مقتطف أيمن مصطفى الأسمر - الحقيقة الكاملة (12)

(12)

صدمتني نيويورك منذ اللحظة الأولى لوصولي إليها، ابتداءً من المطار الهائل الذي حطت به طائرتي والإجراءات الأمنية الصارمة التي واجهتني، مروراً بشوارعها ومبانيها العملاقة التي بدت لي غير إنسانية شيدها عمالقة أسطوريون، وانتهاءً بمتاهتي لعدة ساعات أصابني خلالها اليأس العميق إلى أن تمكنت أخيرا من الوصول إلى المكتب الذي تتخذه القناة مقرا لها في نيويورك، لخيبة أملي وجدته مغلقا، لم أعرف حقيقة ماذا أفعل، كان من المفترض أن يستقبلني أحد الزملاء، لكن يبدو أن تأخري قد أصابه بالملل فأغلق المكتب ورحل، كان الوقت ليلا وقد بلغ منى التعب والإرهاق مبلغا كبيرا، بعد عناء شديد تمكنت من العثور على غرفة متوسطة المستوى والتكاليف، استغرقت على الفور في نوم عميق لكنه لا يخلو من كوابيس غامضة لم أتذكر أي منها عند استيقاظي، كان آخر طعام تناولته عندما كانت الطائرة تحلق فوق الأطلنطي، وكان قد مضى على ذلك ما يقارب أربع وعشرون ساعة، تركت أشيائي بالغرفة ونزلت لتناول وجبة سريعة مع كوب من الشاي، تذكرت أنني أحمل معي رقم تليفون مكتب القناة، فضلت الاتصال قبل الذهاب إليه، ابتسم لي الحظ وردت علي سكرتيرة المكتب، تعرفت عليَّ فورا بمجرد أن بدأت في سرد قصتي، سألتني: "هل تستطيع الوصول إلى المكتب بمفردك؟" كنت لحسن الحظ قريبا من المكتب ولازلت أذكر كيفية الوصول إليه، أجبتها: "سأصل في خلال نصف ساعة"، وصلت لأجدها في انتظاري، كاثي ... أمريكية شقراء ذات جمال وجاذبية لا يمكن إنكارهما، رحبت بي ودعتني للجلوس ثم دخلت لإبلاغ مدير المكتب بوصولي، خرج فريد بنفسه لاستقبالي وقال في مرح:

ـ أين كنت بالأمس ... ظننا أننا فقدناك؟

اعتذرت له وحكيت له عن متاعب يومي الأول في نيويورك، ضحك كثيرا وأخبرني أن ما حدث هو أمر طبيعي يحدث عادة لمن يزور نيويورك للمرة الأولى وأحيانا لمن زارها عدة مرات، أخبرته عن الفندق الذي نزلت به، قال أنه لا بأس به لكنه أضاف أن كاثي قد حجزت لي مكانا أفضل وأقل تكلفة، قال وهو يستدعى كاثي:

ـ ستذهب الآن مع كاثي لترتيب أوضاعك وأعتقد أنكما ستعودان في خلال ساعة ونصف تقريبا، سأكون في انتظارك.

شكرته على اهتمامه وخرجت مع كاثي، توجهنا مباشرة إلى الفندق لإحضار أشيائي، ثم توجهنا حيث مقر سكني الجديد، لاحظت أنها لا تمتلك سيارة خاصة وكان انتقالنا بواسطة التاكسي، لم استطع أن أمنع نفسي عن سؤالها:

ـ كنت أظن أن كل أمريكي يمتلك سيارة خاصة ... ألا تمتلكين واحدة؟

ابتسمت ثم قالت:

ـ ليس كل أمريكي ... ثم أنني أستطيع استئجار سيارة من أي موديل في أي وقت أرغب به، ذلك أفضل كثيرا لمن هو في مثل حالي.

ـ ماذا تقصدين بقولك "لمن هو في مثل حالي"؟

ـ ليس كل الأمريكيين مليونيرات ... أم تظنهم كذلك؟!

ـ اعذريني لتطفلي.

ـ لا بأس.

عدنا سريعا إلى المكتب بعد انتهاء إجراءات انتقالي، اصطحبني فريد مباشرة إلى مبنى الأمم المتحدة بسيارته الخاصة - علمت فيما بعد أنه يستأجرها - في طريقنا إلى هناك خاطبني قائلا:

ـ سأبقى معك هنا عدة أيام أرتب فيها حلولك محلى في نيويورك، أنت تعلم أننى سأنتقل إلى واشنطن وستصبح أنت مسئولا عن التغطية هنا، وبصورة خاصة الأمم المتحدة، ستكون معك كاثي بصفة دائمة، إنها في الواقع أكثر من سكرتيرة، لكننا نستأجر عند الحاجة مصورين وفنيين محترفين، كاثي تعرف هذه الأمور جيدا وستطلعك عليها.

شكرته وكدت أطرح عليه سؤالا ما، إلا أننا وصلنا فجأة إلى مبنى الأمم المتحدة، دخلنا بعد سلسلة من الإجراءات الأمنية المعقدة، وبدأ فريد في ترتيب وضعي كمراسل معتمد بالمقر.


******

انتقل فريد إلى واشنطن وأصبحت مسئولا عن مكتب نيويورك، كنت أتواجد بصورة شبه يومية في مقر الأمم المتحدة حيث يدور صراع شرس حول الأزمة العراقية بين الولايات المتحدة وبريطانيا من جهة ومجموعة متنوعة من دول العالم من جهة أخرى، يبدو أن هناك إصراراً أمريكيا على تصعيد الموقف إلى نقطة اللا عودة، برغم العديد من مظاهر المرونة أو ربما الضعف في الموقف العراقي بشأن عودة المفتشين والسماح لهم بممارسة عملهم بحرية كاملة، بينما تبدو محاولات فرنسا وألمانيا وروسيا والصين وغيرهم للحيلولة دون نشوب الحرب ينقصها شيء من الإرادة ويعوقها الإحساس بعدم الندية والتكافؤ مع الولايات المتحدة، أما عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية ... كالحصار والإغلاق والاغتيالات وتحويل الأراضي الفلسطينية إلى سجن كبير، فشتان بين ميوعة الموقف الأمريكي بل وانحيازه السافر لإسرائيل إذا لزم الأمر وبين صلابة الموقـف بشكل غير مبرر فيما يخص العراق، سألت كاثي ذات يوم وهى تصحبني في جولة إلى بعض معالم نيويورك:

ـ هل ترضين كمواطنة أمريكية عن مجمل سياستكم تجاه الشرق الأوسط؟

قالت وقد بدا على وجهها مظاهر الاهتمام الشديد:

ـ الأمر لا يطرح بهذه الصورة.

ـ ماذا تقصدين؟

ـ يجب أن تعرف كيف يتشكل وعى الناس هنا قبل أن تسأل هذا السؤال.

ـ عرفيني أنت.

كنا قد دخلنا لتونا إلى أحد منتزهات نيويورك فجلسنا ثم قالت:

ـ اعتاد هذا الشعب العزلة ولا يبال كثيرا بالآخرين، أنه يترك أمور السياسة الخارجية غالبا والداخلية أحيانا في أيدي نخبة صغيرة العدد كبيرة النفوذ، تتحكم في الاقتصاد ووسائل الإعلام، الجامعات والمؤسسات البحثية، أعضاء الكونجرس ومعاونيهم، باختصار في معظم المؤسسات التي لها تأثير ما على متخذي القرار سواء كانت الإدارة جمهورية أو ديموقراطية.

ـ أعلم تقريبا أغلب ما تتحدثين عنه، وماذا بعد؟

ـ حسنا فيما يخص الشرق الأوسط ... لقد نجحت إسرائيل وأتباعها في السيطرة على معظم هؤلاء، إذن السياسة الأمريكية تجاه فلسطين والقضايا العربية في ظل هذه القيود تبدو منطقية للغاية.

ـ لكن بالتأكيد ليس كل الأمريكيين هكذا ... لقد قابلت من يرفضون هذه السياسة.

ـ نعم ... وأنا منهم، قد لا تعلم أنني يهودية، لكنني أرفض الاحتلال وأناهضه، وهناك الكثيرون غيري ممن يفهمون اللعبة ويعبرون عن رفضهم لها، بل ويتخذون مواقف ايجابية للغاية قد لا تصدقها.

ـ ولكن ...

ـ ولكن للأسف رغم أن هؤلاء ليسوا قليلين إلا أنهم مهمشون، فهم مثل غيرهم من مناهضي العولمة، أو دعاة الحفاظ على البيئة، أو معارضي برامج التسلح، وغيرهم من الجماعات المختلفة، يتم تصويرهم دائما على أنهم راديكاليون، فوضويون، أعداء للنظام يجب تهميشهم وإضعاف قدرتهم على التأثير في مجمل الرأى العام، دون أن يصل الأمر إلى حد قمعهم تماما، فنحن بلد ديموقراطي كما تعلم.

ـ إذن يجب علينا كعرب ومسلمين أن نلعب نفس اللعبة التي يلعبها الآخرون.

ـ لا مفر من ذلك، لكن هل تمتلكون النفس الطويل الذي يمتلكه غيركم؟ لا تؤاخذني ... أشك في ذلك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى