أيمن مصطفى الأسمر ، الحقيقة الكاملة (1)

إهـداء

إلى
كل من يجتهد في السعي بحثا عن الحقيقة

ويسعد بامتلاك ولو جزء يسير منها

وإلى

كل من يعتقد أنه يمتلك الحقيقة الكاملة

ولا يدرك أنه لا يمتلك شيئاً على الإطلاق

أيمن مصطفى الأسمر
دمياط - مصر
يناير 2005

(1)



بدأت اليوم عملي في دبي، إنه يومي الأول بإحدى القنوات الفضائية التي انتقلت إليها من إذاعة القاهرة، أظن أنه مر بسلام، رغم أن مفهوم الانتقال في حد ذاته كان ولا يزال صعبا على نفسي، عندما انتقلت من مدينتي الإقليمية الصغيرة للدراسة ثم العمل بالقاهرة كان الأمر لا يقل صعوبة عما أشعر به الآن، استمر شعوري بالغربة وعدم التكيف السنوات القليلة التي قضيتها هناك، أعلم أننى سأعانى كثيرا من هذا الأمر، لكنها فرصة لتحسين أوضاعي كان من العسير على أن أرفضها، جاءني الأمر مصادفة ودون أن أسعى إليه، لم أبذل جهدا يذكـر لإنهاء اجراءاتي، قال المسئول الذي استقبلني:

ـ إن طبيعة عملك هنا ستختلف بعض الشيء عما هو مدون في سيرتك الذاتية.

كنت قارئا لنشرات الأخبار بالإذاعة المصرية، أما هنا فسأقوم بالمشاركة في إعداد التقارير والتحقيقات الإخبارية ... أو هذا ما يفترض أن يكون، لم أبدأ في ممارسة عملي بصورة فعلية بعد، كان يوما للتعارف مع المكان ومن فيه وما فيه، يشعر المرء هنا أنه في ورشة عمل كبيرة تجمـع مختلف الأعمار والتخصصات والجنسيات، يزاملني في القسم الذي تسلمت عملي به سودانيان وتونسي، مصري وسوري، بالإضافة إلى بعض مواطني الإمارة وفنيين من غير العرب، الأمر مشـابه في باقي الأقسام، تبدو دبي - كما قيل لي - وكما لاحظت منذ الوهلة الأولى لوصولي كسوق عكاظ دولي كبير يعج بمواطنين من شتى دول العالم، جاءوا للعمل أو السياحة أو أغراض أخرى، أمريكيون وكنديون، أوروبيون وشرق أوسطيون، مواطنو دول الاتحاد السوفيتي السابق، آسيويون وأفارقة، خليط عجيب من البشر والألوان واللغات واللهجات، تبدو الإمارة كأنها قطعة من أوروبا، إنها بحق دولة الرفاهية.


******

بدأت العمل في التقرير الذي طُلب منى في يوم عملي الثاني بالقناة، شاركني في إعداده علي، أحد الزملاء من مواطني الإمارة، سـيعرض التقرير ضمن مجموعة من التقارير الأخرى في سلسلة حلقات مخصصة لمناقشة وتحليل مؤتمر الأمم المتحدة الخاص بالعنصرية والذي سـيعقد خلال أيام بمدينة دربان في جنوب أفريقيا، يركز التقرير على دور المنظمات غير الحكومية في هذا المؤتمر خاصة، ودورها المتنامي خلال السنوات القليلة الماضية في مختلف قضايا العالم عامة، موضوع مثير للاهتمام وقد استمتعت كثيرا وأنا أقوم بجمع المواد اللازمة لعمل التقرير وصياغته بصورة مناسبة وجذابة، تناقش معي علي في النقاط الرئيسية للتقرير ثم تركني أعمل في إعداده دون تدخل يذكر، لعله كان مكلفا بمراقبة عملي الأول وتقييمه بصورة غير مباشرة، أعتقد أن التقرير قد لاقى استحسانا لا بأس به من المسئولين الذين رُفع إليهم، وتم عرضه في الليلة التالية.

******

علاقتي بزملائي في القسم مازال يغلب عليها التحفظ الناجم عن حداثة التعارف، وإن كان حسن - أحد الزميلين السودانيين - أكثر الزملاء مرحا وبساطة، وأسرعهم في بناء جسور المودة والصداقة بيني وبينه، أما عبد الرحمن - السوداني الآخر - فهو شديد الثقة والاعتداد بنفسه، وهو المشرف المباشر على القسم ويتعامل مع الجميع من هذا المنطلق، بينما بدا حكمت - السوري - رغم وقاره وهدوئه الزائدين كأني أعرفه وأتفاعل معه منذ زمن بعيد، على العكس من ذلك بدا نزار - التونسي - فائق الحيوية شديد النشاط لكنه أكثر تحفظا، الغريب حقا هو أمر تامر - الزميل المصري - فرغم ترحيبه بي إلا أن الأمر كان لا يخلو من فتور واضح لا أعرف له سببا، باستثناء حسن وحكمت لم يسعفني الوقت لتجاوز حدود التعارف العادي مع معظم الزملاء، آمل أن ترتقي العلاقة بيني وبين الجميع إلى مستوى جيد في الأيام القادمة.

******

التقيت بندى، وجه هادئ بسيط، شعر أسود فاحم، عينان خضراوان حنونتان، جسد متناسق الأعضاء، سورية من حلب، تعمل ندى ضمن طاقم الإخراج لعدد من البرامج الإخبارية بالقناة، رغم تعرفي على بعض الفتيات والسيدات أثناء الدراسة ثم العمل، إلا أن ندى بدت لي خلال دقائق قليلة من لقائنا الأول امرأة مختلفة تماما، تجمع شخصيتها بين الحنان والحزم بتلقائية لم أعرفها في أي إنسان من قبل سوى أمي وأبي، كان فيها بالتأكيد شيئا آخر يجعلها مختلفة عنهما، ويجعل لها كل هذا التأثير الصاعق على نفسي، كان اللقاء قصيرا، لم نتجاوز فيه مناقشة أمر من أمور العمل، غير أننى خرجت منه بانطباع يقيني أن هناك شيئا ما سيربطني بها بقية عمري.

******

العلاقات بين مختلف العاملين في القناة هي صورة مصغرة لما يعانيه العالم العربي من الانشغال بصراعات تافهة لا قيمة لها وإهمال جنوني للقضايا المصيرية، فبرغم روح التعاون والعمل كفريق واحد كما تبدو الصورة من الخارج، إلا أن هناك توترات خفية لا يمكن إغفالها، بين عرب أفريقيا وعرب آسيا، بين الخليجيين وغيرهم، بين المصريين من جهة والتونسيين والجزائريين من جهة أخرى، بين السعوديين والكويتيين، القائمة طويلة للغاية، بل أن هناك أحيانا صراعات حادة بين أبناء الدولة الواحدة، ورغم أن هذه الأمور تبدو تحت السيطرة بدرجة كبيرة ولا تؤثر على سير العمل بشكل عام إلا أنه يحدث أحيانا انفجارات مفاجئة لهذه التوترات المكبوتة، طالتني بعض شظايا هذه الانفجارات، وحاول البعض التدخل بصورة مستفزة في جوانب من حياتي الشخصية لا أحب ولا أرغب في طرحها للنقاش داخل محيط العمل، كان ردي حازما وسريعا وأوضحت للجميع - مع احترامي الكامل لهم - حساسيتي الشديدة للتدخل في شئوني الخاصة، يجب أن أقر أنه كان هناك تفهما سريعا لوجهة نظري وانتهى الأمر على خير، ورغم كل ما يحدث أحيانا من مثل هذه الخلافات، فنحن نعمل معا ونعيش معا، والعلاقات بيننا أفضل كثيرا من العلاقات بين الحكومات والمؤسسات العربية الرسمية بعضها البعض.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى