د. عبدالواحد التهامي العلمي - نثر الجاحظ والقراءة الحجاجية (1)

بتأملنا في القراءات التي قاربت نثر الجاحظ تاريخيا يمكننا ملاحظة تنوع الآفاق التي احتضنت هذا النثر والغنى الذي اكتسبه بفعل هذا التنوع. ولعل أهم منظور صدر عنه قراء الجاحظ في تفاعلهم مع نصوصه النثرية، هو المنظور البلاغي الحجاجي الذي استطاع أن يضع يده على بعد أساس من أبعاد مفهوم الأدب في موروثنا العربي، على نحو ما استطاع أن يخلص هذا النثر من سطوة القراءات الجمالية الحديثة التي غالت في الانتصار لأدبية حديثة لم تنسجم في واقع الأمر مع الأفق الأدبي الذي كان يصوغ الجاحظ في سياقه كتاباته.
***
لقد صدرت القراءات الحجاجية لنثر الجاحظ عن أفق انتظار شهد انحسار المنهج اللساني البنيوي من الدراسات الأدبية في النقدين الغربي والعربي، وانفتاح نظريات النص الحديثة على النموذج التداولي وتجديد البلاغة القديمة، ومحاولة إخراجها من النفق الذي أدخلت فيه طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عندما تحوَّلت إلى بلاغة الأسلوب الجميل بدل أن تكون بلاغة للخطاب ؛ أي إن هذه القراءات استفادت من صعود المكونين الحجاجي والتداولي في نظريات النص الحديثة، بعد أن أقصيا من المنهج البنيوي في اللسانيات والبلاغة والنقد الأدبي. فلا شك أن ظهور نظريات الحجاج في الدراسات اللغوية الحديثة بالاستناد إلى الاجتهادات المهمة التي دشنها أعلام كبار أمثال شايم بيرلمان Chaim Perelman وميشيل ماير Michel Meyerوديكرو Ducrot، وشيوعها في الدراسات البلاغية عند أوليفيي ريبول Olivier Reboulوكبيدي فاركا Kévidi Varga وميشيل آدم Michel Adam، خلقت معيارا جديدا في أفق توقع القراء العرب المعاصرين الذين ينظرون إلى مطلق النصوص، ومنها النصوص الأدبية من منظور وظيفي؛ وهكذا تم استعادة البعد البياني الذي ركز عليه القراء القدامى في نظرتهم لأدب الجاحظ، ولكن بعد أن طوروه وصقلوه في إطار نظري جديد اتسم بانتعاش نظريات الحجاج.
إن البلاغة الحجاجية كما حددها أرسطو تنقسم إلى ثلاثة أنواع من الحجج بالمعنى العام الذي يعني وسائل الإقناع والتأثير؛ فالإيطوس L’ethos والباطوس Pathos يعنيان الحقل الانفعالي أما اللوغوس Le logos فيعني الحجج المرتبطة بالنص.
فالإيطوس هو مجموعة من الصفات التي يتحلى بها الخطيب لأجل كسب ثقة المستمع أو المتلقي أو المخاطب، لأنه مهما تكن حجج الخطيب منطقية، فإنها تبقى عديمة الفائدة إذا لم تتحقق هذه الثقة. إن الإيطوس-هنا- ليس ذلك الطابع الأخلاقي الذي يجب أن يتسم به الخطيب، وإنما هو الطابع النفسي للجماهير المتنوعة التي يجب على الخطيب أن يتكيف معها. أما الباطوس فهو مجموعة من العواطف والأهواء والانفعالات التي يجب أن يبثها الخطيب في مستمعيه بواسطة خطابه. إنه إذن بحاجة إلى علم النفس الذي خصص له أرسطو جزءا مهما من كتابه الثاني تناول الدراسة النفسية لمختلف الانفعالات كالغضب والخوف والشفقة والرحمة الخ... ولمختلف طبائع وخصال المستمعين حسب سنهم ووضعهم الاجتماعي. وإذا كان الإيطوس يتعلق بالخطيب، والباطوس يتعلق بالمستمع، فإن اللوغوس يتعلق بالحجاج -في حد ذاته- الموجود في الخطاب.
وفي السياق نفسه يبين بيرلمان أن الحجاج يفضي إلى التركيز على جمهور المتلقين. وعلى هذا النحو، فإن أي حجة يلزم أن ترتبط بالسامع أو المتلقي لأجل التأثير فيه؛ ويتكون الجمهور من أعضاء وأفراد لا يتوفرون بالضرورة على نفس طرق النظر أو القول؛ فهم لا يتقاسمون نفس الأفكار والقيم، ولهم وجهات نظر مختلفة ومتعارضة. إن بيرلمان يعطي أهمية كبيرة للتمييز بين الخطاب الذي يهدف إلى التأثير في الجمهور الخاص(Auditoire particulier) ، والخطاب الذي يسعى إلى إقناع الجمهور الكوني (Auditoire universel ).
يعرف بيرلمان جمهور المتلقين بكونه مجموعة من الناس الذين يستطيع الخطيب أن يؤثر فيهم بواسطة حججه، ثم يقسمه قسمين: جمهور خاص، وجمهور كوني؛ فالجمهور الخاص هو تلك المجموعة التي تخضع لتأثير الخطيب بصفة خاصة، سواء أتحقق لها الحضور المادي الجسدي أولم يتحقق؛ أي إنها قد تكون حاضرة أو غائبة لحظة إنجاز الكلام. أما الجمهور الكوني فهو أيُّ مجموعة إنسانية تتسم بالذكاء والكفاءة والتفكير العقلي السليم، وتكون قادرة على تحليل المعلومات لأجل الوصول إلى نتيجة حول موضوع معين.
وبناء على ذلك، ينبغي خلق حوار من أجل حصول الوفاق بين الأطراف المتحاورة، ومن أجل التسليم برأي آخر بعيدا عن الاعتباطية واللامعقول اللذين يطبعان الجدل. ومعنى ذلك كله أن الحجاج ينبغي أن يكون مخالفا للعنف في كل مظاهره". ويؤكد محمد الولي هذه الفكرة قائلا: "إن الحجاج لا يكون فعَّالا إلا بالمعرفة العميقة لطبائع المخاطب القارة والثابتة، أي ما ينزع إليه هذا المخاطب نزوعا طبيعيا... ولهذا تجدنا في التواصل اليومي، نسعى إلى التأثير على الأشخاص بالاستناد إلى أهوائهم وطبائعهم. وإن الجهل بهذه الطبائع يمكن أن يؤدي إلى نتائج وخيمة من الناحية الحجاجية.
ويرى أوليفيي ريبول أن الحجج تقدم لجمهور معين مخصوص؛ فقد يكون فردا أو مجموعة من الأفراد أو جمهورا شاسعا يطلق عليه المستمع أو المتلقي، وقد يكون جمهورا كونيا، وهو المصطلح نفسه الذي يمكن إطلاقه على عموم القراء. وتجدر الإشارة –كما يوضح ذلك أوليفيي روبول- إلى أنه يجب الأخذ بعين الاعتبار كفاءة المستمع، ومعتقداته، وأفكاره، ثم عواطفه وانفعالاته. وبعبارة أخرى، يجب أن ننظر إلى وجهة نظر المستمع أو المتلقي.
وقد لاحظ الباحث أن الحديث عن الجمهور الكوني ليس في واقع الأمر إلا حيلة بلاغية. بيد أنه يرى أن لهذا الجمهور وظيفة أكثر نبلا تتمثل في "المثالية في الحجة"؛ فالخطيب يدرك أنه يتوجه إلى جمهور خاص، ولكنه يحمل إليه خطابا يسعى إلى تجاوزه، بل يتوجه أبعد من ذلك إلى كل المستمعين أو المتلقين المحتملين، آخذا بعين الاعتبار كل انتظاراتهم واعتراضاتهم. لكن الجمهور الكوني لا يمكن أن يعد فخا، بل يمكن اعتباره مبدأ للتجاوز، ويمكن من خلاله أن نحكم على جودة الحجة.
أما ميشيل ماير فيقول: "يعرف الحجاج عادة بكونه جهدا إقناعيا إفحاميا. ويعتبر البعد الحجاجي بعدا جوهريا في اللغة لكون كل خطاب يسعى إلى إقناع من يتوجه إليه".
وتعد المقاربة الحجاجية إحدى المقاربات التي تناولت أدب الجاحظ وخطابه النثري بأنواعه المختلفة: النادرة، والخبر، والرسالة، والمناظرة. وهي تقوم على الإجابة عن سؤال: : كيف يؤثر الخطاب في المتلقي؟ وما هي الوسائل التي سخرها المتكلم لإحداث الأثر فيه؟
تُعنى المقاربة الحجاجية بوظيفية النص وبتواصله وارتباطه بالسياق. إنها غير معنية بالنص من حيث هو تركيب أو بناء له استقلاله الذاتي ووجوده الداخلي. إن النص من منظور المقاربة الحجاجية هو أثر وفعل؛ من هنا يسعى التحليل البلاغي الحجاجي إلى استخراج وضبط الحجج والصور التي تحمل المتلقي على الاقتناع، والإذعان لأطروحة النص، والانفعال، وإظهار المشاعر والعواطف، التي يتوخى إثارتها فيه قصد اتخاذ موقف أو سلوك عمليين.


جريدة " الشمال " ، عدد يوم السبت 24 فبراير 2024 .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى