لينا كيلاني- تجربــــة مـــــوت...

كانوا ثلاثة.. لا أعرفهم.. لم أتبين ملامحهم.. ولكني كنت أعرفهم.. أو أنني عرفتهم في زمن ما مغيب في أعماق الذاكرة؟!.. لعلي رسمت ملامحهم من مجمل ملامح كنت قد رأيتها أو مرت بي دون أن ألحظها.. أو لعلها وجوه رسمت نفسها بنفسها لتخرج عبر أحلامي المزعجة!!
ولكن.. لمَ يزعجني ذلك الحلم.. هل هو كابوس؟.. لا.. لم يكن كذلك.. هل كان نبضاً من حقيقة؟.. لســت أدري.. ولكنه الشعور.. أجل.. كان حقيقياً.. لا.. لم تكن تلك هلوسات بقدر ما شعرت بها. أجل.. رأيتهم.. ورأيت نفسي: أنا الجلاد.. كنت أمتلك العقــاب.. وربما حكماً بالإعدام لهؤلاء الذين لم يتشكلوا بعد.. ولكن لا أدري لمــــاذا لم تكتمـــــل تجربــة انتفائهم، وطمس ملامح وجوههم.. بل وأكثر.. إلغاء وجودهم؟!!
الأداة كانت في يدي.. لعلها حجر.. أو سيف.. أو مقصلة.. لا أتذكر خطوط تلك الأداة.. أضعتــــها في غفلة مني.. أو أنني تعمدت أن أفقدها حتى لا أكون الجلاد!!.. هل السبب رحمة اصطنعتها كي لا أدخل عالم القسوة غير الرحيم.. أم أنه خوفي من عالم القتــــل، والشــر، والدمار؟.. لست أدري.. هل بدأت أهلوس فعلاً؟.. لا.. أرفض كلمة هلوسات.. فالأمر حقيقي بقدر ما أشعر به. ولكن..للأسف العميق.. فقد تبدلت الأدوار فجأة.. يا إلهي.. أصبحت أنا الضحية.. وها هم الجلادون. أجل.. إنهم هم أنفسهم.. ثلاثة.. الثلاثة ذاتهم.. وكلٌ يحمل بيده أداة القدر، أو القتل التي اختارها، وكما يحب أن يكون الموت بها.. سهم مسموم دقيق، وصغير.. وبندقيـــــة من طراز قديم.. ومسدس ربما كان الأحدث، والأكثر تطوراً برصاصات عريضة كبيرة الحجم تضمن الموت لمن يصاب بها. انقلبت الصورة أمامي.. وأصبحت وحيدة في مواجهة هؤلاء الثلاثة كأي أعزلٍ يواجه عصــــابة. نظرت ملياً في الوجوه.. فعادت الذاكرة تنبض بملامح لم أهرب منها عندما عرفتها في الماضي، ولكني كنت على حذرٍ منها آنذاك. كبيرهم وأكثرهم إصراراً علــــــى أن يكـــــــون جلادي يرتدي ثوبــاً شعبياً.. بل زياً فلكلورياً.. ولكن هـــــذا الزي أعرفه جيداً.. إنه مما يلبسه البسطاء الطيبون في بلادي، وممن لم أحذرهم في حياتي من قبلُ. ليس مهماً هذا الآن.. ولا إن كان الجلاد ينكر نفسه قبل أن يتنكر بهذا الثوب. المهم هو أن أقنعهم بالعدول عما قرروه. وفجـــــأة بدأت أشعر بعاطفة جياشة في صدري نحو كبيرهم.. كأنني أحبه، أو أحببته فيما سبق. رحت أقترب منه.. أنظر عميقاً في عينيه.. فأراهما صافيتين.. شفافتين.. رقيقتين.. وشبح ابتسامة غامضة يلوح ثم يختفي. تشجعت وانحنيت باستجداءٍ مخــــادعٍ حتى الأرض.. فالتمع السؤال في ذهني كالصاعقة: هل أحببت جلادي.. والسهم المسموم في يده.. رغم أنه كما قلت دقيق، ورهيف، وصغير؟ أم أنني الذليلة الوضيعة؟.. لماذا أنحني أمامه؟.. ولماذا أحاول استرضاءه.. فأعتذر له، وأبرر ما كنت أصر على أن أوقعه به؟!!
ـ يا إلهي ساعدني.. برهة من الزمن.. وينهض الرفض، والتحدي في أعماقي.. ولكنه سرعان ما يتحول إلى النقيض.. استسلام.. أجل يتحول إلى استسلام.. ليأتي الموت إذن.. وليكن اغتيالي بدلاً من ذلي.. والانسحاق أمام مَنْ لم تتشكل ملامحهم بعد. وقفت أواجــــه جلاديَّ الثلاثة.. نعم.. وقفت مواجهةً لهم فعلاً.. وأخذ تفكيري يصدر أسئلة كثيرة متلاحقة، وســــريعة.. هل سينبض قلب أحدهم فيرمي من يده أداة القتل؟.. ولكن كيف؟ ولماذا؟.. أم أن هذا سيحصل متأخراً بعد فوات الأوان؟ أرهقتني الأسئلة حتى لم أعد أحتمل.. فقلت بصوتٍ عالٍ:
ـ سأدير لكم ظهري.. فأنا لا أخاف من الموت.. ولكن أنصحكم بأن تأتي الطلقة من الظهر باتجاه القلب مباشرةً.. ليكون الأمر سريعاً، ونهائياً. كانوا يقفون ورائي.. ولكني كأنما كنت أراهم بعين ثالثة خفية.. وأتفرّس في وجوههم. بدأ قلبي يضرب بقوة لم أعهدها.. هل هي ضرباته الأخيرة يا ترى؟ أم هي قــوة الحيـــاة التي تنبض في عروقي، ورغبة الاستمرار؟ أم هو الخوف؟.. بل الخوف من الألم القادم بعد قليل؟! ترى مَنْ سيطلق ما أصبحت الآن رصاصة الرحمة قبل غيره؟.. هل هو صاحب الزي الشعبي.. أم الآخر.. أم ثالثهم؟ وراحت الرصاصات الثقيلة تتجسد في مخيلتي مرعبة، مؤلمة.. ورحت أتساءل: تراها في أي مكان من جسدي ستستقر؟.. ليتها لا تكون.. أو ليتها تكون قد فقدت فاعليتها فلا تعود تؤذي، أو تميت. مضى وقتٌ.. وأنا ما أزال أنتظر اللحظة.. اللحظة الرهيبة، والحاسمة.. لحظة تتعلق الحياة، أي حياة إنسانية ما ليس فقط حياتي التي عشتها، ولبستني لعدد من الســنين.. أقول لحظــــة تتعلق الحيـــــاة على حوافها فإما أن تنتفي تلك الحيـــــــاة، وتتبدد في أرجاء المكان، والزمان، والكون.. وإما أن تعلن عن إصرارها على البقاء لأجل أطول. وبلمحــــة فرّت من زمن مجهول.. انطلق الســـهم المسموم.. اخترق الجسد.. ولكنه لم يصل إلى القلب.. مخلفاً وراءه ثقباً دقيقاً أحمر اللون كأنه طفح جلدي سخيف. تملكتني سعادة هائلة.. فأنا لم أمت إذن.. ولم أسقط.. ولكني اصطنعت السقوط كما لو أن السم أخذ يسري في جسدي.. وقعت أرضاً.. وأغمضت عيني.. ورحت أكبت ضحكاً هستيرياً أخذ يجلجل في أعماقي فأسمعه عالياً جداً يكاد يُغيّب صداه كل ما حولي من همس المكان. اقترب مني أوسَطُهم.. وتفحص نبضي.. ولما تأكد أن قلبي ما زال يخفق قال بهدوء:
ـ إنه الخوف.. ليس أكثر.. جاء دوري الآن.
أنهضني من على الأرض.. ووضعني في الموقع ذاتــــه من جديد.. واستقبلت بندقيته المهترئة الصدئة جسدي بينما أنا أدير ظهري له. لحظات مرت كالدهر.. وأعماق نفسي صامتة.. تترقب طلقة البندقية. الأصابع الغليظة تضغط.. والرصاصة تنطلق.. ودم قانٍ يتناثر فيصبغ قميصي الأبيض باللون الأحمر.. جهة القلب.. ويرتمي جسم صغير مضرج بالدماء أمام قدمي. الحقيقة أنه ليس قلبي الذي سقط.. وأنا لم أمت.. ليس أكثر من لون أحمر سقط فوق القميص.. وكان دم ذلك الطائر المسكين الذي تزامن قدره مع لحظة إطلاق الرصاصة فأوقعته قريباً جداً مني جثة هامدة. عادت الضحكة الشامتة تدوي في داخلي.. أنا لم أمت إذن بعد.. ولكن أي حيلة سأصطنعها الآن لأهرب مــــن قدرٍ ينتظرني كقدر ذلك الطائــــــر التعـــس؟!.. ما من وسيــــلة أسعفتني بهــــــا حيلتي.. لأظــــــــل واقفــــــة إذن في مكاني كطائرٍ مقصوص الجناحين. اقتــــــرب ثالثهـــــم مني وتفرّس في خيبة سابقه وهو ينظر إلى الطائر الميت فوق الأرض، ثم عاد يلقّم مسدسه المتطور وهو مزهو به، وقال:
ـ وقت قريب وينتهي الأمر.. إنه دوري الآن.
تسمرت.. وأنا أعود لهلع الترقب، والانتظار .. وكأنني غدوت تمثالاً من الشمع المحترق لا يقوى حتى أن ينساح فوق باقي أجزائه. ثانية.. اثنتان.. لا بل ثلاثة.. وانطلقت الرصاصــــة الغليظة.. سافرت بسرعة تقطع المسافة بين يد الجلاد وجسدي.. فاخترقته بقسوة وعنف.. وسقطتُ مغشياً عليّ. ابتسم الثلاثة.. وتصافحوا.. وتبادلوا التهنئة بطلقة موفقة من الظهر ليس لها إلا أن تستقر في القلب.. جــلادون شـــــــرفاء لم ينسوا وصية ضحيتهم في أن تأتي الطلقة من الظهر باتجاه القلب مباشرة ليكون الأمر سريعاً، ونهائياً. وقبل أن تبتعد أقدامهم كثيراً عن المكان.. كنت أسمع وقعها وأنا أستعيد وعيي.. وأنهض.. فأطلـــــــــق ضحكتي بصـــــوتٍ عالٍ يخرج من صدري مجلجلاً. لقد صُوبت الرصاصة جيداً.. واخترقت جسدي.. لكن قلبي ليس كأي قلب مما يعرفون.. إنه يستقر فــــي الجانب الأيمــــــــن من جســــــــدي.. إنه قلــــــبٌ صعب أن تخمد نبضاته رصاصاتهم. إنني واحدة من ملايين تكون حالتهم مثلي.. قلوبهم إلى اليمين.

لينا كيلاني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى