أيمن مصطفى الأسمر - الحقيقة الكاملة (3)

(3)

دعوت ندى للعشاء بأحد مطاعم دبي، إنها المرة الأولى التي نخرج فيها سـويا، ترددت قليلا قبل أن أقدم على هذه الخطوة، لكنها كانت أمرا حتميا لا مفر من وقوعه، ونتيجة منطقية للتطور شديد السرعة في مسار العلاقة بيننا، فبرغم الهدوء الذي يبدو على السطح، إلا أن هناك غليانا شديدا بداخل كل منا يبرز بصورة أثارت انتباه كل من يرانا، الغريب أنه لم يحدث أبدا أن تطرق حديثنا لأي شيء خارج نطاق العمل، غير أن ما لم نقله يبدو دائما أكثر حضورا، بالأمس قال لي حسن بأسلوبه الضاحك:
ـ متى سيعلن كل منكما حقيقة مشاعره للآخر؟
تظاهرت بالغباء وتشبثت بالصمت وعدم المبالاة لما يقوله، لم تكن ملاحظة حسن هي الوحيدة التي سمعتها في الفترة الأخيرة لكنها كانت أكثرها صراحة واقترابا من صلب الموضوع، كانت التلميحات الأخرى تدور من بعيد حول الأمر دون الخوض فيه بشكل واضح، كان الجميع قد عرفوا حساسيتي الشديدة تجاه أي تدخل في شئوني الخاصة، لكنهم كانوا جميعا على حق، إنها حالة غريبة للغاية أن يشع رجل وامرأة لم تتجاوز علاقتهما أبدا الحدود الطبيعية للتعامل بين زميلين، أن يشعا كل هذه الأحاسيس التي لا يمكن إخفاؤها ولا إخفاء آثارها عليهما وعلى الآخرين من حوليهما.
توجهنا إلى أحد المطاعم التي سبق لي تجربتها من قبل، أخبرتها أنه لا يقدم الوجبات الأمريكية السريعة التي طغت على غيرها من أنواع الطعام والشراب في هذا العصر، جلس كل منا وهو ينظر إلى الآخر في حياء كأنه يراه للمرة الأولى، استمر الصمت طويلا ولم يقطعه سوى التشاور بخصوص ما سنطلبه من أصناف الطعام، تناول كل منا طعامه ببطء شديد دون أن ينطق بكلمة واحدة، أخيرا قطعت ندى الصمت وبدأت الحديث عما تقوم به أمريكا حاليا من استعدادات لشن الحرب في أفغانستان، قالت وهي يبدو عليها الأسى البالغ:
ـ ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر كان فرصة ذهبية لأمريكا كي تزيح جانبا أي قناع تجميلي عن وجهها.
هززت رأسي موافقا، تابعت قائلة:
ـ الآن ستفرض أمريكا هيمنتها على العالم بأسره بالقوة العسكرية المباشرة ودون أي حياء.
ـ لكن ما حدث أثلج صدور المكتوين بسياسات أمريكا.
ـ هذا صحيح ولكن أين الفائدة الحقيقية فيما حدث؟
تنهدت بعمق وقلت لها:
ـ لعل الفائدة هي كشف الأقنعة التي تحدثت عنها، في تورط أمريكا في أفغانستان اليوم، وإيران أو العراق أو كوريا غدا أو بعد الغد، قد يكون ذلك هو البداية الحقيقية لإنهاك الإمبراطورية الأمريكية في سلسلة من الحروب والمغامرات، قد لا تكون متكافئة لكنها على المدى البعيد ستؤدى إلى إنهاك الجسد الأمريكي الذي رغم ما يبدو عليه من قوة هائلة لا تبارى إلا أنه في الواقـع يقف على ساقين لن تحتملا ثقله ولا الاستنزاف البطئ لموارده وقدراته.
هزت رأسها وقالت:
ـ ربما.
هكذا دار الحوار بيننا في هذا العشاء الغريب، نتحدث عن أفغانستان والعراق ... أمريكا وإسرائيل والانتفاضة ... العلاقات العربية - العربية، كان الأمر أبعد ما يكون عما يمكن أن يتخيله حسن أو حكمت أو باقي الزملاء لو علموا بأمر هذا العشاء، استمر الحوار بيننا في حماس شديد إلى أن جاء أحد "جرسونات" المطعم لينبهنا بلطف واحترام زائدين أنه لم يبق سوانا بالمطعم، وأنه يفترض أن يغلق المطعم أبوابه، نظر كلانا إلى الآخر ثم حوله في دهشة، انفجرنا في ضحك هستيري لم يستطع أي منا التحكم فيه، سرت عدوى الضحك إلى "جرسونات" المطعم، انصرفنا أخيرا وسرنا جنبا إلى جنب وكل منا يؤكد للآخر أن هذه الليلة هي أفضل ليلة يعيشها منذ سنوات عديدة، تركت ندى على مدخل الفيلا التي تسكن بها وانصرفت سعيدا.


******

ألقيت على حسن تحية الصباح، كان الوقت لا يزال مبكرا ولا يوجد سوانا بالمكتب، على غير عادته كان صامتا ويبدو على وجهه تعبير غريب، ظننت أنه يمر بأزمـة ما، تساءلت في نفسي: "هل من اللائق أن أسأله ... أم أن هذا سيكون تطفلا لا داعي له"، قبل أن أحسم أمري أخبرني أن عبد الرحمن قد طلب أن أذهب إليه بمجرد وصولي، ذهبت إليه، كان منهمكا في قراءة بعض الأوراق، سلمت عليه، بادلني السلام، طلب منى الجلوس ثم خاطبني مباشرة قبل أن أستقر في مقعدي:
ـ أمامك أربع وعشرون ساعة كي تعد نفسك للسفر.
لم أفهم ماذا يقصد، هل استغنوا عني؟ هل كان ذلك هو سبب صمت حسن المفاجئ؟ لم استطع الرد واعتصمت بالصمت، تابع قائلا:
ـ لقد أنهينا تقريبا كل الإجراءات اللازمة.
ظللت صامتا دون أي تعبير من جانبي.
ـ ستسافر إلى باكستان، ومنها ستدخل إلى أفغانستان، لقد تم ترتيب كل شيء.
اتضح لي فجأة حقيقة الأمر لكنى لم أستطع أن أقول شيئا.
ـ اسمع لقد تم اختيارك رغم حداثة عهدك في القناة لتكون مراسلنا في أفغانستان، الأمور تتطور بسرعة، ويجب أن يكون لنا رجل هناك.
استطعت أخيرا أن استجمع شتات نفسي وأسأله:
ـ لماذا تم اختياري أنا بالذات؟ أنا أعد التقارير ولست مراسلا.
ـ لقد رأينا أنك تملك من القدرات ما يتجاوز إعداد التقارير، سيصبح الأمر كله الآن ملكا لك وسيكون معك أحد المصورين ليساعدك ... لكنك ستكون مسئولا عن كل شيء، بمجرد دخولك الأراضي الأفغانية لن نستطيع أن نقدم إليك أي مساعدة، سيكون دخولك سريا، في الواقع أنت الذي ستساعد القناة ومشاهديها في تقديم صورة واقعية وصادقة عما يجري من أحداث.
تملكتني مشاعر متضاربة، إنها بالفعل فرصة كبيرة لإثبات ذاتي، لكن الأمر فيه قدر كبير من الخطورة التي لا يمكن إغفالها، هل أشعر بالخوف أو القلق ... ربما، عندما انتقلت للعمل هنا كان لدي بالتأكيد طموحا ما اسعى لتحقيقه، لكنى لم أتوقع حقا هذا الكم الهائل من الأحداث والمفاجآت خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة، قفزت إلى ذهني فجأة صورة ندى، كيف سيكون رد فعلها؟ وهل سأتحمل أنا فكرة أن أبتعد عنها بعد التقارب الواضح بيننا في الأيام الأخيرة، عندما عدت إلى مكتبي كان باقي الزملاء قد وصلوا، احتضنني حسن في حركة مفاجئة وهمس في أذني:
ـ أنت الأفضل وتستحق ذلك.
ثم قال بصوت واضح وبأسلوبه الضاحك:
ـ سنتخلص أخيرا من هذا المشاكس ... لقد استجاب الله سريعا لدعائي.
التف الجميع حولنا يستفسرون عن الأمر، أخبرهم حسن بالتفاصيل دون أن أنطق حرفا، بارك لي الجميع وهم يضحكون، وحده تامر ظل هادئا ومبتعدا ثم اقترب أخيرا وأنا على وشك مغادرة المكتب وقال في فتور واضح:
ـ مبروك.
ذهبت أخيرا إلى ندى، كانت بمفردها، أخبرتها بالأمر مباشرة ودون مقدمات، لم أتمكن أبدا من النظر في عينيها، كنت أركز بصري على نقطة لا وجود لها في فراغ الحجرة، سمعتها وهي تقول بصوت مختنق:
ـ عد إلي سالما، لا أطلب منك أي شيء آخر.
استدرت هاربا من أمامها قبل أن أنهار تماما وأفقد القدرة على التحكم في مشاعري وأعصابي، سمعتها وهى تصرخ:
ـ سنتعشى الليلة سويا في نفس المطعم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى