أيمن مصطفى الأسمر - الحقيقة الكاملة (2)

(2)

أحداث نيويورك وواشنطن المذهلة كانت أكثر جموحا مما يمكن أن يتخيله أي إنسان عاقل، إنه أمر في غاية الغرابة سواء على مستوى التخطيط الدقيق أو التنفيذ المحكم بصورة تجعله أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، ردود الأفعال بين العاملين في القناة كانت شديدة التباين، هناك من انتابته فرحة هستيرية لا يمكن إخفاؤها، وهناك من أصيب بالذهول وعدم التصديق، قليلون هم من غضبوا كثيرا لما حدث واعتبروه فـألا سيئا على العالمين العربي والإسلامي، بل والعالم أجمع، أما عني فلا يمكنني أن أحدد حقيقة مشاعري بدقة، فإلى جوار حزن حقيقي لمقتل المئات من الضحايا الأبرياء الذين لا ذنب لهم، يوجد بداخلي أيضا شيء من السعادة لتلقي أمريكا هذه الصفعة المدوية، وإن كنت أعتقد بالفعل أن ما حدث سيفتح أبواب جهنم على الجميع، أدت هذه الأحداث إلى نشاط محموم لا مثيل له في وتيرة العمل بالقناة، ازداد ضغط العمل حتى نكاد نعيش حياتنا بالكامل داخل مبنى القناة الفخم، ورغم الإرهاق الشديد الذي أعانيه هذه الأيام إلا أنها فرصة جيدة لاكتساب المزيد من الخبرات وتحقيق الذات.

******

فجرت مباراة في كرة القدم بين فريق مصري وآخر تونسي جدلا عنيفا بين تامر ونزار، تطور الجدل إلى مشادة حادة وانقسم غالبية الزملاء إلى فريقين أحدهما مع تامر والآخر مع نزار، خرجت من النفوس ضغائن مريرة وغضب مكبوت، حاولت مع قلة قليلة من الزملاء على رأسهم حسن وحكمت الحيلولة دون تدهور الأمر وتحوله إلى كارثة حقيقية تفسد مناخ العمل وتحطم العلاقات بين الزملاء العاملين بالقناة، تمكنا بعد معاناة شديدة للغاية من تهدئة الأجواء والاتفاق على عقد جلسة ودية للمصالحة وتصفية النفوس، أكد لي ما حدث أنه يجب العمل بصورة جادة وفاعلة على كافة المستويات لإعادة بناء العلاقات بين الشعوب العربية وبعضها البعض، وجدت نفسي مدفوعا لبدء العمل في تقرير لم يطلبه مني أحد، يدور حول العلاقات العربية – العربية، وكيفية الارتقاء بها عن مستوى الشعارات البراقة التي لا يلتزم بها أحـد إلى مستوى حضاري يتيح لنا كأمة واحدة مواجهة المأزق التاريخي الذي نعيشه منذ سنوات، والذي لا بد أنه سيزداد سـوءً بعد الأحداث الأخيرة، استغرق إعداد التقرير مني عدة أيام، بذلت فيها جهدا كبيرا حيث كنت أقوم بالعمل فيه إلى جانب التقارير التي كُلفت رسميا بإتمامها، ورغم أهمية هذه التقارير وارتباطها بحرب أمريكا القادمة لا محالة ضد طالبان والقاعدة، وتطورات الانتفاضة، ورغبتي الشخصية في إنهاء هذه التقارير بشكل جيد، واهتمامي البالغ بمواضيعها، فضلا عن تثبيت أقدامي بصورة أكبر ودعم الانطباع الطيب الذي تركته أعمالي خلال الفترة السابقة على قصـرها، كل هذا لم يمنعني عن الاستمرار في مغامرة العمل بهذا التقرير السري، كانت بالفعل مغامرة كبيرة، فقد استخدمت جزءً من الموارد والإمكانيات التي كان من المفترض تخصيصها لأعمال أخرى لإتمام هذا التقرير، عرضت التقرير بعد الانتهاء منه على عبد الرحمن بصفته المشرف المباشر على القسم، حدث بيننا صدام حاد كنت أتوقعه بنسبة كبيرة، لم يحاول أبدا أن يناقش فكرة التقرير أو مضمونه لكنه صرخ في وجهي قائلا:

ـ لقد خرجت على النظام العام والقواعد المتبعة للعمل، وهذا أمر غير مقبول على الإطلاق.

وافقته قائلا:

ـ معك حق، ليس من المقبول في أغلب الأحوال أن يتصرف أي إنسان بصورة فردية دون ضوابط.

بدت على وجهه علامات الانتصار فقال منتشيا:

ـ إذن تعرف أنك مخطئ.

ـ نعم ... بعض الشيء، إنها أحدى المشاكل التي نواجهها، لقد حاولت عرضها ضمن التقرير.

ـ ماذا تقصد؟

ـ الفردية وعدم الالتزام بالضوابط ... مشكلتان حقيقيتان نعانى منهما في عالمنا العربي.

بدا على وجهه علامات عدم الفهم والارتباك، استغللت الأمر وأضفت متابعا:

ـ كذلك التصلب وعدم المرونة ... مشكلة أخرى.

أدرك على الفور ما أعنيه ... أحمر وجهه وصرخ في حنق:

ـ كف عن التلاعب، لقد اعترفت بالخطأ ولا داعي لهذا اللف والدوران.

استمر في الصراخ، وجدتني لا شعوريا أنفعل مثله، وفى اللحظة التي بدا فيها أن الأمر سينتهي إلى مشاجرة لا مفر منها تذكرت فجأة ما حدث بين تامر ونزار، أنبت نفسي بشدة على تكرار نفس الخطأ، كان لا يزال يصرخ ويصرخ، أمسكت بيديه في حركة مفاجئة جعلته ينتفض ويتوقف عن الصراخ، خاطبته بصوت هادئ:

ـ أرجوك ... أرجوك يا سيد عبد الرحمن، لقد أعددت هذا التقرير خصيصا لشعوري أن العلاقات العربية - العربية تسير في طريق مسدود، هل يرضيك أن نكون أنا وأنت نموذج سيئ أخر مثل تامر ونزار، أنا على يقين أنك ستتفهم الأمر.

نظر إلي وعلى وجهه دهشة لم أعتدها منه، التقط مشروع التقرير من فوق المكتب في صمت، استدار منصرفا في بطء دون أن ينطق بكلمة واحدة، بعد أيام قليلة استدعاني إلى مكتبه واقترح عليَّ مباشرة إدراج بعض العناصر إلى التقرير، وجدت أنها ستشكل إضافة حقيقية إليه، تأكد لي كم هو بالفعل ذكي وذو رؤية واسعة للأمور، وأنه يستحق بالفعل المنصب الذي يشغله، أنهيت التقرير بعد إدراج مقترحاته، تم عرضه، حقق نسبة مشاهدة عالية وأثار جدلا كبيرا بين المشاهدين وفى الأوساط الصحفية، تساءل الكثيرون عمن وراء هذا التقرير.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى