محمد سلطان - كائنات تموت على مهلها.. قصة قصيرة

ما يزال مشهده البطيء، وهو يتسحب إلى ركن القاعة الضيقة؛ ليحتفظ بلقيماته اليابسات، و حبات الزيتون الأسمر، فوق أريكته الخشبية.

يا فرحتي بك, و أنت تشذب شاربك، و تهندم قوامك، تمرر فرشاة "سحب الوبر" على جاكتة آمالك الفستقية، و تشدني شدًا ناحية النافذة، تأمرني أن أنظر...هناك في البلكونة البعيدة فتاة أحلامك، أحلامك القرنفلية، و يا عدم اكتراثك و أنا أُبعد ذراعك، أطوحها أكاد أقضمها، و تكاد تصل إلى السماء و تقترب، أظنك فرحًا، عرفتك تعشق الزهو و التلميع، ستسعد حينما أطوحها؟ نعم أعرفك لا يهمك سوى الطبقات العليا.

أعود و أجذبك ناحية النافذة نفسها، و بنفس الأمر أطلب منك أن تنظر...إلى هناك...حيث السقف الخشبي و الجدران المستورة بأكياس البلاستيك، و خشخشاتها إن جاءت ريح أمشير الباردة، هل ترى هذا المنزل؟ عبارة عن قاعة واحدة، لو افترضنا أنها قاعة يرتضيها البشر سكنًا، انظر كيف تتساقط عليها الأمطار بغزارة، و كيف تنكمش القطة فزعًا حينما تندفع القاذورات مع وسخ المزاريب إليها، حتى المنحدر الأرضي استقصدها، ترك الميل المتجه نحو فيلا "السمادوني"، و غير اتجاهه نحوها...

السواكن أصبحت طيّعة و رهن إشارتهم...؟

بخطى فيلية كان يتحرك بثقل رغم نحافته، يبذل أقصى جهده كي لا يخسر وجبة العشاء المتبقية من وجبة الإفطار، فوجبة الغذاء مشطوبة من برنامجه الغذائي، حبات من الزيتون الأسمر، شريحة لانشون تزن خمسون جرامًا و نصف، لقيمات من الخبز المقدد، و لا أضواء يستنير بها ليطرد القطة المشاكسة التي زاحمته القاعة. الولد "فستق" ابن الذين آمنوا و لم يعملوا الصالحات صوّب " بالنبلة " على لمبة الجاز...هااااه يفرجها ربنا.

الراديو "الترانزسيتور" – صُنع الصين – في بيانه الصبحي صرح أن إنارة العشوائيات في أولويات الحكومة الجديدة، و مذيعة الشرق الأوسط غسلت فيه الأمل بصوتها الرقراق في برنامج " بصبح عليك ".

عم سنوسي حاول مرارًا مقابلة رئيس الحي، عم سنوسي يلتحف البرد غطاء كل ليلة، عم سنوسي يُكمل عشاءه نوم، عم سنوسي لديه بطانية واحدة من صوف الغنم - أرسلها له فاعل خير -، و حصيرة، و كلب مربوط أمام المنزل، رئيس الحي لم يخبره أحد بشكواه، رئيس الحي يصلي و يصوم، و حج بيت الله ثلاث مرات، رئيس الحي لا يقصر أبدًا مع المواطنين، و لا يتوانى لحظة في أداء واجبه الوطني، رئيس الحي لا يعرف عم سنوسي، لكنه يعرف الكلب المربوط أمام منزل عم سنوسي، فكلما مرت به سيارة الوحدة أمام المنزل نبح وثار، و شب على قدميه فرحًا بالحكومة الجديدة.


على مكتب الموظف المختص بتلقي شكاوى المواطنين؛ ترك الرجل شكواه مدعومة بختمه المدوّر؛ فهو يجهل القراءة و الكتابة، و لا يستطيع نقش التوقيع بالطريقة التي ينقشها الأساتذة، و المرسومة كرسمة أولاد الذوات. هل تعلم فحوى الطلب؟ عم سنوسي اعتاد على البطانية الوبر و لا يكره قطته، و أنت معتاد على فرشاة سحب الوبر و تنزعج من صوت الكلب، الغريب أنك لاتنزعج هكذا من "ماستيف" ذي الفراء القصير الناعم. و الأغرب أنك تشتري له الكبدة المشوية بنفسك، و ترجع بها من الشارع الخلفي كي لا يشمها كلب عم سنوسي، تقف مصلوبًا تحت نافذتها كأن عليك ذنبًا، لا تجرؤ على الحركة حتى تتأكد أن "ماستيف" شبع تمامًا، ثم تمنحك الإذن فتنصرف...فهل عرضت الطلب على رئيس الحي؟

في صباح دافيء قليل المطر، كان أمشير هادئ الطبع في ذلك اليوم، جاء عم سنوسي إلى المكتب آملا في وجه الموظف خيرًا، و حينما رأيته، اختبأتُ خلف ستار النافذة " الطحيني " اللون، لكن الشجار الذي علا و نشب بين الرجل و رئيس الحي أجبرني على مواجهة المسئولية، فالخطأ كان خطئي بالتأكيد، و جلّ من لا يسهو، رغم أن الأمر لا يستحق كل هذا الصوت العالي؛ إلا أن الرجل حقًا ما طلب المستحيل، و رأيت من اللائق أن أحل أنا الموضوع بعيدًا عن جعجعة رئيس الحي، سألته:

- كم مترًا يكفيك يا عم سنوسي؟

- يا ولدي هي نومة أم أكثر؟

و فور إجابته؛ ترقرقت دمعة خفيفة في مقلتيه، و برقت، حاولتُ أن أطيّب خاطره، لكن رفض أية محاولة، كان تمسكه أشد حتى تتم الموافقة على الطلب الذي قدمه منذ أكثر من ثلاث سنوات، ثم سرح طويلًا؛ كأنه يتخيل جثته المرمية على أريكة خشبية في قاعة ضيقة، لا يسكنها سوى حيوان هزيل، لو تذكره عزرائيل في ليلة قارسة من ليالي أمشير، أو في سنة من السنوات الماضية قبل أن يوافق له رئيس الحي على الطلب؛ ما مصير جثته إذن؟

- يا ولدي أنا لم أطلب قصرًا، كل ما طلبته مترًا بالطول × نصف متر بالعرض، و رحمة بعجوز مثلي مقطوع من شجرة أرجوكم وافقوا على الطلب.

- غدًا سيكون جاهزًا، و سأذهب معك بنفسي أسلمك المكان و التصريح بالبناء.

ما استعصى البكاء هذه المرة، رغم كمية الفرح التي خرجت مع الدموع من مقلتيه، ثم صافحني و انصرف، يمطرني وابلًا من دعوات تفريج الكرب، كأنه يسابق أمشير الذي أعلن عن نيته السيئة أخيرًا.

لم أكن أعلم أنك بهذه الشفقة، تمتلك وفرة من الرحمة، و تأكد لي أن علاقتك بـ" ماستيف " ليست إلا واجبًا نجم عن ضعف إنساني، تراها أحبتك لطيبة قلبك؟ أم أن لعلاقة الرئيس بالمرؤوس دورها في إنجاح صفقة تبادل القلوب؟

كم كنت فزعًا حينما رأيتك بهذا الغم عشية أمس! اقتربت منك على غير عادة، وضعت على يسارك فنجان القهوة المخلوطة بالهيل و القرنفل، حاولت أن أخفف عن أكتافك زكائب الهم التي حطت عليك فجأة، رأيت أن أبحر معك في نفس الطقس، و بكل قوتي ضغطت على الدمل: - ما أخبار "ماستيف" ؟ و من الطبيعي أن ترفض الإجابة، حاولت أن أستنطقك و أفكك من هذا الأسر، لكن ساديتك نحو نفسك كانت أقوى، كيف تطيق و تتحمل هذا التعذيب؟ اعتبرها ماتت أو لم تكن، و اعتبره كلبًا وراح، هناك كلب آخر، أكيد هو أحوج لأي رعاية من "ماستيف"، و ستكون فرحة عم سنوسي بك أكبر محرض على النسيان...ما رأيك؟

وضعت التصريح في جيب الجاكتة، مرفقًا بالموافقة على الطلب، قصدت " الحاتي " قبل أن أذهب له مباشرة، لم أنتظر هدوء أمشير، و لم أكترث بالهطول، شعرتُني فقاعة تطير و تراوغ حبات المطر، كأنني فجأة تخففت من أوزاري، و عدت لتوي من أرض الله الحرام.

طلبت من " الحاتي " نصف كيلو زيادة، سيكون للغذاء شهية مختلفة تحت أكياس البلاستيك، و للمرة الأولى سيتناول عم سنوسي وجبة الغداء، قبل اقترابي من الباب بخطوات؛ شب الحارس الوفي على قدميه الخلفيتين، مراقصًا ذيله، غمرتني نشوة فرح عارم، و سعادتي الأكبر أنني لم أنزعج منه، وضعت له طبق الكبدة المشوية، و استغربت عندما رفضه، تأكدت من سلامة التصريح و ورقة الموافقة، جهزتهما، كانت القاعة معتمة من الداخل، تتساقط من السقف مياه أمشير بغزارة، الراديو الترانزستور _ صنع الصين _ يؤكد أن قرار الأمس سيبدأ في التنفيذ من الغد، و مذيعة الشرق الأوسط تنعى بغاية الأسى و الأسف فقدان مصر واحدًا من أشرف أبنائها في برنامج "كلنا جنود"، و القطة المشاكسة تلمع عينيها في حضن عم سنوسي الممدد دون غطاء على أريكته الخشبية كلوح الثلج.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى