مقتطف أيمن مصطفى الأسمر - الحقيقة الكاملة (10)

(10)

التقيت مع مجموعة من الفتيات والسيدات الفلسطينيات، كن بين أم ... أو أخت ... أو ابنة ... أو قريبة لشهيد أو جريح أو مُبعد أو مُعتقل، دار حواري معهن حول الأوضاع الإنسانية الصعبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في ظل الممارسات العدوانية الإسرائيلية المتصاعدة، حكين لي عن تجاربهن الخاصة في العيش تحت الحصار الخانق الذي أصاب مختلف جوانب الحياة بالشلل التام، تحدثن عن الطرق البديلة التي لجأن إليها لإطعام أسرهن وكسوتهم، شرحن كيف أقمن بمساعدة الآباء والمعلمين نظاما دراسيا موازيا للنظام التعليمي الرسمي الذي يتعطل لفترات طويلة من جراء الحملات الإسرائيلية المتواصلة، كانت تجارب وخبرات لمواطنات بسيطات، حظي بعضهن بقدر وافر من التعليم ، بينما تعلم معظمهن في مدرسة الحياة، تحملن جميعا مسئولياتهن بشجاعة ووعي كبير ودون أدنى قدر من التذمر أو الشكوى، حكت لي كل واحدة منهن قصتها الخاصة بمنتهى الصراحة والوضوح، لم تخجل إحداهن من ذكر تفاصيل دقيقة وموجعة لما جرى أثناء اعتقالها وتعذيبها، كانت قصصا إنسانية شديدة التأثير في نفسي، لكنهن كن يحكينها ببساطة شديدة دون أن يشعرن بأن ما يقلنه يمثل بطولات خارقة يعجز عنها أعتى الرجال، استوقفتني حكاية أم شابة وهي تحكي عن استشهاد أحد ابنيها الذي لم يتجاوز ثمان سنوات، انتهزت الفرصة كي أسألها:

ـ يتردد في الغرب بإيحاء من جماعات موالية لإسرائيل أن الآباء والأمهات في فلسطين لا يكترثون بحياة أبنائهم، وأنهم يدفعونهم إلى مواجهة جنود الاحتلال وقذفهم بالحجارة بغرض كسب تعطف الرأي العام العالمي، ما رأيك في هذا الاتهام؟

ردت الأم الشابة في استنكار والدموع تسيل على خديها:

ـ وهل هناك أب أو أم يدفع بأولاده إلى الموت؟ إن هذا الكلام الفارغ يتنافى مع الطبيعة البشرية.

علقت أخرى في غضب:

ـ هل كان هؤلاء المدعين المرفهين معنا ونحن نعانى من بطش جنود الاحتلال؟ هل كانوا معنا ونحن نجاهد لكي نبقي أطفالنا على قيد الحياة؟ هل كانوا معنا ونحن نزرع طعامهم أو نحيك ثيابهم؟ هل كانوا معنا ونحن نغنى ونردد الأناشيد سويا؟ أي أناس هؤلاء؟

أجابتها امرأة كبيرة السن:

ـ إنهم من يسمون مقاومة الاحتلال إرهابا، يلومون الضحية ويتركون الجاني ... حسبنا الله ونعم الوكيل.


******

مرت الساعات والأيام والأسابيع بسرعة وانتهى العمل في سلسلة الحلقات الخاصة بالانتفاضة، كان معنى هذا بالنسبة لي تهيئة نفسي لمغادرة الأراضي المحتلة والعودة إلى دبي، رغم علمي المسبق بهذه الحقيقة وتأكيد عبد الرحمن على ذلك من قبل، غير أنه راودتني رغبة عارمة لم استطع التملص منها في البقاء ومواصلة العمل هنا، كان العمل في الأراضي المحتلة له طابع ومذاق خاص لم أتذوق مثيلا له طوال فترات عملي السابقة في القاهرة وأفغانستان ودبي، بدا الأمر لي في الواقع نضالا بشكل ما أكثر منه عملا، أحسست أنني أمارس دوراً كنت في أمس الحاجة إلى القيام به، دور قد يكون بسيطا في ضوء ما أراه هنا من بطولات يومية حتى لأطفال صغار أعجز أن أجاريهم فيما يقومون به، لكنه على الأقل دور يشعرني بالرضا عن نفسي ويمنحني الأمل أن أصبح يوما ما قادرا على قطع العديد من الخيوط الرفيعة التي تقيدني وتشل حركتي وتحصرها في إطار محدد، كيف يستطيع الإنسان حقا أن يفلت من مثل هذه القيود؟ أمي وخوفي الدائم عليها، أختي الصغيرة ورغبتي في أن أُؤمن لها مستقبلها، ندى وشوقي العارم إليها، المستقبل الذي أطمح أو أطمع أن أكون فيه شخصا مرموقا ينعم بكل ما يوفره ذلك من مزايا لا أنكر رغبتي في التمتع بها، هل أنا حقا قادر على أن أقطع كل هذه الخيوط بيني وبين الحياة بكل مسئولياتها ومباهجها؟ هل أنا قادر على أن أجعل لنفسي هدفا واحدا لا أحيد عنه مهما كلفني ذلك؟ هل أنا قادر على أن أقمع ذاتي وأتحول إلى مجرد ترس صغير في ماكينة كبيرة لا يجب أن تكف عن الدوران أبدا؟ كنت أقلب كل هذه الأفكار في رأسي عندما قاطعني اتصال على التليفون المحمول من عبد الرحمن، كان يستعجل عودتي إلى دبي، وجدتني أطلب منه السماح لي بالبقاء هنا وممارسة عملي كمراسل دائم للقناة في الأراضي المحتلة، رفض ذلك بشدة وقال: "أنت تعلم أنك هنا في مهمة محددة وموقوتة، كما أننا لسنا على استعداد لخسارتك"، كان يلمح ولا شك إلى اصطدامي المتكرر بجنود الاحتلال، بدأت في سرد العديد من الحجج لكي أدعم مطلبي وأجعله يقتنع به، رفض تماما الاستماع لمبرراتي وأصر على ضرورة عودتي بأسرع ما يمكن، قال وهو ينهى اتصاله: "لقد قمت بمهمتك خير قيام فلا تفسد ذلك بعنادك".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى