خيرة جليل - فسحة أمل من وراء قضبان السجن المحلي ببني ملال....

كنت ككاتبةوتشكيلية بنفس إبداعي رائق أشيد عوالمي السردية داخل نسق ابداعي وفق بنية حكائية مستلهمة للنسق الحكائي العربي القديم اكن بصيغة متمردة على جميع القواعد المتعارف عليها ، تعكس بذلك اختياراتي الادبية ورؤيتي الاستراتيجية للبناء الحكائي والاحداث و كيفية توزيعها للمتواليات السردية التي لا تبعد كثيرا عن هندسة حكايات الواقع المعاش، إلى جانب تداخل الأصوات السردية المتنوعة بين صوت السارد المحايد الموجه واصوات مسارات الحكي في الزمان والمكان ..
وعلى الرغم من ظني او كما تهيأ لي اني اتحكم في نسق الحكي من خلال المخيلة الخصبة
لم تسعفني هذه المرة لا الكلمات ولا الجمل ولا الالوان لوضع تصورا لما ساراه وأعيشه صباح هذه الجمعة.
كانت الفكرة في ثنايا سؤال واضح طرحته زميلتي بنهاية شهر ماي من السنة المنصرمة 2023 لكن يحمل في طياته مسافات زمن ومساحات تامل .
_ استاذة هل يمكن ان تنشطي معي حلقة من حلقات المقهى الثقافي للسجن المحلي ببني ملال؟
سؤال يصعب الإجابة عليه؛ وما السجن إلا سجن مثل القفص حى ولو كان من ذهب كما يعتقد الجميع ...فقد ترسخت بالاذهان فكرة ان السجن هو مكان عقوبة ومنع وحرمان وديكتاتورية ....حتى انك تتخيل انه عالم يجمع جميع اشكال العنف والتهميش .....
مهما حدثني زميلتي الدكتورة آمنة الصيباري لم استطع استشراف الامر؛ فانا تخيلت سجن النساء بنيويورك وسجن الفتيات القاصرين بشاندونغ حيث قمت رفقة متطوعين. بورشات فنية لصالح النزيلات......رهاب وخوف وتفتيش مكثف ومسافات امان لازمة.....كما نبهتني مرغريتا الامريكية .....
كان الاتفاق مع آمنة على العاشرة صباحا.....
يوم الجمعة الأولى من شهر فبراير 2024 . حللت ضيفة على المقهى الثقافي بالسجن المحلي بني ملال في لقاء مفتوح مع نزيلات و نزلاء المؤسسة السجنية حول كتابي " الزمن الملغوم " في اطار برنامج المقاهي الثقافية بالسجون.
بعد القاء الكلمة الافتتاحية لكل من مدير المؤسسة السجنية بني ملال والاديبة أمينة الصابري تناولت الكلمة لأسلط الضوء على كتابي :" الزمن الملغوم."الذي اشرت فيه الى مجموعة من القضايا الاجتماعية من قبيل المساواة بين الجنسين كما تطرقت لوضعية المراة بصفة عامة وبعض النساء بشكل خاص ودقيق د، حيث خصصت حيزا كبيرا في كتابي لعينة من النساء ذات الرؤية الضيقة في التعامل مع بعض القضايا من خلال قصة و”ماذا بعد” و” تسرع “و “ضياع “و “بكاء على الرصيف” لنسافر معا عبر تعدد ازمنة الحكي وتعدد الامكنة المختلفة في المجتمع لننتقل جميعا الى الحكي الواقعي من خلال القصة الواقعية التي تستمد وجودها من احداث متنوعة من المجتمع بابراز واقع الانسان المهاجر السري العربي من مختلف الجنسيات الذي يعيش الذل و الحقارة في الضفة الاخرى في ظل غياب الوثائق الثبوتية والقانونية التي تخول له العيش الكريم وتمنحقه الحق في التمتع بحقوقهم الكونية ، و هو ما لمسناه في صخرة سيزيف و الزمن الملغوم مما يجعلنا اما اوربا الجحيم عوض اوربا النعيم المنشود.
من خلال القراءة المستفيضة للنزلاء
فإننا نلمس تمايزا واضحا في انساق القراءات الفردية ، وتشكل أبعادها النفسية والاجتماعيةوفق مقاسات جديدة تكشفها المسارات المتعددة للنزلاء بحسب ما تمليه المواقف والقناعات، وما تعكسه ظرفية القراءة وطقوسها مع اختلاف الرؤى الوجودية والفلسفية... وبتوقف الزمان حين تتوقف طقوس القراءة بالسجن وتتراخى خيوط السرد ويمل معها القارىء النزيل ويشرد وهذا ما لم نلمسه لدى النزلاء اليوم، كما يكشف ذلك هذا النبض المتفاعل مع الكتابة مما برهن على اننا بحضرة قارئ نهم ومتفاعل. ولعلنا نلمس هذا لدى القارئ حين نلمس انتشالا مستميثا لصورة الذات الناقدة والمتصفحة التي تنتشلنا من براثين النمطية التي اقترنت بها الفضاءات الثقافية وداخل صالونات الادب والتي لاحظنا ان بعضها ابتعدت كثيرا على الهدف الاسمى الذي خلقت من أجله ولم تصبح إلا محلات الاستهلاك عكس هذا الفضاء ، فتحس بنبل وحماس زائد لدى القراء الذين احتموا بالقراءة كملجأ هم من خلال منجاتها ليتحرر العقل والنفس تاركين الجسد ليصبح الذات او الوعاء لها فقط …هذه القراءة أصبحت رئة تنفس تطير بالروح بعيدا حين يختنق الكل بالروتين اليومي …، وفي هذا اختيار جديد لوضع النزيل بفضل ارادته بكل طواعية. وبعد جلسة الحوار والنقاش لهذا اللقاء الثقافي فقد تخللته تقديم فقرات موسيقية و فنية من ابداع نزلاء و نزيلات المؤسسة السجنية. علما بان هذا البرنامج للمقهى الثقافي بالسجون تعد فكرة اطلقتها المندوبية العامة لادارة السجون منذ تاريخ 2017 في اطار الجيل الجديد من البرامج التاهيلية التي يتم من خلالها تمكين نزيلات و نزلاء المؤسسات السجنية في لقاء مع رجالات الثاقفة و الفن و العلم وعيا منها بضرورة اعتماد وسائل ناجعة ترمي الى تحقيق التكامل بين البرامج الثقافية و الفكرية و برامج تاهيل السجناء لاعادة الادماج و تطوير مجال انفتاح السجين على العالم الخارجي تمهيدا لادماجه.
ان ما يحز في القلب ان ترى مثل هذه القامات الادبية والموسيقىة القادرة على انتاج برنامج ادبي وموسقي ومسرحي وتشكيلي متكامل هنا لان سوء طالعها كان ان وضعت رجلها على لغم من الغام هذا الزمن، لتجد نفسها وراء القضبان ؛ لكن ما يجبر الخواطر ان تجد اطر اجتماعية للمؤسسة السجنية قادرة على احتضانهم وتحرر عقولهم بالقراءة والابداع رغما عن سجن اجسادهم. وقد اجزم انها المؤسسة السجنية الوحيدة بالمغرب التي وصلت لهذا المستوى من الوعي لإعادة إدماج النزلاء وفتح آفاق فكرية وفنية أمامهم ناسجة لهم خيوط الامل وفسحة العيش حتى لا يعيدون الأخطاء التي اقترفوا سهوا أو جهلا بالقانون او بسوء الحظ.... فهنيئا للمغرب بهذه المؤسسية التي تنهج سياسة إعادة الإدماج بتنمية القدرات الفكرية لدى النزلاء مؤمنة ان القراءة تحرر والابداع يفتح الافاق متمنيين إمكانية فتح أفاق بمشاركة هؤلاء النزلاء في المهرجانات الغنائية والملتقيات التشكيلية والشعرية عبر تطبيقات الانترنيت كزوم او غيره دون التصريح بوضعهم القانوني تحت اشراف الأطر الاجتماعية بالسجن وتحت إدارة مؤسسة السجن المحلي في إطار اداب السجون او ابداع السجون والتي اظن انها ستكون بادرة تقف امام مسألة العود التي احيانا يلجأ إليها النزيل لانه لا يستطيع الاندماج مع مستجدات مجتمعه الذي عزل عنه خلال قضاء عقوبته الحبسية، مما يجعله أكثر عنفا وعدوانية ويرغب في العودة من جديد للسجن او تبعده عن تبني اي فكر تطرفي سواء التطرف الدين او الانتماء للعصابات الإجرامية بعد خروجه خصوصا ان الحضور الذي رافقته في نشاطه يتوفر على طاقات فكرية وفنية تشكيلية وغنائية من مستوى عالي ومادام السجن مؤسسة لإعادة التأهيل فإنه سيصبح مؤسسة لقطع الطريق امام جميع اشكال التطرف الفكري او الديني او الاجرامي ..... بعد احتكاكه ببعض النزلاء وحين تغلق في وجهه السبل تكون هي قادرة على احتضان النزيل بعد خروجه بعد عجزه عن الحصول على عمل يؤمن حياته و قد يكون هذا الإدماج سببا يبعده عن عملية الوسم التي قد تلاحقه بقية حياته ....الكاتبة خيرة جليل .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى