عبدالكريم العامري - عبد المطلب ملا أسد.. الماضي في القصيدة الرشيقة!

يبقى الشاعر، بإحساسه المرهف، ونظرته لما يجري حوله، رهين ماضيه، ومشاعره التي قد تطفح الى السطح لتشكّل صوراً ثلاثية الأبعاد لحسّه الإنساني، ومنهم من يؤطرها بقوالب من ثلج، وآخر يحيطها بدائرة من نار!
كل مفردة يكتبها الشاعر تكون متنفساً له، وتعبيرا عن أفكاره، ولحظة للتخلّص من قلقه وكما يقول الفيلسوف والشاعر الألماني نوفاليس أن (الشعر يداوي الجراح التي يحدثها العقل) ذلك لأن العقل يلمّ مما ترشّح من حوله ويثقل عليه وعلى حياته وقد يجعلها جحيماً لا يطاق فرط الإحساس الذي يتصف به الشاعر.
وقد تكون هناك بعض الاختلافات بين هذا الشاعر أوذاك تبعاً لقدرة التخييل لديه، ومقدرته على تطويع مفرداته بما يحدد اسلوبه وطريقته في معالجة النص، لكن بالنتيجة أن ما يظهره النص هو التعبير عن الأفكار، والمشاعر المتداخلة وهي خليط من أزمنة مختلفة.


1707266968742.png


في تجربة الشاعر عبدالمطلب ملا أسد نقرأ ما ذكرناه بوضوح من خلال ديوانه الموسوم (العقد الخامس) فهو يبحر في تلك السنوات التي خلت، وتركت أثرها بدواخله، وليس من محض الصدفة أن تكون قصيدته اشتياق تأخذ عتبة أولى من بين قصائد المجموعة المذكورة فهو يناجي حلماً ما زال يدغدغ أحاسيسه:
(يا حلماً ما زلت أراوده ويراودني
يا من ترقب ذلي
وهواني وجنوني
ما ضرك لو أوقدت
بحالك ليلي سراجاً
او كحلت بلقياك جفوني)
هو يقف عند مفازة العقد الخامس، وتراه منشدّاً لماضيه الذي يثير أوجاعه، ما يضعه في دائرة الاغتراب والوحدة بعد فقد من كانوا يعيشون معه، يستذكر كل من مرّوا عليه وتركوا أنفاسهم في فضاء حياته:
(كل الذين حدّثتهم عن أحلامي..
….
….
ليسوا هنا..)
أنهم يتغلغلون في ذاكرة الشاعر المتقدة، يشعر ويحسّ بهم، ويحاول جاهداً استقدامهم لحاضره لكنهم (غابوا) و (ليسوا هنا):
(كل الذين شاجرتهم في طريق
الذهاب الى المدرسة
وصالحتهم في الدرس الأول
ليسوا هنا..)
هو حنين إذن للصحبة الطيبة، ولتلك الحياة البسيطة الخالية من كل تعقيد، وفارغة من الكره والعداء! الحياة التي كانت ببساطتها جنّة له الأمر الذي استدعى فيه الأمنية والحلم في أن يبقى يدور في فلكها:
(ليتني بقيت مع النوارس)
وبالرغم من أنه في قصيدة (أصوات) يحاول أن يتغلب على ذاكرته ليمحو ما علق فيها من ألم ومكابدات، الا أنه لم يستطع الإفلات منها:
(لن يجرأ بعد اليوم
أن يبعث في وجداني ذكرى)
والحنين للماضي نجده واضحا بشكل جلي في قصيدته (الى الفاو الشمالي)، حيث يجرّه الحنين الى المكان الذي نشأ فيه، واستأنس به، فهي القرية التي كانت ذات يوم مرتعاً لأحلامه، فاصبحت بين ليلة وضحاها قرية (مهجورة سليبة) كما يصفها، هو يقارنها بتلك الأمكنة التي أتلفتها الحروب، ودمرتها مثل (هوريشيما وناكازاكي) البلدتين اللتين راحت ضحية عقل مهووس بالقتل والموت والدمار!.. في قصيدته يشير الى المفارقة الغريبة في أن تلك الأماكن قد دبت فيها الحياة وعادت اليها الروح الا أن قريته ما زالت تعاني رغم مرور سنوات على انتهاء الحرب. لم تستفق بعد تلك القرية الغافية على كتف شط العرب في الجنوب العراقي بعد:
(لقريتي البعيدة الجميلة
كتبت أغنيات
كي تستفيق من سبات
يلفها منذ سنين)
هو يضع مقارنته بين المدينتين اللتين دمرتها القنيلة الذرية وبين مدينته التي دمرتها القذائف وعبثت فيها الحرب:
(لقريتي المهجورة السليبة
بعثت آلاف الصور
لهوريشيما
أو ناكازاكي
وكيف دبت في ربوعها الحياة
كيف عاد الأطفال للمدارس
والزارعون للحقول
والماء والنوارس
لكنها لم تستفق)
دبيب الحياة بدأ بشكل متتاليٍ، بدءاً للمدارس وهي تحتضن الأطفال، فالأطفال هم سرّ المستقبل وعماده، والزارعون هم رمز الخصب والنماء للأرض، فبأيديهم تنتعش الحياة، والماء وهو سر الحياة وديموتها، والنوارس التي لن تجيء الا في الأماكن الأمنة..
في قصيدة أوراق الحنّاء يصور لنا ملا اسد مشهداً بيتياً حاول استدعاءه من الأمس الذي غاب، هو مشهد قد نجده عند أغلب الجنوبيين من الذين زرعوا شجرة الحنّاء بالقرب من بيوتهم الطينية:
(كانت أمي تطحن أوراق
الحناء
تعجنها
وتزين بالشمع المتلألئ
أفنية الدار
وأبي يقدم في ذات اليوم
بالحلوى
بعطور وبخور من ألوان شتى)
هي ذاكرة الزمان والمكان الموصوف بالطيبة.
أخيرا، أن قصائد الشاعر عبد المطلب ملا اسد تمتاز بعفويتها، وبتدفق معانيها، حتى يخال للقارئ أنه أمام سيمفونية من كلمات، وصور، فهو يشكّل قصيدته بإلهام مستنير، وذاكرة متقدة، وحنين لحياة عاشها وما زالت عالقة في رأسه, وتمتاز قصيدته ايضاً بالايجاز والتكثيف حيث لا تجد حشواً في سطورها التي تجري مجرى النهر المتدفق فضلا عن وحدتها الموضوعية من حيث الفكرة والمعنى وإسلوبه المتقن.. إننا امام شاعر إتّقن لعبة القصيدة فهو يتفنن في انتقاء الألفاظ، ويعرف سر جذب القارئ لما يكتبه، فأزاح عنه ما يمكن أن يحيطه بالملل.. سطور قصيدته رشيقة، ومفرداته تنعش ذاكرة القارئ وتحرّك احاسيسه ومشاعره وكما يقول الشاعر والروائي الروسي يفغيني يفنوشيكو أن (سيرة الشاعر هي شعره وكل ما عدا ذلك محض هامش) فهو يضعنا في لبّ الحياة ولن يتركنا على الهامش.

البصرة في ٢٢ ايلول/سبتمبر ٢٠٢٣

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى