أحمد فارس الشدياق - الساق على الساق في ما هو الفارياق

لما حان سفر الفارياق أخذ يودع زوجته بعد أن أوعى القاموس والأشموني في صندوقه ويقول. اذكري يا زوجتي أنَّا عشنا معاً برهة طويلة من الدهر. قالت ما أذكر إلا هذا. قال فقلت أذكر ناكرٍ أم شاكر. قالت نصف من هذا أو نصف من ذاك قلت يرجعنا النحت إلى الأول قالت أو يرجع الأول إلى النحت. قلت أي أول أضمرت؟ قالت ما لك ولتأويل المضمر. قلت حسبي أن تبيِّني الحقيقة ذلك. قالت إذا فكرت في أنك لي ولغيري كنت من الناكرين وإلا فمن الشاكرين. قلت أنك كنت نهيتني عن المعاملة بالقسم وهاأنت الآن تأتينه. قالت بل هو يأتيني. قلت أما فيك لفظة لا. قالت أن لفظتها كانت نعم. قلت إن لا من المرأة إلى. قالت وأن نعم نعم. قلت أجعلت هذا دأبك. قالت ودأبت في هذا الجعل. قلت هذا لا يليق بذات ولد. قالت ولا تلد من لا تليق. قلت من مادة. قالت أن كانت المادة غير زيادة متصلة أحوجت إلى اختلاف الصور. قلت وكيف تبقى متصلة على اختلاف الأشكال. قالت لا أشكال في كيفية الأشكال فإن واحداً منها يغني عن الجميع. وغنما الكلام على رسم الكمية. قلت ما الحدّ. قالت في الجد الهزل وفي الهزل الجد. قلت أرأيتك لو أقمت نائباً عني في ذاك مدة غيابي. فضحكت وقالت على ما أحب أنا أم على ما تحب أنت. قلت بل على ما تحبين أنت. قالت لا يرضى الرجل بذلك إلا إذا كان غير ذي غيرة ولا يكون غير ذي غيرة إلا إذا كره امرأته وكلف بغيرها فأنت إذا كلف بغيري. قلت ما أنا بالكلف ولا بالطرف. لكن الرجل إذا كان شديد الحب لامرأته ودّ لو أنه يرضيها في كل شيء. على أن الغيرة لا تكون دائماً المحبة كما نصَّوا عليه. فإن بعض النساء يغرن على أزواجهن عن كراهية لهم وأعنات. مثال ذلك إذا منعت المرأة زوجها عن الخروج إلى بستان أو ملهى أو حمَّام مع عدة رجال متزوجين. وهي تعلم أنهم في هذه المواضع لا يمكنهم الاجتماع بالنساء فهي إنما تفعل ذلك تحكماً عليه ومنعاً لهمن ذكر النساء مع أصحابه والتلذذ بما لا يضيرها. وكذا إذا حضرته عن النظر من شباكه إلى شارع أو روضة حيث يكثر تردد النساء وكذا الحكم على الرجل لو فعل ذلك بامرأته. فهذا عند الناس يعد غيره لكنه في الواقع بغضة. أو ربما كان آخر الغيرة أول البغض كما أن إفراط الضحك هو أول البكاء وكيف كان فإن الرجل لا يمكن أن يحب زوجته إلا إذا أباح لها التلذذ بما شاءت وبمن أحبَّت قالت أيفعل ذلك أحد في الدنيا. قلت نعم يفعله كثير في بلاد غير بعيدة عنا. قالت بأبي هم ولكن ما شأن النساء أيفعلن ذلك أيضاً لأواجههن. قلت لا بد حتى يعتدل الميزان. قالت أما أنا فلا أرضى بهذا الاعتدال فالميل عندي أحسن. قلت وكذا عندي في بعض الأحوال. قالت ولأحوال البعض. قلت فلنعد إلى السفر إنني أسافر اليوم. قالت نعم إلى بلاد فيها البيض الحسان. قلت أتعنيهم أم تعنيهن. قالت أعني نوعاً ويعنيني آخر. قلت ولمَ يعنيك وأنتن المطلوبات في كل حال ولذلك يقال للمرأة غانية. قال في القاموس الغانية المرأة التي تطلب ولا تطلب. قالت ما أحسن كلامه هنا لولا أنه قال قبل ذلك العواني النساء لأنهن يظلمن فلا يُنتصرن. غير أن هذه النقطة شفعت في تلك. قلت حبكن التنقيط دأب قديم. قالت مثل دأب الرجال في التحريف وكيف كان فإن مطلوبيتنا هي أصل العناء. فإن المطلوبة لا تكون إلا ذات العرض والإحصان فويل لها أن خانت محصنها. وويل لها أن حرمت طالبها وباتت تلك الليلة مشغولة البال بحرمانه وخيبته وبكونها صارت سببا في أرقه وجزعه وحسرته. والطالبة تعود غير مطلوبة. قلت ليست أخلاق الرجال في ذلك سواء. قالت إنما أعني الرجال الذين يطلبون ويكلفون بمن يطلبونه لا أولئك الطَرفِين الشنقين المسافحين الذين دأبهم التذوّق والتنقل من مطلوب إلى آخر ونفع أنفسهم فقط دون مراعاة نفع سواهم. ولكن هيهات هل في الرجال من يقيم على الوداد ولا يميل عنه كل يوم. لعمري لو لكانت النساء تطلب الرجال طلب الرجال للنساء لما رأيت فيهم غير مفتون. قلت هل في النساء من تقيم على الوداد ولا تجنح عنه كل يوم ألف مرة هذه الكتب كلها تشهد للرجال بالوفاء وعلى النساء بالخيدعية. قالت من كتب هذه الكتب أليس الرجال هم الذين لفّقوها. قلت ولكن من بعد التحري والتجربة، قالت من يأت الحكم وحدة يفلج قلت بل أوردوا على ذلك شواهد وكفى بما ورد عن سيدنا سليمان برهاناً ودليلاً.
فإنه قال قد وجت بين ألف من الرجال صالحاً فأما بين النساء فسلم أجد صالحة. قالت أن سيدنا سليمان وأن يكن قد أوتي من الحكمة ما لم يؤته غيره أن بائع المسك لطول ائتلافه بالرائحة القوية تضعف منه حاسة الشم بحيث لا يعود يشم الرائحة اللطيفة. وأما إيراد الأدلة من الرجال على النساء دون إيراد أدلة النساء على الرجال فمحص ظلم وبطر. قلت نعم كان الأولى مناقصة هذا الإيراد ولكن سبحان الله أنتن تتهمن الرجال في كل شيء ثم تتهافتن عليهم. قالت لولا اضطرار الأحوال لما شغلن بذلك الأبوال. قال فضحكت وقلت أي جمع هذا قالت قسته على غيره. قلت وهل استوى المقيس بالمقيس عليه. قالت لا فرق. قلت بل كله فرق فإن اللغة لا تؤخذ بالقياس. ولو صح ذلك لم تكن مناسبة بين الذكر والأنثى ولا بين الأنثى والذكر. ولا بين تذكير حقيقة التأنيث وتأنيث ما هو غير مقابل بمثله. قالت وهذا أيضاً من بطر الرجال وتشويشهم فلا يكادون يأتون أمراً مستقيماً. قلت قد رجعت إلى لومهم. قالت والله، لقد حرت في الرجال. قلت والله لقد حرتُ في النساء.
ولكن فلنعد إلى الوداع إني أعاهدك على أن لا أخونك. قالت بل تخونني على عهد. قلت ما يحملك على سوء الظن بي. قالت إني أرى الرجال إذا كانوا في بلاد لم يُعرفوا بها أفشحوا غاية الإفحاش. ألا ترى إلى هؤلاء الغرباء الذين يأتون إلى هذه الجزيرة كيف يتهتكون في العهر والفجور. فأول ما يضع أحدهم قدمه على الأرض يسأل عن الماخور. ولا سيما هؤلاء الشاميين ولا سيما النصارى منهم ولا سيما الذين ألمّوا بعلم شيء من أحوال الإفرنج ولغاتهم فأنهم يخرجون من المراكب كالزنابير اللاسعة من هنا وهناك. قلت لعلهم كانوا في بلادهم كذلك قالت ليس عندهم أسباب الفحش هناك. قلت أو كانوا فاسدين بالطبع. قالت نعم هو عرق فساد فأول ما يستنشقون رائحة بلاد الإفرنج ينبض فيهم. ولذلك تراهم أبداً يتلمظون بذكر بلاد الإفرنج وعاداتهم وأحوالهم. مع أنك إذا سألت أحداً منهم عن طعامهم قال لا يستطيبه. أو عن ألحانهم قال لا تطربه. أو عن كرمائهم قال لم تأدبه. أو عن حمّاماتهم قال لم تعجبه. أو عن هوائهم قال لم يلائمه. أو عن مائهم قال لم يسغ له. فيكون لهجتهم بذكر بلادهم وتنويههم بمحاسنها إنما سببه الفحش. وأنت من يضمن لي طبعك عن الفساد وقد أسمعك كل يوم تُهيم بذكر الرجراجة والرضراضة والبضباضة والفضفاضة والربحلة والرعبوب والعطبول. وهي لعمري ألفاظ تسيل لعاب الحصور وتشهّي الناسك. قلت إن هو إلا كلام. قالت أول الحرب كلام. قلت أترين اعدّي عن هذه الصنعة الشائقة، والحرفة العائقة. قالت إن لم تتصور ذاتا بعينها عند الوصف فلا بأس. قلت إن لم أتصور ذاتا لم يخطر ببالي شيء. قالت إذن هو حرام. قلت ما كفارته. قالت إياي لا غير. قلت ولكن أنت خالية عن بعض الصفات التي لابد من ذكرها قالت إذا كان الرجل يحب امرأته رأى فيها الحسن كله ونظر من كل شعرة منها امرأة جميلة كما أنه إذا احب امرأة غيرها أحبّ لأجلها بلادها وهواءها وماءها ولسان قومها وعاداتهم وأطوارهم. قلت أو كذلك المرأة إذا أحبت رجلاً. قالت هو في النساء أكثر لأنهن أوفر حبا ووجداً. قلت ما سبب ذلك. قالت لأن الرجال يتشاغلون بما ليس يعنيهم. فترى واحداً منهم يطلب الولاية وآخر السيادة وآخر البحث في الأديان وفي ما غمض من السفليات والعلويات. والنساء لا شيء يشغلهن من ذلك. قلت ليتك تشاغلت مثلهم. قالت ليت لي قلبين في شغلنا. قلت أفتنظرين في الحسن كله كما زعمت. قالت أُحْسن فيك النظر: قلت فلنعد إلى الوداع لا بل فلنعد إلى التشاغل. فإني أريد أن أنهي هذه المسألة قبل أن أفصل من هنا وإلا فتكون لي شاغل الطريق وربما أفسدت شغلي عند القوم فأرجع باللوم عليك وعلى سائر النساء. قالت اعلم إن المرأة تعلم من نفسها إنها زينة هذا الكون كما أن جميع ما فيه إنما خلق لزينتها لا لزينة الرجل. لا لكونه مستغنياً عنها بذاته أو لكونها هي مفتقرة إليها لتحلو بها في عين الناظر وإذن السامع، بل لعدم جدارة الرجل بها. فإن الزينة نوع من الأخذ والتلقي والاستيعاب والزيادة وهي أحوال أنسب بالمرأة منها بالرجل. وبناء على هذا أي على أن جميع ما في الكون خُلق لها بعضه بالتخصيص وبعضه بالتفضيل والإيثار. كان من بعض اعتقادها أن نوع الرجل أيضاً مخلوق لها. لا بمعنى إنها تكون زوجة لجميع الرجال. فإن ذلك محال من وجهين. أحدهما إنها لا تطيق ذلك لأن سرية ذلك اليهودي "على ما ذكر في الفصل التاسع عشر من سفر القضاة" لم تطق أهل قرية واحدة "هي جبعة" على قلتهم ليلة واحدة. بل ماتت في الصباح وسيدها يحسبها نائمة. وهذه الحكاية ذكرت ردعاً للنساء. والثاني إنه إذا ثبت لامرأة حق في حكر الرجال والاستبداد بهم ثبت الحق الباقي. ولكن بمعنى إنها أهل لأن تعاشر جميع الرجال وتتعرف ما عندهم. فتتلهى من واحد بتملقه ومن آخر بإطراء ومن غيره بمغازلة ومن آخر بمطارحة وما أشبه ذلك. مما لا يمنعها من محبة زوجها والكلف به. لا بل -قال فقلت أتمنى هذه اللابليّة فإني أراها ترجمة لداهية من دواهي النساء وعنواناً على مكيدة من مكايدهن. فضحكت وقالت ربّما دلت على الرأي الظنون. غير إني أخشى من أن تأخذك لبيانها شفشفة ورعدة فتتأخر عن السفر. أو أن تظن إن هذا دأبي معك. معاذ الله. إني لم أخنك بضمد ولا بغيره. وإنما علمت من النساء لأن النساء لا يكتم بعضهن عن بعض شيئاً من أمور العشق وأحوال الرجال.
قلت أوجزي فقد قلقت وفرقت وعرقت. قالت أعلم إن بعض النساء لا يتحرّجن من وصال غير بعولتهن لسببين. الأول لعدم اكتفائهن بالقدر المرتب لهن منهم. فإنهم يعودونهن أولا على ما يعجزون عن أدائه إليهن آخراً. ولا يخفي أن من النساء المدقم وهي التي تلتهم كل شيء. ومنهن الشفيرة وهي القانعة من البعال بأيسره. ومنهن الضامد وهي التي تتخذ خليلين. ومنهن المطماع وهي التي تُطمع ولا تمكن. ومنهن المريم وهي التي تحب الرجال ولا تفجر وهو خلقي. قال فقلت اللهم أمين. قالت واللاعة وهي التي تغازلك ولا تمكنك. والسبب الثاني لاستطلاع أحوال الرجال واختبار الأبتع وغير الأبتع منهم لمجرد العلم كيلا يفوتهن حال من أحوالهم. ومنهن من تعتقد أن زوجها يخونها عند كل فرصة تسنح له. لما تقرر في عقول النساء إن الرجال لا شغل لهم إلا مغازلتهن ومباغمتهن. فهي على هذا لا تجد سبيلاً للشطح إلا وتزّف فيه. اعتقاداً إنها أخذت بثأرها جزماً أي قبل وقته الموقوت. ومع ذلك فلا يحلن عن محبة بعولتهن. بل ربما كان ذلك الشطح أدعى لزيادة حبّهن لهم. قلت لا متعني الله بحب ناشئ عن مد قميه ولا ضمد. ولكن كيف يكون هذا التخليط أدعى إلى زيادة الحبّ والمرأة إذا ذاقت البكبك والعجارم والعجارم والقازح والكباس لم تقتنع بعد ذلك بزوجها حالة كونه لا يحول عن الصفة التي فطر عليها. وكذا الرجل أيضاً إذا ذاق الرشوف والرصوف والحزنبل والعضوض والأكبس فإنه يرى زوجته بعد ذلك ناقصة. فضحكت وقالوا كانت هذه الصفات لازمة للمرأة وكان عدم وجودها فيها نقصاً لما كنت تراها في أفراد قليلة من النساء. فإن معظمهن على خلاف ذلك. فأما سبب زيادة المحبة فيما زعمن مع التخليط فهو أن الزوج لطول الفته بزوجته وضراوته عليها وحالة كون مسّ أحدهما الآخر لا يحدث في جسم الماسّ والممسوس هزة ولا رعشة ولا ربوخيّة. يمكن له معها المماتنة والإمعان والوقوف بخلاف الغريب فإنه لشدة نهمه ودهشته أو لفرط مرواحة المرأة إياه على العمل. أو لكون الحرام لا يسوغ دائما مساغ الحلال تفوته الصفتان المذكورتان. فاللذة معه جلّها ناشئ عن التصور. أي عن تصور كونه غير زوجها. كما أن نغصها مع زوجها جله ناشئ عن تصور كونه غير غريب. وإلا فالواقع أن اللذة في الحلال أقوى. غير أن التصور له موقع يقرب من الفعل. وبيانه لو اعتقدت رجل مثلاً أن امرأة غير امرأته تبيت معه ثم باتت معه امرأته بعينها وهو لا يعلم ذلك كما جرى لسيدنا يعقوب عم. لوجد امرأته تلك الليلة متصفة بجميع الصفات التي تصورها في غيرها. وكذا شأن المرأة. فبناء على ما تقدم من اعتقاد المرأة بأن جميع ما في الكون من الحسن والزينة والبهيجة يناسبها كان تصورها صفات الحسن وتشاغلها به مطلقا عاما. غير إنه إذا كان لها خاص قريباً منها تناولت ذلك الخاص متناول العام. حتى أنه كثيراً ما يخطئ فكرها واحدا منهم بخصوصه. فيتجاذبه اثنان أو ثلاثة حتى تذهل عن الشاغل والأشغل. وهو في الواقع تحوف من اللذة كمن يريد ان يشرب من ثلاث قلل يضعها على فيه في وقت واحد. قلت كلامك هذا ينظر إلى قول الشاعر:
إذا بت مشغول الفؤاد بما ترى ... من الغيد عيني والجمال مفرق
اركبّ في وهمي محيّا يشوقني ... على قامة أولى به ثم أشبق
ولكن قد نهيتني آنفاً في التغزل عن تصور ذات بخصوصها وقلت أنه حرام فهّلا قلت بحرميّة هذا أيضاً. قالت إنما حرميه ذاك لكونه ذاهباً في الكلام سدى وسرفا. على أن الغزل كله كيفما كان لا خير فيه ولا جدوى. فأما في الفعل من قبل النساء فإنه ينشأ عنه صاحبه الأولاد. ولذلك ترى انف بعضهم كأنف زيد وفمه كفهم عمرو وعينيه كعيني بكر. وهو أيضاً جواب لمن قال إن في رؤية الرجل نساء كثيرة مصلحة تعود على امرأته لاكتسابه منهن التشمير عند الإياب. بخلاف خروج المرأة فإن التشمير ملازم لها. فأما هؤلاء الحمقى الزاعمون أن تصوّر الرجل مؤثر في توزيع الولد فيلزمهم أن لا يروا امرأة أصلا غير نسائهم. لئلا تأتي ذريتهم كلها إناثا أو في الأقل خناثاً. وذلك لمناعفة التصوّرين من قبل الأب والأم. وألا وإن امرأة لا تستبدل زوجها إلا بالفكر والتخيل لجديرة بأن تكون قِبله كل مطرئ. وإن لا يفكر زوجها إلا فيها. قلت مقتضى كلامك إن النساء المقصورات عن رؤية العموم لا لذة لهن مع الخصوص. قالت أما بالنسبة إلى ناظرة العموم فلا.
وأما بالنسبة إلى العدم فنعم. فإن الماء مهما يكن سخنا يطفئ النار. قلت وبالعكس أي أن النار مهما تكن باردة تسخن الماء. قالت يصح العكس لكن الطرد أولى. قلت إلى كم قسم اللذة. قالت إلى خمسة أقسام. الأول تصورها قبل الوقوع. الثاني ذكرها قبله. الثالث حصولها فعلا بالركنين المذكورين. الرابع تصورها بعد الوقوع. الخامس ذكرها بعده. وكون لذة التصور قبل الوقوع أقوى أو بعده أقوال. فذهب بعض ألا أن الأولى أقوى. لأن الفعل لمّا كان غير حاصل كان الفكر فيه أجول وأمعن فلا يقف على حدّ. وزعم آخرون إن الحصول يهيّئ للفكر هيئة معلومة وصورة معينة يعتمد عليها في قياس ما يترقب من الإعادة والتكرير. وكما حصل الخلاف في وقتي التصور حصل أيضاً فيه وفي الذكر. والعبرة بحدّة التصور وذرب اللسان. فأما اصلح الأزمنة لها فالصيف عند النساء والشتاء عند الرجال. فأما الكمية فمن الناس الموحدون ومنهم المثنوية ومنهم أهل التثليث. قلت ومنهم المعتزلة والمعطلون. قالت هؤلاء لا خير فيهم. وما هم جديرون بأن يعدّوا مع الناس. قلت ما شأن من يتزوج اثنتين وثلاثا. قالت هو أمر مغاير للطبع. قلت كيف وقد كانت سنّة الأنبياء. قالت هل نحن نبحث الآن في الأديان أو نتكلم في الطبيعيات. إلا ترى أن الذكور من الحيوانات التي قُدّر لها أن تعيش مع إناث كثيرة قدر لها أن تعيش مع إناث كثيرة قُدّر لها أيضاً القدرة على كفايتهن كالديك والعصفور مثلا. وغيرها إنما يعيش مع واحدة ويكتفي بها. ولما كان الرجل غير قادر على كفاية ثلاث لم يكن أهلا لان يحوزهن. وبعد فلأي سبب حُظرت المرأة عنان تتزوج ثلاثة رجال. قلت إِن في كثرة النساء للرجل كثرة النسل التي يتوقف عليها عمران الدنيا. وذلك مفقود في كثرة الرجال للمرأة الواحدة. على أني قرأت في بعض الكتب إن هذه العادة لم تزل مستعملة عند بعض الهمج. قالت مه مه أهؤلاء هم الهمج وانتم المتمدينون الكيسّيون. فأما دعواك بتكاثر النسل في كثرة النساء فهل سكان الأرض الآن قليلون. ألم تضق بهم البسيطة وتثقل بهم بطونها ويمزق اديمها. فما الموجب إلى هذا الإكثار سوى البطر والنهم. قلت قد عدت إلى لوم الرجال فلنعد إلى الوداع. أني مسافر عنك اليوم وتارك عندك فؤادي حتى إذا زارك أحد أحسّ به. قالت كيف تحس وما فؤادك معك. والناس يخصّون القلب بالحس والشعور. والحزن والسرور. قلت أن حسي برأسي. قالت من أي جهة. قلت من الجانب الأعلى من الرأس. قالت نعم الشيء إلى جنسه أميل. ولكن أين تتركه. قلت على العتبة كيلا يخطوها أحد. قالت فإذا طفر فوقها. قلت في الفراش. قالت فإن يكن في غيره. قلت فيك. قالت ذلك أحسن مقرّا. إني أعاهدك على ما كنا عليه من الحب والوداد من أيام السطح إلى الآن. ولكن حين أحسّ واشعر من هنا بأنك تبدلت السطح بالشطح أقابلك بفعل مثل فعلك والبادي أظلم. قلت إنك كثيرة الوساوس شديدة الغيرة. فلعل شعورك يكون عن وسواس. قالت بل الأولى إن الوسواس يكون عن الشعور. قلت دار ما بينا الدور. قالت حاول إذاً فكَّه. قلت هو فرض فلابد من قضائه. قالت وقضاء لابد من فرضه. قلت أيعقد به العهد. قالت إذا عهد به العقد. قلت لا أرضى بهذه الصفة. قالت ومن لي بوصف هذا الرضى. قلت هلكان العقد في الشرط. قالت كان الشرط بلا عقد. قلت مثلنا مثل ذلك المجنون. قالت لولا الجنون ما جمعنا الزواج: قلت أكثر الناس على هذا. قالت أكثر الناس مجانين. فقلت الحمد لله رب العالمين.

استرحامات شتى
من كان من طبعه المين والافتراء أومن كان جاهلا بالنساء ارتاب في هذا الوداع ونسبه إلى ترقيش الشعراء ومبالغتهم. ولكن أي منكر على من جعلت دأبها وديدنها وشنشنتها ونشنشتها ومُهوأنها وهُذيرباها وأُهجورتها وفَعِلتها ومَطرتها المحاضرة والمفاكهة والمساقطة والمطارحة والمحازرة والمجازرة وسرعة الجواب. بل كثيراً ما كان يجتمع الفارياق اثنان أو ثلاثة من أصحابه فإذا خاضوا في حديث انتدبت لهم وجارتهم فيه وعارضتهم وما تنتهم. فكل فصيح أن تعارضه لم يُبن وكل بليغ أن تساجله يرتكّ. وقد علم بالتجربة أن جواب المرأة أسرع من جواب الرجل. وأن المشتغل بالعلم يكون أبطأ جواباً من غير المشتغل به. لأنه لا يقدم على ذلك إلا بعد الفكر والروية. على أن هذه العبارات التي نقلتها هذه المرأة المبينة من غير قراءة البيان هي دون الأصل بمراحل. فإني لم أقدر في نقل الحركات التي تبدو منها. وعلى أن أصوّر للمطالع عيوناً تغازل وحواجب تشير. وأنفا يرمع. وشفاها تزمع. وخدوداً تتورد. وجيداً يلوي. ويداً تومئ. ونفساً يربو ويخفت. وصوتاً يخفض وينبر. وزد عليه مسح المآق إشارة إلى الاستعبار. وتوالي الزفرات رمزاً إلى الحزن والانبهار. والتبلد إيذاناً بالأسف. والتنقل من جنب إلى جنب إعلاناً بالجزع واللهف. وغير ذلك مما يزيد الكلام قوة وبلاغة. وهذه ثاني مرة ندّمتني على جهلي صناعة التصوير. والمرة الأولى جمالهن. ويمكن إني أندم مرة ثالثة.
وهنا ينبغي أن أقف على قدمي منتصباً وأستميح الإجازة من ذوي الأمر والنهي لأن أقول. إنه قد جرت عادة جميع الولاة والملوك ماعدا ملك الإنكليز بان لا يدعوا أحداً يدخل بلادهم أو يخرج منها ما لم يدفع لدواوينهم أو لوكلائهم المعروفين قدراً من الدراهم بحسب خصب مما لكم. محلها. وذلك بدعوى أن المسافر إذا نزل بلادهم ساعة أو ساعتين فلابد وأن يرى قصورهم الفسيحة وعساكرهم المنصورة أو خيلهم النجية ومراكبهم الفاخرة. فيكون كمن يدخل ملهى من الملاهي. إذ ليس يدخلها أحد من دون من الملاهي. إذ ليس يدخلها أحد من دون غرامة. فإن اعتراض أحد بقوله إِنا في الملهى نسمع أصوات المغنين والمغنيات وآلات الطرب. ونرى الأنوار المزدهرة والأشكال المتنوعة ووجوه الحسان الناضرة وحركاتهن الباهرة. ونضحك حين يضحكن. ونطرب حين يرقصن. ونشغف حباً حين يغازلن فأما في رؤية إحدى مدنكم فإنا لا نرى شيئاً من ذلك. بل إنما ندخل لكي يغبننا تجاركم فتكون فائدتنا في الدخل قليلة. قالوا قد يتفق وقت قدومكم بلادنا أن تكون عساكرنا قد شرعت في العزف بآلات الطرب فهذا مقابلة في الطرب في الملهى. أما النساء فإنا نأذن لكم في التمتع بكل من أعجبتكم فاجروا وراء من شئتم بحيث يكون النقد على الحافز. ومع ذلك فلا ينبغي أن تشبه مدائننا التي تشرفت بحضرتنا ببعض الملاهي. ولاسيما أن هذه سنة قديمة قد مشت عليها أسلافنا طاب ثراهم. وتقادمت عليها السنون والأحوال حتى لم يعد ممكناً تغييرها. فإن الملك إذا أمر بشيء صار ذلك سنة وحكما ويشهد لذلك قول صاحب الزبور أن يد الرب على قلب الملك. بمعنى أن الملك لا يفكر في شيء إلا ويد الله عاصمة له فيه. هكذا شرح هذه الآية العلماء الربانيون في بلادنا ومن خالفهم فجزاؤه الصلب. وبعد فإن الملك إذا أخذ في تغيير العادات وتبديل السنن فربما أفضى ذلك إلى تغييره. فيكون مثله كالديك الذي يبحث في الأرض عن حبة قمح فيثير التراب على رأسه. وصغر ذلك تشبيها. فالأولى إذا إقرارا كل شيء في محله. ثم لا فرق بين أن يكون قاصد بلادنا غنياً أو فقيراً. صالحاً باراً أو لصاً فاجراً رجلاً كان أو امرأة. فكلهم ملتزمون بأداء الغرامة وتحمل الغبن -ولكن يا سيدي ومولاي أنا امرأة معسرة قد اضطررت إلى المرور بمدينتك السعيدة. لأن زوجي المسكين كان قد قدم إلى بلادكم الملكية ليدير مصلحة فقضى عليه الله تعالى بالوفاة. فتركت صبية لي في البيت يتضورون جوعاً وجئت لأرى زوجي الميت حالة كونه لا يراني. ومع ذلك فإني أُعدّ من الحسان اللائي يحق لهن من أمثالك العناية والإلطاف. فكيف التزم بالغرامة فضلا عن نفقة السفر وفقد زويجي الذي كان لي سنداً- ارجعي من حيث جئت فما هذا وقت الاسترحام. لأن القواعد التي تقرر في دفاتر الملوك لا تقبل التبديل ولا التحريف ولا يستثنى منها شيء- وأنا أيضاً يا مولاي رُجَيْل فقير رماني الدهر بصروفه لأمر شاءه الله. فوافيت بلادكم طمعاً في تحصيل وظيفة تقوم بأودي. وما أنا من ذوي التغاوي والفتن ولا من الباحثين في سياسات الملوك وإيالاتهم. فقصارى منيتي تحصيل المعيشة. على إني أعرف شيئاً لا يعرفه أهل بلادكم العامرة فربما كان مقامي فيها مفيداً لدولتكم السعيدة. ولو صدر الأمر العالي بامتحاني واختباري فيما ادّعيه لأكرمتم مثواي فضلاً عن الرخصة لي في دخول بغير غرامة- يا طائف يا عسس يا زبينية يا جلواز يا شرطي يا عون يا ذبي يا مسحل يا فارع يا قليع يا تورور يا ثؤرور يا أثرو يا ترتور أودع هذا السجن. إن هو إِلا جاسوس قدم يتجسس- بلادنا. وفتشوه عسى أن تجدوا معه أوراقا تكشف لنا عن خبره- وأنا كذلك يا مولاي وسيدي غليتم مسيكين قد جئت لا نظر أبي إذ بلغني إنه كان قادماً من سفره فدخل بلادكم فأصابه هواؤها الحميد بمرض شديد منعه من الحركة. فلّما علمت أمّي بمرضه أيضاً مما شملها من الحزن والكرب لطول غيابه بعثتني إليه لعلي أخدمه وأمرّضه فيطيب خاطره برؤيتي ويخف ما به. فإن رؤية الأب أبنه حال مرضه تقوم له مقام الدواء- ما نحن بمربّي الأولاد ولا بلادنا مكتب لهم حتى يأتوا إليها ويخرجوا منها من دون غرامة. أذهب وكن رجلاً بأدائها على الفور- وأنا أيضاً يا عتادي وملاذي. وثمالي ومعاذي. وملجإِي وملتحدي. وسندي ومعتمدي. وركحي وركني. وعزي وأمني. رجل من الشعراء الأدباء كنت قد مدحت بعض


* كتاب: الساق على الساق في ما هو الفارياق
المؤلف: أحمد فارس بن يوسف بن منصور الشدياق (المتوفى: 1304هـ)





========
أحمد فارس الشدياق (1804؟ - 1887)، هو أحمد فارس بن يوسف بن يعقوب بن منصوربن جعفر شقيق بطرس الملقب بالشدياق بن المقدم رعد بن المقدم خاطر الحصروني الماروني من أوائل الأفذاذ الذين اضطلعوا برسالة التثقيف والتوجيه والتنوير والإصلاح في القرن التاسع عشر غير أن معظم الدراسات التي تناولته عنيت بالجانب اللغوي والأدبي وأهملت الجانب الإصلاحي، ولم ينل ما ناله معاصروه من الاهتمام من أمثال ناصيف اليازجي (1800-1871) ورفاعة الطهطاوي (1801-1873) وعبد القادر الجزائري (1807-1883). بالرغم من كونه واحدا من أبرز المساهمين في مسار الأدب العربي ومن أسبقهم.
ماروني بالولادة، وتحول أكثر من مرة في أكثر من طائفة في المسيحية إلى أن استقر على الإسلام. عاش في إنجلترا ومالطا ورحل أيضا إلى فرنسا.
يعد أحمد فارس الشدياق أحد أهم الإصلاحيين العرب في عهد محمد علي وله منهجه الإصلاحي الخفي الذي يبدو فيه أنه فضل التورية والترميز على التصريح والإشهار وذلك لما كان يحويه منهجه من انتقادات لاذعة للقيادات الرجعية، ولخوفه من أن يدان من قبلها أو تحرق أعماله، ويظهر هذا في كتابه (الساق على الساق في ما هو الفارياق) الذي يعد بمثابة الرواية العربية الأولى على الإطلاق.
صحافي لبناني كان يصدر صحيفة الجوائب (1881 - 1884م) في إسطنبول. من ألمع الرحالة العرب الذين سافروا إلى أوروبا خلال القرن التاسع عشر. كان الكاتب والصحافي واللغوي والمترجم الذي أصدر أول صحيفة عربية مستقلة بعنوان الجوائب مثقفاً لامعاً وعقلاً صدامياً مناوشاً أيضاً.
اعتناق المذهب البروتستانتي
كان لفارس أخ يكبره بسبع سنين اسمه أسعد، وكان أسعد يحب العلم، وكان يتقن خمس لغات ولأنه كان من عائلة مارونية عريقة، فكان أيضا يعتنق المذهب الماروني، ولكنه مال إلى الطائفة الإنجيلية، وبعد أن درس أسعد تلك الدعوة ومحصها اقتنع بها، وصار يلازم المبشر الأميركي إسحاق بيرد. فغضبت والدة أسعد وإخوته غضباً شديداً، كما غضب عليه البطرك، ومنعه من مخالطة المبشرين وهدده بالعقاب. لقد أعطى أسعد لأخيه فارس مجموعة من المطبوعات الدينية البروتستانتية ليقرأها. فراقت في عينيه وتفكيره، وأخذ يقنع والدته وأخوته بترك أخيه وشأنه. وفي أحد الأيام دخل على فارس أخوه منصور، فرآه يقرأ في تلك المطبوعات، فاستل سيفاً وأخذ يضرب أخاه بقفا السيف. ثم تبعه أخوه غالب، وصار يضرب فارساً بعصاه، ويأمره بترك الهرطقة والعودة للصلاة في الكنيسة. كان أسعد شدياق في ذلك الوقت سجيناً في دير قنوبين، فكتب رسالة إلى المبشر إسحاق بيرد، وأرسلها إليه بواسطة أخيه فارس، وكانت الرسالة مؤرخة في 4/4/1826م، وقال له فيها:

«إذا أمكنك أن تجد مركباً متوجهاً إلى مالطا، في برهة أربعة أو خمسة أيام، فأخبرني، وإلا فصلّي لأجل أخيك».

سفر الشدياق إلى مصر ومنها إلى مالطا
لما وجد المبشر إسحاق بيرد أن من المتعذر عليه إنقاذ أسعد شدياق من سجنه، وترحيله بالتالي إلى خارج لبنان، فضل السعي لإنقاذ أخيه فارس الذي اعتنق البروتستانتية، وأصبح مرشحاً ليكون مبشراً لهذا المذهب، وبالتالي مهدداً بالسجن والعقاب كأخيه. وفي اليوم الثاني من شهر كانون الثاني 1826م غادر فارس شدياق مدينة بيروت على ظهر سفينة أقلته إلى الإسكندرية. وكان يحمل كتاباً من المبشر إسحاق بيرد إلى مبشر آخر موجود في مصر، ويطلب فيه مساعدة فارس على السفر إلى مالطة. ولما وصلت السفينة إلى الإسكندرية استقبله القسيس المقيم فيها وأنزله في مسكن يقع بجواره، ولبث عنده ينتظر وصول السفينة التي ستقله إلى مالطا. ولما تعرف القسيس على فارس شدياق وتحدث معه خلال ذلك، أعجب بذكائه وسعة اطلاعه، ورغب في استبقائه في مصر، إلا أن إسحاق بيرد رفض ذلك، رغبة منه في إبعاد فارس عن جو مصر، الذي يمكن أن يغريه بترك الزهد والتبشير- وبهدف تعليم فارس اللغة العربية للأجانب وتصحيح الترجمات الدينية للمبشرين. ولما وصل فارس شدياق إلى مالطا طلب منه القسيس أن يغير لباسه الشرقي، من عمة وجلباب، وأن يرتدي سروالاً ضيقاً وقبعة، لكي يكون شبيهاً بالمبشرين الأميركان، كما طلب منه أن يتعلم اللغة الإنكليزية للتعاون مع المبشرين. ولكن الجو الرطب الذي يسود جزيرة مالطا أصاب الشدياق بداء المفاصل وجعله طريح الفراش، فأشار الطبيب على القسيس أن يعيده إلى مصر. وبلغت مدة إقامته في مالطة سنة أو أكثر قليلاً. ويقال إنه عمل في الطبعة الأميركية الموجودة في تلك الجزيرة، ولكن المطبوعات التي صدرت منها كانت ركيكة العبارة، وهي غالباً بقلم المرسلين الأميركيين الذين كانوا فيها.
عودته لمصر وعمله وزواجه فيها
عاد فارس شدياق إلى مصر 1828، كما عاد إلى زيه الشرقي، ومكث مدة يعمل مع المبشرين الأميركان. فنصحه أحد معارفه أن يتصل برجل وجيه ليؤمن لـه وظيفة في الدولة. وبهذه الصورة انتقل للعمل في جريدة الوقائع المصرية التي أنشأها الوالي محمد علي باشا. وكانت تلـك الجريـدة تنشر أخبار هذا الوالي، وفيها كثير من التمجيد لشخصه وأعماله. وصدر العدد الأول منها بتـاريخ 1828/2/3 أربع صفحات وباللغة التركية، كما كانت تصدر بصورة غير منتظمة. كانت المدرسة التي سكن فيها الشدياق بالقاهرة مجاورة لمنزل تاجر سوري من بيت الصولي. وكان لهذا التاجر بنت مغرمة باللهو والطرب. وكان فارس شدياق منذ صباه يجيد الغناء والعـزف على الطنبور. فكانت تصعد إلى سطح المنزل وتنصت لغنائه وعزفه. ولما لاحظ أن صعودها كان من أجله مال إليها، وعمل على اللقاء بها عدة مرات. واتفقا بعد ذلك على الزواج. إلا أن أهل الفتاة رفضوا طلبه حينما تقدم لخطبتها، لأنه كان بروتستانتي المذهب، وهم من الكاثوليك، ولمـا أصـر العاشقان على الزواج وافق الأهل، ولكن بشرط أن يعتنق فارس الكاثوليكية ولو ليوم واحد
كانت لهذا الرجل الذي عاصر فيكتور هوجو وجوستاف فلوبير وإدجار ألن بو وتشارلز ديكنز اتصالات بمستشرقين ومثقفين عرب. وهو متمكن بارع في اللغة العربية، متمرس بفن البلاغة وبدقائق القاموس اللغوي، فقد كان في الوقت ذاته أحد أهم مجدديها.
صاحب الرواية العربية الأولى
في بحث فريد للكاتبة العربية «رضوى عاشور» قدمت أطروحتها في القضية الجدلية المتعلقة بالسؤال الشهير، ما هي الرواية العربية الأولى في الأدب العربي؟ وفي أطروحتها تلك، ساقت «رضوى عاشور» الكثير من الأدلة التي ترجح كفة رواية الشدياق «الساق على الساق» بأنها الرواية العربية الأولى على الإطلاق. يطرح كتاب رضوى كذلك تساؤلا هو:

«لماذا أُسقط إنجاز الشدياق وقد أنتج النص الأدبي الأغنى والأقوى في الأدب العربي في القرن التاسع عشر؟» ثم تجتهد في الإجابة عبر قراءة نقدية مستفيضة تستكشف النص وعلاقته بزمانه. وتكشف الأبعاد الاستعمارية في تقييم وتصنيف الأدب العربي. وعمّا وصلنا من مناهج دراسية تسلط الضوء على إنجازات ما، لا يشترط بالضرورة أن تكون هي الأكبر. في حين يغفل ذلك التاريخ الانحيازي الكثير من الإنجازات الأكثر أهمية على المستوى الأدبي العربي.

أعماله
ساهم «الشدياق» مساهمة فعّالة في تطوير لغة صحفية حديثة منقّاة من البلاغة الزائدة. وصقل العديد من المصطلحات الحديثة مثل عبارة الاشتراكية التي أضافها إلى اللغة العربية. من مؤلفاته:

الواسطة في أحوال مالطة، حيث سافر عام 1834 م إلى جزيرة مالطا وأقام بها أربعة عشر عاماً يدرس في مدارس المراسلين الأمريكيين
كشف المخبأ في أحوال أوروبا، حيث أقام بلندن وباريس فترات متفاوتة، طبع في تونس والآستانة.
الجاسوس على القاموس، انتقد فيه معجم القاموس المحيط لصاحبه الفيروز آبادي.
الساق على الساق في ما هو الفارياق، دعا فيه إلى تحرير المرأة قبل قاسم أمين بسنوات طوال، وربما يعد هذا الكتاب هو الرواية العربية الأولى على الإطلاق بخلاف ما هو سائد عن أن الرواية العربية الأولى هي رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل.
كنز الرغائب في منتخبات الجوائب، مقالاته المنشورة في جريدة الجوائب
اللفيف في كل معنى طريف، كتاب لتعليم القراءة والنحو العربي،
سر الليال في القلب والإبدال، صدر عام 1868
غنية الطالب، كتاب في النحو
الباكورة الشهية في نحو اللغة الإنكليزية، مالطا، 1838
سند الراوي في النحو الفرنساوي، باريس 1854
كما ترجم التوراة إلى العربية،
شرح طبائع الحيوان طبع في مالطا سنة 1841 (هو كتاب ترجمه الشيخ أحمد فارس من الإنكليزية في شبابه ووضع فيه أسماء لبعض الحيوانات لا تزال شائعة إلى يومنا (الكلام للفريق أمين المعلوف))
كتاب "A practical grammar of the Arabic language : with interlineal reading lessons, dialogues and vocabulary"، سنة 1856

1707243515571.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى