ناظم عبدالوهاب المناصير - حارس الفنار ـــ محمود البريكان ــ

لا أدري مـن القائل :
"بعض اللحظات ، لا نعرف قيمتهـا ، إلاّ عنـدما تعود لنـا على شكل ذكريات"
، تأتي تلك اللحظات ، أو طالما تكون دقائق أو ساعات ، وقـد تكون أياما" وشـهورا" ،الخ.
الذكريات تفتح الأبواب التي طواها النســيان ، لكنـنــا قـد نعود إليهـا بحســــــرة وألم أو
بفرح غامـر ، لندخل في عالم ســبق وأن كان حاضـرا" بكل ما يمتاز به ، .. نعود ونتذكر
.. نفتح دفاترنا .. نقرأ .. ’نعيـد كل حرف بين سـطورهـا ، ’تعزز الأوقات مـن قدرتنا فـي
الأســتماع أو نشاهد أو أننـا نشــعر بآلامهـا وفرحهـا وشــــجونهـا وتهاويم زهـوهـا أو فـي
الكره أو في الحب .. أو حتى قـد نشــبع طربا" وتمايلا" بالآهـات والأحلام والتمنـي ... !!
... عادت بي الأيــــام ،.. والذكريـات عادت ’تقلـدنـي وشــاح الأنطلاق مـن كبوتي ، وأنـا
أجلــس على مكتبـي ، في داري .. الجو كان حارّا" ، لكن التكنولوجيـــــــا ، فتحت علينــا
هواء" باردا" منعشــا" ، ممّـا زادنـــــي حب التطلع إلى الماضي القريب !! ... الذكـريـات
تأخذنـي فـي ســـلســـلـة ، توحـي لـي بعض حلقاتهـــــا فـي الدخول على أعتاب الكلمــات
الرائـدة والحروف الجميلـة ..
ذكرى الشــــــاعر محمود البريـــــــكان ،.. إذ كانت داره ليس بعيـدا" عـن داري ، فهو
يجاورنـي منذ ســنين ... فـي أكثـر الأوقات أرى بعض أصدقائـه مـن الأدبـاء يقفون علـى
باب داره وقتـا" طويـلا" ... ثمّ يفتح لهم البـــــاب ، برضـى أو بغير رضى منـه ... وإنّـي
لأتـذكـر حكايـة أحد الأدباء حيـنمـا قال " أنـه كان مع مجموعـة مـن الأدباء ، طرقنـا بابـه
ذات يوم ، لكنـه لم يفْتحـه’ لنــا ، رغم أنـنـا نعلم أنـه كان فـي داخل الدار " ..وإذا ما دخلوا
، فهم قـد يألفون الجلوس معــه...
في كثير من المرّات أقف معه في طابور فـرن أبـي مهنـد بمنطقـة الجزائر ؛ يتكلم معـي
بصوت خفيض ، أحيانـا" لا أفهم ما يقول ، ما عـــدا أنـه يتذمر في آنتظـار حصولـه علـى
( الصمون ) ..
ذات مرة حصلنـا على ( الصمون ) ســـويـة ، .. في الطريق قال لي :
ــ هل أنت جار لي ؟
ــ قلت’ له : نعم أنا جارك منذ سنين ... ألاّ تعرفني ؟ .. بينما أنا أعرفك وأقرأ لك قصائــد
جميلـة منذ سنوات على صفحات مجلـة الآداب اللبنانيــة !!..
ونحن’ نسـير، ومرة نقف ، يحدثني عن شــعرالسـياب ونازك الملائكة والبياتي وصلاح
عبدالصبوروعبدالباسط الصوفي وغيرهم .. إلى أن وصل إلى داره ، فقال لي تفضل معي
نكمل الحديث ، فأنّي أظن أنك شــــغوف بالشعر والأدب ...
ــ قلت له : يسرني ذلك ، لكنّي لا أســــــتطيع في هذا اليوم ، نلتقي بوقت آخر ، كأن يكون
غدا" !!
ــ قال : غدا" أراك ..لا تنس الموعـد ، قالها بلطف وأبتسامة جميلة ظهرت على محياه ..
ــ ودعتـه وأتجهت إلى داري ...
(( مع كل أسف إنّي بوقتها لم أســـتفد مـن علاقتي بـه كجار وشـاعر كبير في تلك الفترة ،
لأنّ شــهرتـه لم تصل لي بعد ، ما عدا أنّـي أعرف عنه أخبارا" قليلـة ، إلاّ أنه بعد سنوات
من وفاته أصبح شـــــعره ؛ ’يكتب عنـه دراســـات وبحوثـا"أدبيــة وأكاديمية ، وهناك مـن
نال في شــعره الشـــهادات العليـا ... ))...
ففي اليوم الثاني ، رأيتـه صدفـة واقفا" على باب داره ، ينتظر عامــــلا" كان يحرث له
أرض الحديقــة ... فيها نخلتـان ســـامقتان .. !
ــ قال لي : تفضل ..
صعدنا سوية إلى غرفة نظيفة في الطابق الأول تحتوي على مكتبــــة ضخمـــة بالــكتب
والمصادر والمراجع ؛ .. أدار قرص المســجل لنســتمع موســـــيقى غربيـة هادئــة ــ كان
مولعا" بشـــدة في الســماع إلى الموســــيقى ــ ثمّ جلســنا ..
ــ قال : ماذا تحبّ مـن الشــعر ؟
ــ قلت’ : أحبّ أن أقرأ قصائد السياب ، كأنشــودة المطر وقصيدة أخرى تدمع عيناي حين
قراءتها ..قصيدة ( في المغرب العربي ) .. وإنّي أكاد أســــمع قصيدة دجلة الخير للشـاعر
الكبير محمد مهدي الجواهري ، تلك القصيدة تســتفزني ، طالما تأخذني بعيــــدا" وكـأنّــي
أغفو على جدائـل الفراتين الخضــر ..
ــ قلت’ لـه : يقولون عنك ، قليل الثقـة بالآخرين ، وأنعزاليـا" عن الوسـط الأدبي ، والناس
أيضــا" !! ... ألا تطلب الشــهرة ؟
ــ قال : دعهم ما شــاء لهم أن يقولوا !! .. وأنا لا تهمني الشــهرة ..فقط أريد أن أواســـــي
نفســي بأحرفي !
ــ قلت’ له : متى تكتب الشعر ، وما رأيك بالشـــعر الحر ؟
( ملاحظـة : خلال هذه الجلســة ، ’أســجل كل ما يدور من حديث معه بدفتر ملاحظـــات
صغير أحمله معي دائما" ... وإلى اليوم أحمل دفترا" صغيرا" لكل الندوات واللقاءات التي
أحضرها ) ..
ـــ قال : ليس لدي الوقت المحدد بكتابة الشـــعر .. وإنّمـا ، متى ما أســتحكمت الفكرة لدي
، ترانـي انســى كل شــيء ، وكأنّي أذوب معهـا بأقصى حالة قد تكون جنونية ، وأخيــرا"
أرى أنّ قصيدة قد أكتملت ، وحينئذ أجري عليها بعض التعديلات .. أمّـا الشــعر الحر ،هو
ضرورة ملحـة في عصرنا الحالي للأنفتاح الأكثر وعدم التقيد بأطار الشـــــــــعر العمودي
...كما أنّ الشــــعر الحر ليس الخروج من التفعيلة .. والشــعر قاطبــة كما يبدو لي هو فـنٌ
، بعيد عن تســخيره للمجاملات أو المناسبات أو لمدح أو ذمّ .. أنا شخصيّا" أكتب’ الشــعر
العمودي ، ومجلـة الآداب اللبنانية خير شـــــاهد لي .. وأنا كذلك لي خصوصيتي في نظـم
الشـــعر ، فلمّـا نشــرت مجلة ( المثقف العربي ) قصيدة ( أســـطورة الســـــائر في نومه)
لم تعجب بعض الشــعراء وإنّمـا الشــعراء الشــباب كانوا معجبين بهـا ، وكذا قصــيــدة (
رحلة الدقائق الخمــس ) ..
جزء من قصيدة ( أسطورة السائر في نومه )
أروي لكم عـن كائن يعرفـه الظلامْ
يســير فـي المنـام أحيانا" ، ولا يفيقْ
أصغوا إليّ أصدقائي ! وهو قـد يكونْ
أيّ أمريء يســـير فـي الطريقْ
وســـــــط الزحامْ
وقـد يكون بيننـا الآن ، وقـد يكونْ
في الغرفة الأخرى ، يمطّ حلمـه العتيقْ !
أعتاد أنْ ينهض حين تقرع الساعةْ
دقاتهـا السبع ، ويعلو صخب الباعةْ
يفتح مذياعهْ
يصلح شــاربيه أو يدهن عارضيهْ
على زوايا شــفتيـه ، ثمّ في عجلْ
يمضي إلى العملْ
يمرّ بالناس الكثيرين وبألأشــــجارْ
فلا يرى شــيئا" ، وقد يبتاع فـي الطريقْ
جريدة يقرأ منها آخر الأخبارْ
وهو غريق بعد في سباته العميقْ
أعتاد أن يقوم من منامه الطويلْ
بعض الليالي ، ثمّ ينســـل إلى مكان
يشـــرب في عتمته ما شاء من خمـرة ْ
ثمّ يعود وهو لا يذكـر كم مرة ْ
أضاعت الكأس لعينيه ، وفي الصباحْ
لا يذكر السكرةْ
******************
( وفي يوم قاس سمعت’ بمقتلـه من قبل صبيين .. وحزنت’ حزنا" عميقا" عليه بالرغم أنّي
لم ألتق بـه إلاّ مرّات قليلـة ) ..
الشاعر محمود البريكان ، يمتاز شــــعره بلغـة قوية رنانة تغازل أحرفها الفكــــرة فـي
سردية لآخر حرف ، نستطيع أن نقول أنه كان منفردا" بها من النص المحتـدم فـي بـلاغـة
متصاعـدة ، وأحيانـا" يمتلك فيها همومـا" فكريــة ناضـجة ، طالما يكتنفها بعض الغموض .. كان يروق له أن يكتب في عمق فلسفي خاص به متأثرا" من وحدتـه وسلوكه المجافـــي
للحيـاة العامــة .. وفي بعض قصائده تحتدم لديه المشاعر ليحدثنا شعرا" في لغــة قصصية ســـــردية كما نطقت به قصيدته ( حادثــة فـي مرفـأ )..
كان يقول : ينحصر عندي مفهوم الحداثـة بمدى مقدرتـــي علـى أســــتيعاب كل شــــأن
بشــموليــة ، طالما تكون فضاءاتهــا أقرب إلي ، ولا أنســــى إنّي إنســـان مركب من لحم
ودم ...
يقول عنه الكاتب رشــيد ياســـــين فـي مقالة له بعنوان ( البريكان كمــا عرفت ) : قـرأ
البريكان لنا قصيدة مطلعهـا :
فاضت على سمعي ضراعاتهـا
وأطلقت مأســــاتهـا مدمعي
كان عنوان القصيدة ( خرافـة روح ) ومن يتأمل عناوين قصائده يرى أنهـا عناوين مبتكرة
، وهذا الجانب يمكن يبني بدراســة أكاديميــة ، فالبريكان لم ينشـــر سـوى ( 89 ) قصيدة
في حياته ونشــرت ( 4 ) قصائد بعد وفاته ..
( حارس الفنار )
أعددت’ مائدتي وهيأت’ الكؤوس
متى يجيء
الزائر المجهول ؟
أوقدت’ القناديل الصغار
ببقيـــة الزيت المضيء
فهل يطول الأنتظار ؟
أنا في أنتظار ســـفينة الأشــباح تحدوها الرياحْ
في آخر الساعات صمتا" ،
حين ينكسر’ الصباحْ
كالنصل فوق الماء حين يخاف طير أن يطيرْ
في ظلمة الرؤيا
سأركب’ موجة الرعب الكبيرْ
واغيب’ في بحر من الظلمات ليس له حدودْ
أنا في أنتظار الزائر الآتي
يجيء بلا خطى
ويدق دقته على بابي .. ويدخل في برودْ
أنا في أنتظار الغامض الموعود تحماه الرعودْ
والريح ..
يوشــك أن يحل الوقت’
والأفق الطويل ..
خال وليس هناك ظل سفينة
يبدو الوجودْ ( جزء من القصيدة )
***********************
البريكان تأثر في صباه بجده لأمه الحاج أحمد الخال ، إذ كان يقضي أكثـر أوقاتـــه في
مكتبتــه الكبيرة التي كانت تحوي على كتب ومراجع ومصادر ومجلات ودوريـــات ممــا
أستحوذ الكتاب عليــه ..
نظريته ( الشــعر فنٌ لا يقبل التســخير ) ، شاعت عند بعض الشــــــعراء أو حتى لـدى
أدباء السـرد الروائي والقصصي .. لكن لو نظرنا في شعر بعض من الشعراء لوجدنا أنهم
ســـخّروا نفثات شعرهم أو كلماتهم في الرثاء أو المدح ، فالشاعر محمد مهدي الجواهري
قال شعرا" في رثاء أخيه جعفرا" :
أتعلم’ أم أنت لا تعلم’ ..... بأنّ جراح الضحايا فم’
فمٌ ليس كالمدعي قولـة ...... أو ليس كآخر يسترحم’
أو أنّ له قصيدة في رثاء جمال عبدالناصر :
أكبرت’ يومـــك أن يكون رثاء’.... الخالدون عهدتهم أحيـــــــاء’
لا يعصم المجد’ الرجال وإنّمـا ..... كان العظيم المجد والأخطاء’
أو أنه رثى محمد أبن الرئيـــــس البــــــــكر ، عندما توفاه الله بحادث سـير.. أو أنه مدح
الملك الحسن الثاني وآخرين .. إذ لم ’يسخر شـعره للوقوف على باب أي أحد منهم لغرض
حصوله على المكاســــب أو لنيلـه بعض المزايا ، وإنّمـا كان ينفعل لموقف أو حدث ما ...
فتأتي الملكة الشعرية طوعا" ..
*****************
( حادثة في مرفأ )
سفنٌ وضوضاءٌ وصفٌ من صناديق ثقيلـة
والرافعات تمـدّ في الجوّ الهجيريّ العنيفْ
وتدير أذرعهــا الطويـلـة
سوداء مثقلة" ، يئـزّ صريرهـا الصلب المخيفْ
ويذوب أناتٍ عليلـة
الرعب يلمع في العيون وصيحة ويـد تشـــيرْ
الواقفون برعبهم يتدافعون هـي الذراع ْ
تهوي توحّشــت الذراع وجنّ وأنفجر الصريرْ
كابوس ثانيتين ، تقـلّـب فـي أرتيـاع ْ
كتلا" من الصلب الصدىء ، وهيكلا" ، ودما يسيلْ
من يعرف الآن القتيلْ ؟
لا يعرفون ..
إلاّ أســمه ، حتى إســمه بتمامه لا يعرفونه ْ
ويقال إنّ له بنات في مكان يجهلونـه ْ
ناء ، وليس لـه بنونْ
في جيبـه ظرف عتيقْ
ورسالتـان ، وفي جيوب ردائـه الخلق الرقيقْ
وجدوا نثارا" من نقودْ
هي كل ما أســتبقاه من أيام غربته الطويلة
ومن المهانـة والضياع ْ
قطعا" مدورة صقيلـة
بيضا" ســوى نقط بلون الجمر ، من دمه المضاع ْ
*******************
يقول البريكان :
أنا لا أكتب شــعريـة ســائدة أو بشــعرية خاليــة من المغامرة الفنية ، وينحصر عندي
مفهـوم الحداثـة بمدى مقدرتـي على أســتيعاب المواقف الشــاملـة .
وكما يقول :
لا ’تلبي كثيـر مـن نصوصي حاجــــــات المتلقي العادي ، لأنّـي لا أكتب للأجـابـة عـن
التســاؤلات ، وإنّمـا لطرحهــا ..
قصيـدة الصـوت
صوتٌ لا يشــبهـه’ صوتٌ
يأتي مـن اقصـى البرّيـة ْ
صوتٌ كنداء إلـه هالكْ
’يطلق’ لـعنتـه ْ
كتحشــرج وحش مقتول
كتناوح ريح ،
ليســـتْ من ْ هـذا العـالمْ
صوتٌ يطعن’ قلب الليل ،
فـي البدء
ما كان ( ثمّ ) أحـد
يســـمعه ْ
ثمّ أعتادوا
أن يمرق في أفق مدينتهمْ
لا يلتفت’ إليــه أحـد ْ
لا يتساءل عنـه أحــد ْ
( جزء من القصيدة )
ـــ أصدرت مجلـة ( الأقلام ) ملفا" كاملا" عن الشاعر عام 1993 ...كما كتب عنـه :
ماجـد الســامرائي ــــ قاســم راضي ـــ حاتم الصكر ـــ الدكتور فهـد محسن ســرحا ن
ـــ باســم المرعبـي ..
وأصدر عبدالرحمن طهمازي كتابا" عنـه ..
وحصل ( أســامـة الشــحماني ) على شــــهادة الماجســتير ، عن أطروحتـه في شــــــــعر
البريكان ، ’قدمت في كلية الآداب / جامعـة البصـــرة ..
ـــ نشــر نتاجـه الشــعري في عديد من الصحف والمجلات العراقية واللبنانيـة ..
ـــ ولادتـه بمدينـة الزبير ســنة 1931 ..
ـــ حصل على شــهادة الحقوق من جامعـة دمشــق بســوريا ، وعمل مدرسا" للغة العربيـة
في مدارس العراق والكويت ..
ـــ توفاه الله ســنة 2002 ... وجدوه مقتولا في داره ..
ـــ بقي يعيش أعزبا" منذ أنفصاله عن زوجتـه ، التي أنجب منها ولدين .. أحدهما أســــمـه
ماجد ( أعلامي ) ..
ـــ ضاع كثير من شعره بعـد وفاته ..
ـــ كان رحمـه الله قليل الثقة بالآخرين ، كما عزل شــعره عن التفاعل مع حركة الشـــــعر
العراقــي في الوقت المناســب .
ـــ نشــر كثيرا" من قصائده العمودية في مجلة الاداب اللبنانية، وأخرى في مجلة الفكــــــر
الحي ومجلـة ( المثقف العربي ) ..
ـــ أســمه الكامل : محمود داود سليمان البريكان ..
ـــ بعـد ســنة من وفاته ، أطلق أسمه على مدرسة حكوميــة تقع في منطقة ( حي الحسين )
كمـا ’أطلق أسمه على مركز حكومي للشــباب والرياضـة في قضاء الزبير ..
ـــ في عام 2009 ، أعلنت بلديــة محافظـة ميســان عن أطلاق أسمه على أحد شـــــوارع
المديــنـة الرئيســـة ، تكريما له وتخليدا" لذكراه ..
ـــ له ديوان واحد صادر بعنوان ( متاهة فراشـــة ) ، عن دار نيبور ..
يبقى أسم محمود البريكان ، متألقـا" من خلال شعره الثّر الغني بالتعابير التي تحتفــــي
بالأنسـان والأرض والموانيء ، كما تستنبط اللوحات الفريدة من أندثارات السنين فيمســـك
أهتزازاتها لتتمحور بخصوصية رائدة في شعره وبلوغ أسمى ما تنتظره الذات الأنسانية ..
*******************
قبل ثلاث سنوات تقريبا" رأيت’ صديقا" لي أمام باب دار الشــــــاعر محمود البريكان ،
ســلمت’عليه وأستفسرت’ عن سبب وقوفه هنا !! .. قال : إنّـي قمت’ بصيانة الدار بالأتفاق
مع شــقيقـة محمود البريكان ـــ التي كانت تعمل مدرســـة في ثانوية العقيدة للبنات ، تروم
تأجيرها كمذخر طبي ، علما" بأنّ الدار هي دار ورثـــــة ـــ ودخلت’ معه بداخلها وصعدنا
سوية إلى الطابق العلوي وشـــــاهدت’ نفـــس الغرفـة التي دخلتها سابقا" قبل وفاة الشاعر،
لكنهـا مقفلة ..، وفكرت’ مليــــا" بالموضوع ، وبعد أيام قليلة ، طلبت’ من ذلك الصديق أن
يتمّ الأتفاق مع شقيقة الشاعر في الأطلاع على محتويات المكتبة وكتابة بحث أو دراســــــة
مســتفيضة عن شعره وأدبه ، لكنها مع كل الأســــف لم توافق رغم الألحاح الشديد .. وفي
شهور قليلة أعلمني صديقي على نقل كافة محتويات المكتبة من الدار ..
الشاعر محمود البريكان يقص علينا قصة سلسة بعيدا" عن التهويمات والغموض فــي
قصيدة رائعــة بعنوان ( البدوي الذي لم ير وجهه أحـد ) :
لعلك يوماط سمعت عن البدوي العجيب
الذي كتب الله أن لا يرى وجهه أحـد
وجهه الأول المستدير البريء
الذي غضّنته’ المهالك وأفترســته الحروب
وخطت عليـه المآسي علاماتها .
نمت طبقات الزمان
على جلده .. فهو لا يتذكر صورته
صورة البدء
مستغربا" في مرايا المياه ، ملامحه الغامضة
أنا هو ذاك
أنا البدوي الغريب يجوب البوادي
ويطوي العصور ويعبر جيلا فجيلا"
إلى آخر الأزمنـة
أنا البدوي الذي لفظته الصحارى
الذي رفضته القصور
الذي أنكرته الشموس
الذي أنطفأت جذوات النجوم
على محجريه
أنا البدوي المحمل بالأوبئة
بذكرى الجنان التي أندثرت
والبراري التي دفنتها الرياح
( جزء من القصيدة )
وليس هناك غير كابوس واحد ، هو مشـــهد الدم عندما يسيل على الأرض جراء خنجر
غادر من يـد ذليلة ، طالما الشاعر أكرمها بالعطاء والعطف والشفقة ..!!
أعلى