أيمن مصطفى الأسمر - الحقيقة الكاملة (4)

(4)

وصلت إلى باكستان، كان معي رشيد ... مصور باكستاني يعمل بالقناة، كنا مسلحان بما خف وزنه وغلا ثمنه من تكنولوجيا حديثة سيكون لها بالتأكيد دورا حاسما في إنجاز مهمتنا الصعبة، سهل وجود رشيد معي أموراً كثيرة، انتقلنا من كراتشي إلى منطقة الحدود عبر سلسلة من الخطوات المحسوبة بدقة شديدة وفى حذر بالغ، عندما وصلنا، أمضينا يوما أو بعض يوم في ضيافة بعض رجال القبائل الذين تم ترتيب الأمر معهم للعبور إلى الجانب الآخر من الحدود، لم يكن الأمر سهلا، كانت الطبيعة الجبلية للمكان غريبة علي بعض الشيء، وكان يغلب علي الشعور بالقلق والخوف من المجهول، تخفينا في زى رجال القبائل وعبرنا خلال أحد الممرات الجبلية الوعرة، لم أجد فرقا كبيرا بين من تركناهم في الجانب الباكستاني ومن استقبلونا في أفغانستان، تتشابك العلاقات بين هذه القبائل بصورة بالغة التعقيد ويوجد بينهم صلات قرابة ونسب، وعلاقات عمل وتجارة، فضلا عن عمليات خفية لتهريب الأسلحة والمخدرات، كانت الأمور في هذا الجانب هادئة نسبيا رغم ما يتردد عن دخول وحدات أمريكية وبريطانية خاصة، كنت خلال الفترة السابقة أعد تقريرا مفصلا عن مغامرة التسلل إلى الأراضي الأفغانية دون غطاء أو حماية، أرسلت التقرير عبر جهاز الكمبيوتر الصغير الخاص بي، كانت أكبر مشكلة تواجهني هي عدم وجود مصادر للطاقة الكهربية في بعض الأماكن التي ننتقل بينها يوميا، حاولت من خلال الاتصالات مع بعض رجال القبائل تنظيم لقاء ما مع أحد أفراد القاعدة أو طالبان، بعد عدة محاولات وانتقالات تم تدبير لقاء مع مسئول محلي لطالبان، كان الرجل لا يعرف العربية أو الإنجليزية، ساعدني رشيد كثيرا في ترجمة ما يقول، بدا لي أنه لا يعرف كثيرا أو قليلا عن مجريات الأمور، كان كل ما قاله يدور حول أنهم جاهزون للحرب، وأن أمريكا ستعانى الكثير وأنها ستتكبد خسائر فادحة، أما عن أسامة بن لادن فهو لا يعلم عنه شيئا، ولا يعلم هل هو موجود بالفعل داخل أفغانستان أو لا، أبدى تخوفه من أن قوى المعارضة لطالبان استغلت التدخل الأمريكي لإحياء حملتها المنهارة - حسب قوله-، أعددت التقرير وقمت بإرساله لكنني شعرت أن الأمر يتطلب مني التوغل بصورة أكبر في عمق الأراضي الأفغانية الشاسعة للوصول إلى مصادر أكثر دقة وعلما لما يدور من أحداث، ما أسعدني حقا ورفع من معنوياتي هو تلقي رسالة مصورة من ندى على بريدي الإلكتروني، كانت الرسالة محملة بشحنة هائلة من التدفق العاطفي والشوق البالغ إلى درجة أدمعت عيناي، لم يحدث أبدا أن تصارحنا بمثل هذه القوة والوضوح وجها لوجه، أخبرتني أيضا أن التقارير التي أرسلتها قد تم عرضها ولاقت صدى طيباً للغاية وأن الجميع سعداء بما أقوم به من عمل، فعلت رسالة ندى فعلها في نفسي، امتلأت حماسا وإصرارا على إنجاز تغطية غير تقليدية للأوضاع هنا.

******

بدأت الحرب بالفعل ... طـال القصف المركز المناطق التي كنت أجوس خلالها، كان واضحا منذ اللحظة الأولى أن العبء الأكبر سوف يتحمله المدنيون الأبرياء، شيوخ وأطفال ... رجال ونساء، لا ذنب لهم ولا علاقة لهم بطالبان أو القاعدة، كنت قد توصلت أخيرا إلى تدبير لقاء مع أحد كبار مسئولي القاعدة، قيل لي أنه من الدائرة المحيطة بأسامة بن لادن، وأكد لي هو ذلك، قال ردا على أسئلتي:

ـ أسامة بن لادن بخير ونحن مستعدون لحرب طويلة الأمد مع أمريكا في مختلف أرجاء العالم.

أعترف صراحة أنهم قد يخسرون معركة أفغانستان، لكن الحرب ستستمر في كل مكان، كشف لي النقاب عن شبكة واسعة من الجماعات والتنظيمات التي تنسق معهم للتحرك ضد المصالح الأمريكية خاصة والغربية عامة، عندما سألته:

ـ ألا ترى أن العمليات العشوائية التي يسقط فيها ضحايا أبرياء قد تضر بصورة ما بالقضايا العربية والإسلامية؟

رفض في البداية أن يجيب، ثم قال:

ـ عندكم مثل مصري يقول "مفيش حلاوه من غير نار"

قالها باللهجة العامية المصرية ثم ضحك.

ـ وهل ترى أن هناك "حلاوه" بالفعل؟

هز رأسه بثقة ثم قال:

ـ نحن نعتقد ذلك.

كانت أصوات الانفجارات وآثارها المدمرة تظهر بصورة واضحة أثناء حواري معه، علق قائلا:

ـ لم تكن أمريكا في حاجة إلى حجة كي تفعل ما تراه الآن، كانت ستفعله يوما ما دون أي سبب.


******

لم يعد هناك مجالا للشك في أن أيام طالبان في الحكم صارت معدودة، تبين لي من خلال جولاتي الخاطفة ليل نهار بصحبة رشيد حالة الفوضى الهائلة التي تعم أرجاء أفغانستان، عاينت بالأمس قرية أفغانية صغيرة تعرضت لقصف صاروخي مكثف، تحولت القرية إلى مقبرة حقيقية لعشـرات المدنيين الأبرياء، قال لي أحد الشيوخ القلائل الذين نجوا من القصف:

ـ لم نكن مرتاحين تحت حكم طالبان لكننا نخشى الأوزبك والطاجيك أكثر منهم.

ـ وماذا تنتظر من أمريكا؟

أجاب في أسى شديد:

ـ ساعدتنا أمريكا عندما كنا نحارب الروس، أما بعد ما حدث بالأمس فأخشى أن يكونوا روسا آخرين.

ـ يقولون أنهم سيساعدونكم على بناء حياة جديدة أكثر أمنا واستقرارا.

هز رأسه ورفع يديه كمن يتوجه إلى الله بالدعاء، ثم قال:

ـ الفقراء أمثالنا لا يهتم بهم أحد، لعلهم يهتمون فقط بكبار زعماء العشائر، لكنني أدعو الله أن يوفون بوعودهم، لقد أنهكتنا سنوات طويلة من القتال ونحتاج بالفعل أن نحيا حياة طبيعية.


******

تمكنت ورشيد من التسلل إلى قندهار في مغامرة شديدة الخطورة والتعقيد، استقبلتنا أنباء سقوط كابول في قبضة قوات التحالف الشمالي، رغم مظاهر الفوضى الواضحة هنا وهناك، تحاول طالبان في استماتة قمع أي تمرد داخلي فضلا عن التصدي للقوات التي تهاجم المدينة، أواجه صعوبة كبيرة في تغطية الأحداث ونقلها إلى القناة أولا بأول، عرفت من حسن خلال أحد اتصالاته بي أن ما أقوم به من عمل يلقى استحسانا كبيرا وأنه تمت الإشارة إلى بعض رسائلي ومقابلاتي برجال القبائل وطالبان والقاعدة في بعض المحطات الإخبارية العالمية، تتردد أنباء عن فرار الملا عمر ورجاله المقربون للحاق بأسامة بن لادن فى منطقة الجبال، محاولات التمرد التي يقوم بها بعض عناصر البشتون تتزايد يوما بعد يوم، يتزامن ذلك مع اشتداد القصف الصاروخي وتصاعد حدة المعارك واقترابها أكثر وأكثر من قلب المدينة، رغم كل محاولات طالبان يبدو سقوط المدينة وشيكا، كدت ورشيد أن نلقى حتفنا في أحدى موجات القصف المتواصل، نجونا بأعجوبة ولم نصب بجروح، إنها معجزة حقيقية أننا لا نزال على قيد الحياة، باتت المشكلة الرئيسية التي تواجهني يوما بعد يوم ليس أن أُقتل أو أن أُصاب أنا شخصيا، بل نفوري المتزايد من مشاهد القتل والتشويه والدماء المسفوحة التي تواجهنا في كل ساعة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى