بهجت العبيدي - ما بين الدروشة والسلفنة: ”الشيخ أبو فراخ” والطب النبوي

في الماضي قريب العهد، عاصرنا شيئا فيه، كانت الحكايات تترى عن معجزات يفعلها هذا الولي، أو ذلك الشيخ، أو ذاك العارف بالله، فكانت تكثر الحكايات عن هؤلاء الذين يطلق عليهم "أبو خطوة" وأولئك الذين يمشون على الماء، وغيرهم الذين يتمتعون بخوارق مختلفة ومتنوعة، وكان الناس في بلدتنا النائية تصدق من هذه الحكايات ما يُرَوّج منها باعتبارها منحا منحها الله سبحانه وتعالى لهؤلاء "الطيبين".

هؤلاء الطيبون، لم يكن يشترط فيهم التفرغ للعبادة وإتيانهم الفروض الدينية من صلاة وصوم وحج للبيت على أكمل وجه وبكل الورع، بل كان يكفيهم هذا اللباس البالي، وتلك الهيئة الرثة، وترديدهم لألغاز كلامية، وكأنهم يخاطبون ما وراء الطبيعة ويفهمم ويفهمونه.

أذكر وأنا طفل صغير، لم أذهب للمدرسة بعد، في بداية سبعينيات القرن الماضي - كان يقام في إحدى العزب المجاورة لنا - عزبة الدغيدي "الإتل" بلسا الجمالية بمحافظة الدقهلية - "مولد" للشيخ "أبو فراخ"، نعم هكذا اسمه، الذي كان لا يزال على قيد الحياة، وكانت صورته وهيئته كما وصفت آنفا، أتذكر الشيخ "الولي"، وكنت أراقبه لما أسمع عنه من حكايات، وهو يشرب الشاي مع سيجارة، وكان ذلك طوال الوقت تقريبا، وكان يضع "طفي السيجارة" في الشاي الذي يشربه، ثم يمضغ "فلة السيجارة" بعدما ينتهي من تدخينها فيلوكها ويبتلعها، وكان ذلك عند من يحرصون على إحياء مولد "الشيخ أبو فراخ" دليلا على أنه ولي من أولياء الله الصالحين العارفين، يأتي من الأفعال الخوارق ما لم يستطعه البشر العاديون الطبيعيون.

أذكر، كذلك، في بيئتي، أن هناك رجلا قد توفاه الله، وأثناء السير في جنازته في الطريق إلى مقابر الجمالية لدفن الميت، فإذا بهرج ومرج شديد يربك تلك الجنازة التي كان يشهدها عدد كبير من المشيعين، وإذا بخبر يسري بين هؤلاء المشيعين سريان الحريق في حقول القمح: بأن الميت "الذي أخذ لقب شيخ فيما بعد" لا يريد أن يدفن في مقابر الجمالية، فرأسه وألف سيف أن يدفن في أرض زراعية على الطريق المؤدي للجمالية.

وهنا انقسم المشيعون قسمين: الأكثرية تريد دفن الميت في المكان الذي اختاره، والذي يرفض أن ينتقل منه، حيث كلما حمل النعش أربعة تلو أربعة - أظنهم مشتركين في مسرحية - فإنهم يؤكدون أن الميت لا يريد أن يتحرك من هذا الموضع، كان والدي، رحمة الله عليه رجلا بسيطا ومع ذلك كان يبهرني بذكائه وفطنته، وإدارته لأي حوار، حيث كانت العقلانية المطلقة هي التي يتخذها سبيلا، فاقترح والدي، وكان يركب سيارة نصف نقل، أثناء تلك الجنازة، أن يتم وضع النعش عليها، وتسير بها السيارة إلى المقابر، فإن تعطلت السيارة ولم تستطع الحركة؛ فهذا يعني أن هذه رغبة الميت.

لقد وضعهم في مأزق كبير، بهذا الاقتراح، حيث أن التجربة العملية كانت هي الحكم الفصل، وهنا، والكلام على لسان والدي، رحمة الله عليه، فإذا بأحد الأشخاص ينحني هامسا في أذنه: "توكل على الله يا عم العبيدي، وإلا تم تكسير السيارة وربما يتم الاعتداء عليك"، أدرك الرجل أنه لا قِبَل له بهذا وأمر السائق بالتحرك، وغادر المكان الذي أقيم فيه "مقام للشيخ".

ذلك جانب من جناح "الدروشة" في المجتمع المصري والذي يمثل أحد روافد المنظومة الفكرية لهذا المجتمع، هذه الدروشة التي واجهها تيار "السلفنة" بقوة شديدة فانحسرت، ظاهريا على الأقل، وإذا كانت "السلفنة" استطاعت لدرجة ما أن تقلل نشاط "الدروشة"، فإنها في جانب منها كانت أكثر خطورة على المجتمع ومنظومته الفكرية، حيث أنها في سعيها لتمثل السلف الصالح، فإذا بها تعيد بالمجتمع ليعيش الماضي في مفرداته الدقيقة وتنسحب من واقع العالم المعاصر، فوجدناها تشيع في المجتمع من مثل ما أطلقوا عليه "الطب النبوي"، فوجدنا ذيوعا للحجامة كعلاج للعديد من الأمراض، ووجدنا "حبة البركة" تأخذ مكان "حبات" كثيرة للعلاج، ووجدنا انتشارا للأعشاب التي كانت هي وسيلة العلاج في العصور القديمة، باعتبارها الوسيلة الأنجع لعلاج كافة الأمراض.

هذا الذي وجدنا له تأصيلا طبيا "مفبركا"، حيث عكف بعض الدارسين والباحثين على استخراج ما في بعض الممارسات الطبية البدائية من فوائد وصحة من مثل الحجامة، وذلك لأنه قيل أن الرسول صلى الله عليه وسلم استخدمها، ناهيك عن دراسات تؤكد فوائد السواك، بل ودراسات تتم لضرورة إثبات فوائد بول البعير، وغير ذلك في محاولات محمومة، لا أعلم ماذا تريد أن تؤكد أو تثبت؟!.
ونحن هنا نتساءل: هل يمكن أن نطلق على طب ما مصطلح "الطب النبوي"؟ وهل كان الرسول طبيبا بالمعنى البيولوجي؟!، وهل الرسول هو أول من استعمل مثل هذه الأشياء: من حجامة أو سواك وغيرهما؟ أم أن هذه الأشياء كانت مستعملة في العصر الذي عاش فيه الرسول، وكان يستخدمها الجميع في هذه البيئة: مسلم وكافر؟.

نعود في محاولة للإضاءة على مصطلح "الطب النبوي"، ونتساءل مرة أخرى هل يمكننا أن ننسب الطب للنبي؟ كما ننسب له التبليغ عن الله سبحانه وتعالى، أو كما ننسب له الأمانة فنقول: الأمانة النبوية، أو ننسب له الصدق فنقول: الصدق النبوي، أو ننسب له الشجاعة فنقول: الشجاعة النبوية، هذا الذي يعني أننا في حال صحت النسب في "الطب النبوي" كما "الصدق النبوي"، فهذا يعني أنه الطب المثالي الذي لا يمكن أن يضاهيه أو حتى يقارن به طب آخر، كما أن الصدق أو الأمانة أو الشجاعة النبوية، هي صفات مُثْلى لا يمكن لبشر مهما تحلى بها أن يصل إلى صورتها المثالية عند النبي. كذلك فإن نسبة الطب إلى النبي يعني بالضرورة أنه حاز منه كل شيء، لأنه من عند الله وبالتالي لكان قد وصل النبي بالطب إلى منتهاه، والذي لا يمكن لأي عالم في الطب مهما بلغ من العلم أن يتفوق على هذا الطب النبوي، ويعني أيضا أن هذا الطب يعالج جميع الأمراض مهما كانت فهو منسوب للنبي الأعظم.

هذا الذي بعرضه على الواقع والعقل معا لا يمكن أن يصدق أو يتحقق، فالمؤكد أن طب هذه الأيام أكثر تطورا بآلاف المرات من الحجامة وغيرها من أساليب العلاج التي يزعم نسبها للنبي صلى الله عليه وسلم. هذا الذي يعني قطعا، أنه لا يمكننا أن ننسب ذلك الطب البدائي للنبي، الذي لم يُرْسَل كيميائيا ولا بيولوجيا ولا فسيولوجيا، تلك العلوم التي يحتاجها ويبنى عليها الطب كل علومه وجميع أبحاثه.
إذاً جاء رافد "السلفنة" ليعيد المجتمع ليعيش في عصر غير عصره ويفرض علاجا، على سبيل المثال، لا يقارن مع العلاجات التي يبتكرها الطب الحديث، في مغالطة متعمدة، تهدف إلى الترويج لتجارة "علاجٍ موازٍ"، وبعض الأعشاب كحبة البركة التي يعددون في فوائدها ما لو صح لما احتاج الإنسان لأي أنواع العلاج، وغير ذلك من رِدّة علمية مُغَيّبة للعقل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى