عبدالله البقالي - حين حدق السرطان في ملامح وجهي

"غالبا ما لا يحس المقاتل بجراحه في ساحة المعركة، ولا تقض مضجعه الا بعد انتهائها"
هناك فرق بين ان تتحدث عن أمر يشكل هاجسا تتنفسه وتعيشه، وبين أن تستعيده كذكرى.
في الاول تكون كل كلمة تتفوه بها محملة باحاسيس لا حصر لها، وهي ممتزجة بالخوف والقلق والترقب، خصوصا حين يكون المصير على المحك. وفي الثانية تكون أشبه بمتفرج يستعرض وقاىع يعي مسبقا المٱل الذي ستنتهي اليه. لكن ومع ذلك تظل بعض المواقف حاضرة بقوة كاعاصير خارج الاوقات والامكنة لحد انها تستطيع ان تعجن الازمنة وتطل بقرونها لتسقط كل ما يرتفع قبالتها. وذلك لقوة التاثير الذي يتجاوز الحدود ليصنع منك في النهاية حكيما او يضعك في منزلة اشبه عقل كبير قطره اوسع بكثير بالعقل المنشغل بالقضايا الظرفية العابرة.
لقد كنت في السابق قد توقفت عند عملية أخذ العينة من الورم السرطاني، وانتظار الناائج. وهي عملية لم اكن ادرك جدواها بشكل محدد. خصوصا وان كل الصور والتحاليل اثبتت اصابتي بالمرض. ولذلك لم اعرف ما ذلك العنصر الذي يبحث الاطباء عن كشفه فلم يكن ينقص سوى تحديد تاريخ اجراء العملية الجراحية. ذلك الموعد الذي تحول بدوره الى مسلسل لا احد كان يعرف كم عدد حلقاته. وذلك بسبب اضرابات الممرضين التي كانت تخاض لثلاثة ايام في الاسبوع. وقد تصادف ان الايام الثلاثة كانت تقع في الحيز الزمني الذي كان الفريق الطبي المشرف على حالتي يجري فيها عملياته الجراحية الاسبوعية. وهكذا صار كل تأجيل يليه تاجيل. وساعتها بدات اشعر بالخوف والقلق، خصوصا بعد عملية اخذ عينة المرض. اذ لا يعرف -كما افضى لي احد الاطباء- رد فعل المرض بعد ان تم استفزازه. هل ظل منكمشا داخل رقعته،ام انه انتشر ووسع من مساحة تواجده؟
في غمرة الخوف والقلق، اتصلت بي سيدة من البلد، وتحدثت معي بشكل جدي وصارم، وامرتني بوجوب سحب ملفي من المستشفى الحامعي، ووضعه لدى احدى المصحات تحت اشراف بروفسور معين، مبرزة لي ان مشكلتي ليست مختصرة في المرض وحده، بل وان عنصر الزمن له اهميته القصوى.
لم استطع تجاهل هذا التدخل. فهو من جهة ليس من شخص بسيط. ومن جهة ثانية اشعرني بشى مهم يحتاجه اي مريض، اذ ليس هناك اهم من ان تشعر في اللحظات الحرجة ان هناك من يفكر فيك ويشعر بما تعيشه. وهذا لعمري منتهى ما يحتاجه اي انسان وهو على تلك الحال. ولذلك فهمت بعمق المقولة الشعبية التي تفيد" ان الموت وسط الرجال انزاهة". لكن مشكلتي تلك اللحظة كانت متمثلة في كوني ألفت الفريق الطبي الذي كان يشرف على حالتي بالمستشفى الجامعي للحد الذي صرت اعتبرهم اصدقاء، واشعر ان حياتي في ظل وجودهم مؤتمن عليها.
في محاولة للتأكد من صحة هذه الخطوة، اتصلت بطبيبة هي ايضا من البلد ولها نفس تخصص مرضي. حين استشرتها طلبت مني ان انجز فحصا بالراديو للتاكد من نسبة اشتغال الكلية اليمنى التي كان يعتقد حد تلك اللحظة ان نسبتها ليست عالية. غير ان النتيجة كانت محبطة. اذ اثبت التحليل انها ميتة. وان الكلية الوحيدة التي تشتغل هي تلك التي اصابها السرطان.
في بعض الاحيان يكون عدم العلم بالشئ افضل من معرفته، لان ذلك على الاقل يبطل مفعول التاثير النفسي السلبي الذي يزيد الوضع حدة. وضع اشعرني بالكثير من الحزن. فكون ان تعرف ان عضوا حيويا من اعضاىك قد مات، اشبه بغاز انتزع منك حيزا وضع عليه قدميه، ويقف منتظرا فرصة لاكتساحك وتشطيبك من الوجود.
الطبيبة اكدت ان الطبيب المقترخ لاجراء العملية هو شخص متمكن ويمكنني ان اثق به.
لم اجد بدا من ان اقوم بجولة استكشافية للمصحة والتعرف على الطبيب.ومن الوهلة الاولى، استطاع الطبيب ان يشعرني بالالفة، وهو امر كنت اعتبره اساسيا. قدمت له بعض النسخ من ملفي الطبي التي كانت كافية كي تعطيه فكرة عن مشكلي الصحي. وبعد ان القى عليها نظرة متفحصة، أكد لي ان الامر لا يحتاج الى استىصال الكلية، لكن قراره الحاسم لن يبلغني به الا بعد الاطلاع على كل الملف.
أحسست أني خطوت خطوة مهمة، وهو ما انعكس على حالتي النفسية بعد مغادرة المصحة، اذ شعرت وكأني وضعت كل الحكاية وراء ظهري وتخلصت من المرض. لكن مشكلتي صارت كيف اسحب ملفي من فريق المستشفى الجامعي، وذلك اني كنت اجد الامر شبيها بخيانة او عقوق وعدم الوفاء. خصوصا واني كنت ادرك ان الفريق هو الذي انجز كل المهام التي تسبق اجراء العملية. وان الطبيب الجديد هو ليس اكثر من نادل في مطعم كل ما سيفعله هو وضع الطعام على الماىدة
طالفريق الكبي بالمستشفى الحامعي لم يخف امتعاضه. احد الدكاترة سالني عمن سبحري العملية. وقال لي بعدها انه لا يوجد احد بوسعه القيام بتلك العملية الحراخية. وانه في خالةاعتذار ذلك الطبيب عن القيام بها، فيمكنني العودة في اي وقت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى