أيمن مصطفى الأسمر - الحقيقة الكاملة (6)

(6)

ها أنا ذا مرة أخرى فى دبي، استقبلني زملائي بحفاوة شديدة، كعادته كان حسن أكثر الزملاء دفئا ومودة، توجهت بعد التقائي بهم مباشرة للقاء عبد الرحمن، كان في انتظاري، رحب بي ترحيبا قويا لكنه لا يخلو من طابعه الرسمي في التعامل مع الآخرين، طلب مني الجلوس ثم بدأ في الثناء عليَّ وعلى العمل الذي أنجزته ورشيد في أفغانستان، سألته متعجلا:

ـ هل سأعود إلى أفغانستان فورا؟

ابتسم في هدوء ثم قال:

ـ كلا، لقد أرسلنا منذ أيام زميلا آخر، سيصبح هو مراسلنا الدائم في كابول.

كان ما قاله مفاجأة حقيقية لم أكن أتوقعها ولم أعرف كيف أعلق عليها، تابع قائلا:

ـ لا تظن أن هذا بسبب تقصير منك أو شيء من هذا القبيل، الأوضاع هناك قد هدأت نسبيا وقد نحتاج إليك هنا أو في مكان آخر، لم يتحدد الأمر بصورة نهائية بعد.

ـ إذن ...

ـ ستعود مؤقتا إلى عملك السابق معنا في القسم، ستبدأ بإعداد سلسة من الحلقات عن التطورات الأخيرة فيما يخص الانتفاضة وما يحيط بالوضع الفلسطيني بصورة عامة، سيكون معك حسن وعلي كما هو معتاد.

خرجت من عنده وبداخلي قدر من الضيق لم استطع منعه، ورغم ثناءه علي وتأكيده أن الأمر ليس فيه أي نوع من العقاب أو التقليل من قدراتي، إلا أنني لم أتقبل الأمر بهذه البساطـة، كانت قدماي تقوداني تلقائيا إلى ندى، فوجئت بي وأنا أقف أمامها، شهقت برقة ثم تمالكت أنفاسها سريعا، كان من حولنا بعض الزملاء، تبادلت معهم التحية جميعا، كانت تتأهب لتسجيل إحدى الحلقات، كان من الصعب أن أقطع عملها، اتفقنا في صمت على تناول العشاء معا.


******

أصرت ندى على أن أصعد للتعرف على أسرتها قبل الذهاب لتناول العشاء، أخبرتني أنهم يعرفون بأمـر علاقتنا منذ فترة، وأنهم يرغبون في التعرف عليَّ، كان طلبها مفاجأة أخرى لي، حاولت التملص والاعتذار بأنني لست متأهبا لمثل هذا اللقاء، قالت بقليل من الحدة:

ـ ليس في الأمر أكثر من التعارف العادي، هل يخيفك ذلك؟

كانوا في غاية الود معي وبدا أنهم على قدر عال من الثقافة والمعرفة، أخبرني والدها أنه من أصل فلسطيني، انتقل جد أبيه وكان تاجرا من يافا إلى حلب عندما كان الشام منطقة واحدة تقع تحت النفوذ التركي، أما هو فقد جاء منذ سنوات بعيدة للعمل في دبي، ثم استقدم أسرته الصغيرة بعد فترة لتقيم معه، أخبرني أنهم يزورون سوريا مرة كل عام، وأن حلمه الكبير أن يزور يافا مسقط رأس عائلته، تنهد في عمق ثم قال:

ـ الأمور هناك تزداد سوءً هذه الأيام، لا يعلم أحد سوى الله ما الذي سيحدث بعد انتهاء الحرب في أفغانستان.

قضيت معهم بعض الوقت ثم استأذنتهم في حرج للخروج وندى لتناول العشاء سويا، سرنا في صمت، كنت أتوقع حديثا طويلا خلال هذا اللقاء المرتقب بعد غياب غير أن مفاجأة عبد الرحمن لي صباحا ومفاجأتها لي الآن غيرت كل توقعاتي، سألتني ندى عن سبب صمتي، أجبتها دون تفكير:

ـ في مصر ليس معتادا أن يخرج رجل وامرأة معا بمثل هذه البساطة من غير ارتباط رسمي، ربما يحدث ذلك في بعض الأوساط المعينة لكن ليس عند غالبية الناس.

أوقفتني ثم قالت:

ـ اسمع دعنا لا نذهب إلى المطعم الليلة، دعنا فقط نسير في هذا المساء الجميل.

كان بالفعل مساءً جميلا لكنني لم أنتبه لذلك إلا بعد قولها، ظللنا نسير في صمت، ثم قالت فجأة:

ـ هل تخجل من علاقتك بي؟

أجبت بسرعة ودون أي تردد:

ـ بالقطع لا ... لكن لعلي لا أحتمل كل هذه المفاجآت في يوم واحد.

ـ أي مفاجآت؟

حكيت لها عما أبلغني به عبد الرحمن صباحا وضيقي من الأمر، قالت وهي تضحك:

ـ بالنسبة لي هذا أمر جيد، على الأقل سأراك كل يوم.

ـ هل تعرفين أنك أكثر شجاعة مني، لم أخبر أمي عنك بعد.

قالت للمرة الثانية في أقل من خمس دقائق:

ـ هل تخجل من علاقتك بي؟

ـ كلا يا ندى الأمر ليس كذلك، لعلها ظروف نشأة مختلفة، رغم أن والداي قد منحاني حرية كبيرة في تقرير مصيري، إلا أنني جئت من مجتمع متحفظ ولا أقول محافظ نوعا ما.

هزت كتفيها ثم قالت:

ـ وهل تظن أنني لست محافظة أو متحفظة كما تحب أن تقول؟!

ـ أرجوك يا ندى دعينا الآن من هذه المناقشات، يبدو أن الفترة التي قضيتها في أفغانستان ... ما واجهته هناك ... العزلة في الجبال ... قد تركت عليَّ أثرا أكبر كثيرا مما كنت أظن، دعينا فقط نستمتع سويا بالسير في هذا الليل الجميل كما أسميته.

كنت قد أحضرت لندى هدية صغيرة من القاهرة ... خاتما ذهبيا بسيطا، ولسبب ما قررت ألا أقدمه لها الآن، سرنا في صمت ساعتين أو أكثر قليلا وعندما تركتها أخيرا قلت وأنا أودعها:

ـ أرجو ألا تغضبي مني يا ندى.

قالت وهى تغالب قطرات الدموع التي بدأت تنساب على خديها:

ـ لن أغضب منك أبدا، إلا إذا ...

لم تكمل جملتها ولم أحاول أن أخمن ماذا كانت تنوي أن تقول، ابتسمت وتركتها وأنا مشغول البال.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى