًا من ثم على دقة المثل الشعبي "من شاف بلاوي الناس تهون عليه بلاويه." حين يعود شهريار من رحلة الصيد، يحكي له أخوه ما رآه من خيانة. هكذا، يقرر شهريار أن مصيبته وأخيه أكبر من أن تُحتمل وأن العيش والحكم مستحيلان إلى أن يجدا من مصابه أكبر من مصابهما، يقول: "قم ندع ملكنا ونسيح في حب الله تعالى ونهج على وجوهنا، فإن وجدنا من هو مصيبته أعظم منا رجعنا، وإلا نحن نخترق البلاد ولا حاجة لنا بالملك". (ص 63) يخرج الأخوان من مملكتهما للبحث عن فضيحة أكبر من فضيحتهما (ربما اُستلهم فيلم عادل إمام البحث عن فضيحة من هذه الحكاية). يرحلان من بلد إلى بلد ومن أرض إلى أرض بحثًا عن حكاية شبيهة بحكايتهما، شرط أن يكون ضحيتها أقوى وأكبر مهابة منهما. بما أن شهريار "فارس جبار وبطل مغوار لا يصطلي له بنار ولا يخمد له تار" (ص 56)، فإنه لن يعتبر إلا بمصاب سلطان أقوى منه أو جني له سطوة على البشر والجن معا. يستمر الأخوان في رحلتهما إلى أن يجدا المفضوح المناسب: عفريت قوي، اختطف عروسًا ليلة دخلتها ووضعها في صندوق زجاجي بأربعة أقفال في البحر ليأمن خروجها عن طوعه، إلا أنها تفوقت عليه واستغفلته في كل مرة ينام فيها إلى أن ضاجعت مائة رجل.

في حكاية شهزمان وشهريار، تنتقل الحكاية من أخ السلطان إلى السلطان نفسه وتصل أخيرًا إلى الجني القوي. يتحول مسرح الأحداث من غرفة نوم (زوجة شهزمان) إلى حديقة القصر (زوجة شهريار) إلى صندوق في البحر (سجينة الجني). تُصعّد الخيانة من الطباخ إلى العبد، ثم تبلغ في النهاية مائة رجل. بمجرد أن يرى شهريار غفلة الجني ويشعر أن مصيبته أكبر منه، يشعر بالراحة ويقرر العودة إلى ملكه ليقتل كل النساء. وبالتالي، ننتقل من خائنة واحدة (الزوجة) إلى عدد لانهائي من الضحايا. إن المبدأ المنظم للسرد هنا هو مبدأ التصعيد الذي يُلزم بقية الحكايات أن تكون أعجب، وأغرب، وأشر من سابقاتها. يتبدى مبدأ التصعيد في أوضح صوره في الوعد الذي تعطيه شهرزاد في نهاية كل ليلة، قائلة: "وأين هذا مما أحدثكم به في الليلة القابلة".

تفي شهرزاد بوعدها في أغلب الليالي، خاصة في بداية الكتاب حيث تتابع الحكايات العجيبة عن العفاريت، والسحرة، والبشر الذين مسخوا طيورًا وكلابًا وبغالًا. ولكنها، ما إن تبلغ الليلة المائة حتى تبدأ في تقليص العنصر العجائبي. يتضح هذا ضمنيًا في حكايتي نور الدين ابن بكار والجارية شمس النهار وأنيس الجليس ونور الدين ابن خاقان الملتزمتين بقوانين المألوف والعادي لدرجة الرتابة، وصراحًة في حكاية الخياط والأحدب التي يحاول فيها المتهمون بقتل الأحدب النجاة من الشنق بسرد حكايات عن العشق والوفاء تستفز ملك الصين لاعتياديتها وألفتها، فيصرخ: "ليس هذا أعجب من حديث الأحدب ولابد من شنقكم أنتم الأربعة" (ص 304). تتوالى الحكايات الفاشلة واحدة بعد الأخرى، يصرخ الملك والقارئ معًا في كل مرة :"ليس هذا أعجب من حديث الأحدب". يستمر الحكي ولا يتوقف إلا بدخول الحلاق الثرثار الذي ينقذ المتهمين الأربعة من الموت، ولكن لا ينقذنا نحن القراء من الملل والاسترسال المستفزين. حتى أننا لنتساءل أحيانًا، ماذا كانت الليالي لتخسره لو أن هذه الحكايات السيئة لم تحك؟

الحكايات التي لم تُحك

الحكايات السيئة في ألف ليلة أشكال وألوان. منها ما اختبر صبرنا باعتياديته وطوله ومنها ما لم نسمعه قط وظل عنوانًا يعد بقصة. في حكاية الجني والصياد مثلًا، يشير الجني إلى "حكاية إمامة مع عاتكة" ليثير فضول الصياد ويدفعه إلى إطلاق سراحه. كالمتوقع، تنجح الحيلة ويسأل الصياد: وما حكاية إمامة وعاتكة؟ يرد الجني: "ما هذا وقت الحديث وأنا في هذا السجن الضيق لكن حتى تطلقني". المفترض في سياق الليالي -حيث كل إعلان عن حكاية يعقبه أمر/طلب: "اِحك"، وكل فضول يتبعه سرد، وكل سرد تتبعه نجاة وهدية- أن يقبل الصياد المساومة ويعطي الجني حريته شرط أن يسمع الحكاية، أو يأمره أن يحكي أولًا ثم يطلق سراحه. يخرج الصياد عن السيناريو المتوقع: يتجاهل الحكاية الموعودة ويرفض المبادلة لأنه يدرك أن حرية الجني تعني هلاكه. مهما بلغت عجائبية الحكاية، ليس لها أن تنسي الصياد رغبته في الأمان. مما يدل أن ألف ليلة أكثر واقعية مما نظن عادة. صحيح أن بعض حكايات ألف ليلة قد أنقذت أصحابها من الموت، ولكن البعض الآخر كان أضعف من أن يؤثر على رغبة المتلقين في الحياة.

يتكرر الفشل السردي نفسه في حكاية الملك يونان والحكيم دوبان، إذ يقرر الملك قتل الحكيم بعد أن صورت له جماعته أن الحكيم يريد به شرًا، وأنه قادر على إيذائه كما هو قادر على علاجه. يخلص الملك إلى نفس النتيجة التي خلص إليها الصياد سابقًا: نجاة غريمه تعني موته. هكذا، يأمر السياف أن يقطع رأسه إلا أن الحكيم يصرخ مترجيًا: "أيها الملك هذا جزائي منك، تجازيني مجازاة التمساح. قال الملك: وما قصة التمساح؟ قال الحكيم: ما يمكنني بتها في هذه الوقت الذي أنا فيه، فبالله عليك أبقيني يبقيك الله ولا تقتلني يقتلك الله". يؤلف الحكيم في قوله هذا بين أربع استراتيجيات: اللوم (هذا جزائي منك) ثم الوعد بحكاية التمساح، ثم الترجي (بالله عليك)، وأخيرًا، التهديد بالعدالة الإلهية (لا تقتلني يقتلك الله). حين تفشل هذه الاستراتيجيات جميعها، يأخذ الحكيم زمام الأمور بيده ويخطط للانتقام من موته المحتوم. هكذا، يطلب من الملك أن يدعه يذهب إلى بيته ليودع أهله ويعود بكتاب "خاص الخواص" الذي سيمكن الملك من محادثته بعد قطع رقبته. ينجح الوعد المادي بالكتاب السري في ما فشلت فيه حكاية التمساح. يتيح الملك للحكيم بضع ساعات يعود بعدها بكتاب أبيض بصفحات متلاصقة لا تنفك من بعضها البعض إلا بأصابع الملك المبللة بلعابه. يعدم الملك الحكيم ثم يبدأ بنقل أصبعه بين لسانه والكتاب جاهلًا أنه في كل مرة ينقل شيئًا من سم الكتاب إلى فمه (نفس حبكة اسم الوردة لإمبرتو إيكو)، وقبل أن يموت الملك بلحظات تنطق الرأس ويتحقق الوعد. قد ينزعج المتلقي من عدم سماعه لحكاية التمساح، ولكن ما التمساح قرب رأس مقطوعة تتكلم!

يمكن استفادة درسين من هاتين الحكايتين: أولًا، الخوف من الموت أقوى من إغراء الحكاية. ثانيًا، الحكاية واحدة من الأسلحة الكثيرة التي يمكن استعمالها في مواجهة السلطة، ولا ضير من تعداد الأسلحة، إذ من يدري أيها سيكون الأكثر فعالية.

الحكايات التي لم تفلح

على عكس الجني والحكيم، كانت شهرزاد أذكى من أن تواجه السلطان قائلة: "تعال أحكي لك حكاية". قد تواجه الدعوة الصريحة بالرفض، أما الحيلة فتنجح دائمًا. هكذا، تستعين شهرزاد بأختها الصغيرة دنيازاد التي تنام تحت سرير شهريار وشهرزاد وتنتظر انتهاءهما من النكاح قبل أن تسأل شهرزاد أن تحكي لها حكاية من حكاياتها العجيبة. يثير طلب الصغيرة فضول السلطان، ويأمر زوجته بالحكي. هنا تضرب شهرزاد عصفورها شهريار بثلاثة أحجار: تثير فضوله، تجعله هو من يأمر بالحكاية، وتشرطه سلوكيا ليربط بين النكاح والحكاية. إذ كل نكاح يعقبه حكي، وكل حكاية لا تخلو من نكاح. مما يعني أن شهرزاد نفسها؛ ربة الحكايات ومنبعها في الليالي، لم تركن للحكي وحده، بل عددت أسلحتها وتقنياتها، لإدراكها أن سحر الحكاية لا يؤت أكله كل مرة.

تتضح قلة ثقة شهرزاد في سحر الحكايات وأثرها في بداية الليالي، حين تخبر والدها الوزير برغبتها في الزواج من شهريار لإنقاذ ما تبقى من بنات بلدها. يغضب الوزير ويزبد ويرعد. يرفض الفكرة لأنه هو نفسه من يقتل زوجات السلطان كل صباح (يجب أن نتساءل هنا إن كانت شهرزاد قد قررت التضحية بنفسها لتخلص بنات جنسها أم لتخلص والدها من مهمة القتل اليومي!)، ليرد ابنته عن عزمها، يحكي الوزير حكاية الثور والحمار التي يساعد فيها الحمار الثور على التخلص من أعمال الحقل المرهقة، وينتهي به الأمر إلى أن يحل محله. يختم الوزير حكايته قائلًا: "وأنت يا ابنتي كذلك تهلكي بسوء تدبيرك، واقعدي واسكتي ولا تلقي روحك إلى التهلكة". درس الحكاية إذن: مساعدة الآخرين تساوي التهلكة. طبعًا، لا تعتبر شهرزاد من الحكاية وتصر على الزواج من شهريار، مما يفتح المجال لحكاية تالية.

مشيًا على سنة الليالي، يُصعّد الوزير خطابه، وينتقل من الاعتبار إلى التهديد. فيحكي لابنته تتمة الحكاية السابقة التي تصبح بقدرة قادر (أو بقدرة حاكٍ) حكاية الثور والحمار والتاجر وزوجته. تحاول المرأة في هذا الجزء من الحكاية التعرف على سر زوجها (السر: فهمه للغة الحيوانات) وتكاد تهلكه في سبيل إشباع فضولها ولا تنثني عن إصرارها إلا حين يضربها زوجها ضربًا مبرحًا. يختم الوزير حكايته قائلًا: "وأنت الأخرى ما ترجعي عن هذا حتى أفعل معك مثلما فعل التاجر بزوجته" (ص 71). حكاية طويلة عريضة ليقول لشهرزاد: كوني أنانية، لا تضحي بنفسك في سبيل نساء مجهولات، وإلا سأضربك! لا تتأثر شهرزاد بحكايات أبيها ولا بدروسه. وترد عليه بتحد: "والله ما أرجع. وما هذه الحكايات تردني عن طلبي، ولو اشتهيت حكيت مثل هذا كثيرا" (ص 71). تفشل الحكاية إذن في ردع شهرزاد، لا لأن رسالتها لا أخلاقية، ولا لأنها قصة سيئة -ذلك أنها تضم حيلًا وأسرارًا وحيوانات ناطقة- بل لأنها مجرد حكاية وليس للحكايات أن تنطلي على عريّفة الحكايات وأصلها.

الحكايات التي استمرت أكثر مما يجب

ماذا كان سيحدث لألف ليلة وليلة لو أن الوزير لم يكتف بحكايتين؛ لو أنه حكى ثالثة ورابعة إلى تقتنع شهرزاد برأيه؟ تقترن الليالي عادة بفكرة الحكي اللانهائي الذي يمكن أن ينفتح في كل لحظة على حكاية أخرى تلد حكاية، يمكن للأخيرة بدورها أن تفتح الباب لثالثة ورابعة وهكذا في سلسلة لا نهائية تبتعد بنا كل مرة عن الثلاثي الأصلي الذي بدأ كل شيء: شهرزاد، وشهريار، ودنيازاد المترقبة تحت سريريهما. على عكس الوزير الذي يرضخ لمشيئة مخاطبته ويستسلم بعد حكايتين، يبرز بعض الرواة قدرة عجيبة على الاسترسال في السرد لدرجة مرهقة. للحكايات أن تتناسل كالبشر، أو الأفظع، كالفيروسات. ولكن يجب عليها كذلك أن تنتهي قبل أن ترهق متلقيها، وإلا فالعواقب قد تكون وخيمة.

تقدم ألف ليلة مثالًا رائعًا عن الحكاية الفيروسية التي استمرت أكثر مما يجب في حكاية المزين أو الحلاق. يدخل المزين الحكاية مرفوقًا بكل كليشهاته، خاصة الفضول والثرثرة. يؤخِّر البطل عن معشوقته، ثم يكشف سر لقائهما لأبيها عن غير قصد. والنتيجة، فضيحة لا تنتهي إلا بقطع يد العشيق الشاب. رغم كل هذا، يصر الحلاق -على طول الحكاية الطويلة، والخالية من كل عجائبي- على تعريف نفسه "بالصامت." لاحقًا، بسبب واحدة من نزواته الفضولية التي تنتهي به أمام خليفة بغداد وسيافه، يقرر المزين أن يحكي للخليفة عن إخوته لينجو من الموت. بدلًا من حكاية واحدة، سيحكي المزين الثرثار ست حكايات. على عكس شهرزاد وغيرها من الرواة، لا ينتظر إذن الخليفة، وإنما يبدأ مباشرة: "وأما الأكبر فكان خياطًا". بعد سماع حكاية الأخ الأكبر يضحك الخليفة ويسامح الحلاق، ثم يأمر له بجائزة ويسمح له بالانصراف. تستبد رغبة الحكي بالحلاق، ويرفض الذهاب قائلًا: "لا والله يا أمير المؤمنين، ما أقبل شيئًا دون أن أحكي لك ما جرى لبقية أخواتي" (ص 354). تتلاحق حكايات الحلاق، يوقفه الخليفة بعد كل منها شاكرًا، آمرًا إياه بالانصراف، إلا أنه يكرر رفضه ويستمر في الحكي، إلى أن يصل إلى نهاية الحكاية الأخيرة. بسخرية وحزم، يقطع الخليفة أي أمل في الجزاء أو الاسترسال، قائلًا: "صدقت يا صامت، أنت قليل الكلام وما عندك فضول، ولكن أخرج الآن من هذا البلد واسكن غيرها" (ص 367).

يحدث في الليالي أحيانًا أن تتأثر شخصية أو غيرها بحكاية لم تحك بعد، فتفضّل البقاء والإصغاء على الخروج والنجاة (أنظر مثلًا حكاية الحمال والصبايا الثلاث)، ولكن لا يحدث أبدًا أن يحكي راوية أكثر مما ينبغي، أو يبدأ في الحكي دون إذن. في إصراره، وعماه عن أصول الحكي يكسر الحلاق كل أعراف الحكاية التي التزم بها غيره من الشخوص ويتحول إلى سيل أرعن لا هم له إلا الحكي، ومن ثم يكون جزاؤه النفي. عقاب الخروج عن سنة الحكاية هو الخروج من الأرض. خروج بخروج. للقارئ المنطقي أن يتصور أن حكاية المزين ستنتهي هنا. ولكننا، لسنا في حضرة المنطق، بل في حضرة استرسال يخرج عن حدوده فيتحول إلى شطط وهذيان. هكذا، بعد أن يُنفى من بغداد، يسافر الحلاق ويصادف ضحيته صاحب اليد المقطوعة في مأدبة، يحكم عليه أصحابها بالحبس، ويبقى هناك إلى أن يسمع عنه ملك الصين ويأمر بإحضاره إليه وسماع حكاياته، ثم يتخذه نديمًا. هنا، يأخذ المنطق آخر ضربة، ويصبح درس الحكاية: أن الإصرار على الحكي -حتى الحكي السيء- قد يأتي بنتيجة ولو بعد حين. لقد خرق المزين كل قواعد شهرزاد، ولكنه مع ذلك حصل على نهايته السعيدة. نهاية مخيبة للمتلقي الذي يقلب الصفحات تِباعا، متجاهلًا قصص إخوة المزين المتشابهة، متشوقًا لمصير الراوي المستفز: ترى هل سيُنفى؟ هل سيقطع عنقه؟ هل سيُمسخ غرابًا أو ببغاء؟ بارتقائه لمرتبة النديم، تبتر أحلام سادية عدة، عزاءها الوحيد أن شهرزاد حينما اخترعت هذه الحكاية كانت في حالة حبسة أوجبت عليها أن تزيد شيئا من الحشو الذي يزيد كمية الطعام وإن كان لا يضيف شيئًا إلى مذاقه.

خاتمة

ألف ليلة مدرسة في فن الحكي. حتى قصصها السيئة أو الضعيفة لا تخلو من حكمة ودروس. الدرس الأول: اختر مخاطبك بعناية: لا خائفًا رعديدًا ولا عريفًا يعرف أكثر مما يجب. وإن كان لك أن تختار بدقة أكبر، فاختر سلطانًا مجروحًا يبحث عن فضيحة أو نديم. الدرس الثاني: اعرف متى تتوقف عن الحكي. تذكر: للصبر حدود. ما كل المتلقين بفضول شهريار، وما كلهم بصبر دنيازاد النائمة تحت السرير. الدرس الثالث: ليست كل الحكايات الفاشلة فاشلًا تامًا. إذا ما استمررت في الحكي، فستجد مخاطبك حتمًا. الدرس الرابع: لا تفرط في تقدير سحر الحكاية، فمنها ما خاب، ومنها ما أُسكِت، ومنها ما ظل عنوانًا بلا فحوى. الدرس الأخير: لا وجود لحاكٍ مثالي، حتى شهرزاد كانت ترمرم من حين لآخر.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى