هذا الحزن

أراكِ كبيرة عليّ
وأنا كنتُ في السابق أكبر مما أنا عليه الآن
كنتُ أطول بكثير
أعيش على مقربة من النجوم
كنتُ أقوى
أسرع
أقسى
وهذا الحزن
لم يكن مختلّاً هكذا كما اليوم
سعداء كبرنا
والوقت خارج كلِّ حساباتنا
نعيش على ساعة واحدة لكل البيت
وحين نخرج
نتركها تدور وحدها على الجدار
كأن ما تعدّه ليس لنا
وكانت حين تتعطل
ننساها لأسابيع واقفة
إلى أن ينتبه لها أحد الضيوف
كانت الأيام أيامنا
حين كانت كثيرة

كنتُ في السابق أنام بعمق
بلا صوت
بهدوء غيمة لها السماء كلّها
كنتُ في السابق غيمة
ظلالها المدن
وكنتُ أعرف أن ليلةٓ ماطرة
ستمحو أثري
لكن التربة خذلتني
كنتُ أشياء كثيرة
طائر الدروب والحقول
أراقب أعشاش ديدان الفراشات
على أوراق الشجر
وأفكّر بعيداً بالخلق
أرى السواقي أنهارً عظيمة
أرى الأشجار ناطحات سحاب للطيور وأصدّق أن الضفدع
كان شرغوفاً في البداية
كنتُ أصدّق كل الكلام
حتى ما يقوله المذياع
أمّا الآن
فلا شيء سيعيدني إليّ
تقاطعت الدروب
و صارت حياتي لا تخصّني وحدي
وجسدي لم يعد جسدي أنا
قلبي ليس قلبي
قدماى ليستا قدماى
أصابعي ، أوردتي ، عظامي
لي جزءٌ صغير منه
وهو الدم
وما تبقّى ليس لي

منذ زمن لا أراقب الأشياء من حولي
كأنني صرتُ المسافر في حياته
كلُّ ما أراه
أراه بعين العابر
وأودّعه بدمعة المسافر
كأن حياتي لم تستغرق
أكثر من لحظة
كما السقوط من غيمة
إلى جوف التراب
والدروب الترابية التي ركضتُها في البدايات
تبدّلت إلى طرقاتٍ سريعة
لم أعد أرى الفراشات وهي تطير
صرتُ أراها فقط
وهي يابسة على مسطبة الشباك
….
هذا الحزن لم يكن بهذه الشراسة
حين كنتُ أعيش بقلب طائرٍ أسطوري
وعينا زرقاء اليمامة
بإصبع واحدة دفعتُ كل صخور سيزيف
وسيزيف
والجبل
لكنني الآن أفكر جدياً
بالمرأة التي ستدفع كرسيَّ على الشاطئ

هذا الحزن
كان بلا نسب
بلا ملامح
بلا عينين
يحط غريباً على أشجار الدار
ويخاف الإقتراب
فأعطيته ُ عينيّ
والمسافة المتبقية فيهما
من أسوار سبأ
والدروب القصيرة كالعمر

كنتُ في السابق أصدّق كل شيء
أن نساء المدن أجمل من القروبات
ونساء العواصم أجمل من نساء المدن
كنتُ أصدّق أن الطبيب يشفي
والمهندس يبني
والفلاح يحصد زرعه
وأن عقود الملكية هي الضمان المطلق
لملكيّتك
كنتُ أصدّق حكايات العم سليمان
وقصص العائدين من العاصمة
كنتُ أصدّق كلَّ كلام
حتى كلام الرؤساء
إلّا الحزن
ما صدّقتُ يوماً بأنه يخصنا وحدنا
إلّا حين رأيته مسجلاً معنا في دفتر العائلة
ورأيته في الصورة يحضن أبي .

…………
ياقوت أبيض

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى