كتاب كامل مصطفى الحاج حسين - أصابع الركام.. مجموعة شعرية

// مقدمة: مرحىٰ للعقّاد الثاني..
بقلم: محمد بن يوسف كرزون
(كاتب وروائي سوري)


عرفتُ الأديب والشاعر مصطفى الحاج حسين أديباً مشاغباً في رواقات مدينة حلب الثقافية المتعدّدة، يكتب قصّة قصيرة مدهشة، مذهلة، تفاجئ القارئ بواقعيّتها الشديدة وبصراحتها المفرطة، وتجعل الكتّاب الآخرين يتمنّون أن يتوصّلوا إلى كتابة نصوص ذات أبعاد فنّيّة تشبه أبعاد قصصه، وأن يمتلكوا الجرأةَ الزائدة التي تميّزت بها قصصه، والتي تسبّبتْ له بمصاعب متعدّدة مع أجهزة الأمن، ومع إدارات النشر الأدبيّة، في سورية، على حدّ سواء.
وهو الرجل الذي تعلّم القراءة والكتابة بنفسه، ولولا سنوات قليلة من سنوات الدراسة الابتدائية لقلتُ إنّه علّم نفسَهُ بنفسهِ.
ولذلك هو يذكّرنا بعبّاس محمود العقّاد، ذلك الأديب العملاق الذي لم يحصّل أكثر من الدراسة الابتدائية، ولكن إذا ذكرنا الأدب العربي وحركة التأليف في الثقافة والأدب فإننا سنضعه ضمن العشرة الأوائل في القرن العشرين بكلّ تأكيد.
وكذلك مصطفى الحاج حسين، الذي أسمّيه «العقّاد الثاني»، ولكن لم تكن ظروف العقّاد الثاني تشجّعه على الظهور، فمشاغباته كانت كثيرة، وصراحته كانت مفرطة، وهو لم ينهج نهج العقّاد الأوّل في السياسة، فلم ينتسب لأيّ حزب، ولم يحمِ ظهرهُ بأيّ شخصيّة أدبيّة معروفة على مستوى سورية أو الوطن العربي.
كلّ ما كان يفعله أنّه رجل لا يجامل أحداً، لا في المنتديات الأدبية والأمسيات، ولا في الكتابات التي تعظّم أو تُلمّع... كانَ مغموساً في إبداع نصوص جديدة، وكان هاجسه الذي يلاحقه مع كل نصّ قصصي: هل تجاوزتُ كتاباتي السابقة وقدّمْتُ نصّاً جديداً؟ مع ملاحقته لهموم البسطاء، ولكيل اللعنات على الفساد والفاسدين.
فالعقّاد الثاني، الذي لم يدرس إلاّ القليل، والذي يكتب ويفوز بجوائز تلوَ الجوائز، ترمقه العيون بشتّى أنواع الغيرة والحسد، ثمّ هم مع ذلك لا يملكون إلاّ أن يصرّحوا له بأنّ أدبه متميّز.
وشاء القَدَر أن أتواصل معه ونحن في مغتربنا التركيّ الذي فرضتْهُ علينا الحرب القذرة الظالمة التي تجري في سورية، وأطلعني على بعض ما يكتب من جديد، من شعر نثريّ حديث، وتذرّعَ بأنّ هموم الغربة، ومعاناته من المرض، قد فرضتا عليه أن يتحوّل إلى القصيدة.
قرأتُ قصائدَه، وهالني ما وجدتُ من مستوى، سواءٌ أكان على مستوى المضمون، أم في الصياغة الفنية وتضمين الصور الجديدة والمبتكرة بل المتألّقة.
وطلبتُ منه المزيد، فزوّدني ولم يبخل عليّ بها، وهو ينتظر رأيي على أحرّ من الجمر، وأنا أتباطأ في الإجابة وبيان الرأي والمناقشة، إلى أن جاء الوقت الذي صارحتُهُ بأنّه شاعر، بل شاعر ماجد، شاعر قضيّة وشاعر فنّ جميل.
ولم أكن أجامله على أيّةِ حال، بل كنتُ أقول كلمتي لوجه الحقيقة الأدبيّة أوّلاً وأخيراً. وتناقشنا في شكل كثير من القصائد ومضامينها، ولم أكن أتحرّجُ في أن أطلقَ عليه لقب «العقّاد الثاني» بكلّ جدارة. وإن كان قد جاء هذا الإطلاق متأخّراً، فكم كان سيفرحه هذا اللقب لو كان أُطلِقَ عليه وهو في الثلاثينيّات من عمره.
ومع ذلك، شعرتُ به وقد انتابته حالة من الخجل من لقبي هذا، فقلتُ له: بكلّ صراحة أنتَ تستحقّه، وتستحقّه منذ مدّة، وسامحني إن جاءَ متأخّراً.
أربعةُ أسفار شعريّة، هي دواوينه التي صدرت له في إسطنبول حتّى الآن، وقد صارت بين يديَّ في وقتٍ عزَّ الكتاب الورقيّ عليّ وندر وأنا في ديار الغربة.
وهناك مفارقتان لا بدّ من ذكرهما في هذا التقديم، ونحن نتحدّث عن العقّادَين:
الأولى: أنّ عبّاس محمود العقّاد قد كتبَ الشعرَ في صِباه، ثمّ عكفَ عن كتابته بعدَ أن أصدرَ، مع عبد القادر المازني، كتابه النقديّ اللاذع «الديوان»، الذي لم يعجبه فيه شعر أيٍّ من المُحدَثين، وتوجّهَ إلى كتابة البحوث والمؤلفات الضخمة في مجالات شتّى؛ ولكنّ العقّاد الثاني، مصطفى الحاج حسين، قد اتّجهَ إلى كتابة الشعر متأخّراً.
والثانية: أنّ العقّاد الأوّل قد تعاطى السياسة، وانخرطَ في الأحزاب التي كانت في عصره، وقد أفاده عمله هذا كثيراً في شهرتِهِ الأدبيّة. بينما لم يدخل العقّاد الثاني في معترك السياسة والأحزاب، وقد أضرّ به بُعدُهُ عن العمل السياسي في شهرته الأدبيّة، إلى أن وفّرتْ له ظروف اللجوء، نتيجة الحرب الإجرامية التي حصلت في سورية، فسحةً من الحريّة في التعبير، فانطلق من جديد، ولو متأخّراً.
ولو جمعنا قصائده التي قالها في حلب، مدينتي ومدينته التي نشأنا فيها، لصارت ملحمة لا تقلّ عن الملاحم الشعرية الكبرى في الأدب العالمي عبر العصور. ولكن لا أدري هل من حُسْنِ طالعنا أم من سوئه، أنّنا من أمّةٍ لا تعير بالاً لمفكّريها وأدبائها وحكمائها وشعرائها... بل هي تدمّرهم كما دمّرتْ آثار الأقدمين في أعرق المدن العربية: حلب والموصل، وغيرها من الحواضر القديمة والحديثة، ولم تسلم منهم المدينة التاريخية الحيّة «تدمر».
لن أطيلَ عليكم، سأدعُ قصائدهُ تتحدّث، لتغوصَ في وجدانِ كلّ قارئ يمتلك الصدق مع نفسه ويحبّ أمّته.
هذا هو العقّأد الثاني، مصطفى الحاج حسين، فتحيّةً له، وأشدّ على يده وأقول له: انتبهْ لنفسِكَ فأنتَ عملاق أدبيّ من عمالقة الأدب العربي والعالمي، وستشكف الدراسات عن هذا عاجلاً أم آجلاً إن شاء الله.
هذا الديوان
هذا هو الديوان الرابع الذي ينشره العقّاد الثاني، مصطفى الحاج حسين، وقد ضمّنه مشاعره المرهفة، التي نجد تأثير الحرب الفظيعة عليها، بل على كلّ حرف قد كبته، فهو قد عاش في ظروف الحرب سنوات، ثمّ عاشَ ألم الاغتراب، ولا سيّما بُعده على الأهل وعن حبيبته الآسرة «حلب»، تلكَ المدينة التي تسكنه، يقول في قصيدة عنوانها: (وهج السراب):
مهما اقتربْتُ منكِ
وضممتُكِ إليَّ بقوّةٍ
تبقينَ عنّي بعيدةً!!
حتىٰ لو سكبْتُ قلبي
في دمِكِ
ومزجْتُ روحي
بأنفاسِكِ
وأطعمْتُ يديكِ
من حنيني
وانصهرَتْ لهفتي
علىٰ عنقِكِ
وذابَتْ هواجسي
وانفطرَتْ شهقتي
وَبَكَتْ كلماتي
وارتعشَتْ همستي
وخارَتْ نظراتي
وارتمَتْ شجوني
وتساقطَتْ شجاعتي
وانتحرَتْ رغبتي
أحسُّ أنّكِ بعيدةٌ
تبدينَ غائبةً
وعنّي شاردةً
قلبُكِ لا يدقُّ بضراوةٍ
وروحُكِ ناعسةٌ
قبلتُكِ بلا رائحة
وحضنُكِ يتثاءَبُ كالخريفِ
لا صوتَ لأصابعِكِ
لا شغفَ في شفتيكِ
وشَعرُكِ
يتهرَّبُ من ملامستي
لماذا هٰذا الموتُ
ينثالُ من صمتِكِ؟!
لماذا هٰذا الخوفُ
يطلُّ من عينيكِ؟!
هل كانَ حبُّنا وهماً؟!
وهل كانَتْ قصائدُنا
عجافاً؟!
هذا الخطاب في القصيدة ليس موجّهاً لحبيبة بعينها، سوى الوطن وحلب، وتبدو معالم حلب واضحةً أكثر في القصيدة الأخرى التي عنوانها «العصيّة»:
في قلبي وجعٌ وبكاءٌ
وفي روحي دهشةُ الأبرياءِ
وأسئلةٌ تنمو في داخلي
في كلِّ صبحٍ ومساءِ
وحيرةٌ تعصف بي
وارتباكٌ وخوفٌ
وصوتٌ يصرخُ في فضائي
وماذا بعدَ كلِّ هٰذه الدّماء؟!
بعدَ هٰذا الدّمار
يا أخوتي يا أصدقاء!!!
تتسابقونَ إلينا وعلينا
تسوقونَ بمحبّةٍ لبلدِنا
الموتَ والفناء!!!
يا لَكُمْ مِنْ أوغادٍ جبناء
هيهاتَ لكم
أنْ تطفؤوا نورَ اللهِ
فنورُ الخالقِ يتجلّىٰ
في حلبَ الشّهباء
لا تظنّوا أنّكم ستنتصرونَ
مُحالٌ لكم هٰذا
يا أغبياء
ستبقىٰ سورية عصيّةً
علىٰ الأعداء
هكذا قال السلطان وهنانو
وصالح وكلّ الشّهداء
فرغم كلّ ما حلّ في هذه المدينة من ويلات يبقى نور الخالق يتجلّى فيها، ويزيدها تألّقاً، ويزداد عشقه لها. بل نراه يسكب قهره ووجعه في قصيدة وهو يتألّم كما تتألّم حبيبته «حلب»، فيقول في قصيدة (ندىٰ عمري):
في لغتي أسمُكِ أوَّلُ الكلماتْ
وما أنتِ كلمةٌ أو نجمةٌ
أسمُكِ في روحي آياتْ
موجودٌ في دمي منذُ خُلِقْتُ
وإلىٰ آخرِ اللّحظاتْ
لا أعرفُ إلّا أنتِ
ولا أهوىٰ سوىٰ عينيكِ
مهما عشتُ وطالَتْ بي الحياةْ
سأبقىٰ أحبُّكِ وأعشقُ طيبَكِ
وأقبِّل ذكراكِ بعدَ المماتْ
حبيبتي أنتِ غَصْبَ غربتي
فاتنتي ومهجةُ أحلامي
مهما توسّعَتْ وامتدّتْ بيننا المسافاتْ
لَمْ أجدْ غيرَكِ لأعشقَها
لا بديلَ عنكِ
بينَكِ وبينَ قلبي ذكرياتْ
سأظلُّ أناديكِ وأكتبُ عنكِ
أغنّي أشواقي دمعاً وآهاتْ
أنتِ للضّائعِ منارةٌ
وللمتيَّمِ اليائسِ الحائرِ صلاةْ
أحكي عنكِ للضَّوْءِ إنْ أظلمَ
وللبحرِ لو تيبَّسَ موجُهُ
وللّيل لو ضاقَتْ عليهِ السّاعاتْ
جلُّ وقتي وكلُّ نبضي
ومعظمُ صمتي وسائرُ بَوْحي
عَنْ موعدٍ من صوبِكِ آتْ
هيهاتَ أنسىٰ وجهَكِ
قريباً ألقاكِ وأغمرُكِ بالقبلاتْ
حلبٌ أنتِ
مدينةُ السّحرِ والأمنياتْ
أَسْمِعي روحي صوتَكِ
عطشَ قلبي أحييهِ بالأغنياتْ
أنتِ ندىٰ عمري وأوجاعي
مهما حالَتْ بينَنا السّنواتْ
وينساب الديوان شعراً صافياً عذباً يحمل الشجن والألم، ممزوجاً بعبق الحضارة والأمل، مع الصور البديعة الطريفة الجديدة المتجدّدة التي كان يبثّها في كل جملة شعرية يصوغها.
إنّه ديوان يستحقّ مع بقيّة الدواوين التي أصدرها دراسات متعمّقة في فنّه الشعريّ وشخصيّته الأدبيّة الناضجة والمتميّزة، بل يستحقّ من القرّاء أن ينهالوا عليه، لأنّه قد سكبَ فيه معانيَ العطاءِ والألم والأمل، فتحسُّ أنّه نابضٌ بالحياة، رغم كثرة ذكره للموتِ، الذي يختطف كلّ يوم بفعل جرائم الحرب الوحشيّة عدداً كبيراً من أهل وطنه، دونَ وجهِ حقّ.
محمد بن يوسف كرزون
نيسان/أفريل 2017
(بورصة – تركيا).
* لَوْ لَاكِ..
كلّ صباح..
ينبعث منكِ الضّوء
تغمرينَ قلبي برائحةِ النّدى
أتنفسُ ضحكتكِ
أحتسي فتنة عينيكِ
أوغل في تأمل روحكِ
أرتحل في ثنايا البوحِ
أثمل من سهوبِ أنوثتكِ
أتأكدُ أنّكِ روح الكون
لو لاكِ..
ما كان للوجودِ طعم
ولا معنى..
وما كان للغةِ أجنحة
ولا للسماءِ شهوقٍ
لو لاكِ..
لغادرَ الموج البحر
وانتابت القمر كآبة وملل
وظنّت الفراشات
أنّ لا ورد في الدنيا
والورد سيعتقد
أنه ثقيل الدّم
وغليظ الأنفاس
ما كان للموسيقى أثر
ولا عرفت العصافير
أن تحلّق
وما كان من داعٍ
للسّهرِ وللشعرِ
لو لاكِ..
يرحل الليل بلا رجعة
وتتخلّى الفصول عنّا
وتصير المطر حطباً
والغيم جبلاً من ترابٍ وحجر
لولاكِ..
قد تكفّ الأرض عن دورانها
وتفقد الحياة بهجتها
والأشياء تأبى تطاوعنا
يتمرّد الهواء ويتحجّر
وربما ينتحر
إذ لا معنى لنبضهِ
لو لا أنتِ
لا حاجة للدّروبِ
واجتياز المسافات؟!
ما حاجة الشجر للغصونِ؟!
وما حاجة الثلج لبياضهِ؟!
ستكون الأسماء
بلا اسم
والأماكن
ستتخلّى عن عناوينها
وطعم العسل
سيصير مالحاً
ومذاق القهوة
فلفلاً حاراً
وكنتُ..
لن أحتاج لعينيّ
ويديّ سأعتبرهما
زائدتان عندي
وشفتايّ تتحولان
إلى خشب
الزمن..
طاعن بالعفونةِ
الجّبالُ ستقعي
الوديانـ
ستنتفخُ بالرّطوبةِ
الظلالُ ستحترق
الهواجسُ ستختنق
الأحلامُ
لن تنبعث
وسيكون الصّوتُ
أخرس
والصّمتُ
هو السائد
المطلق
لولا أنتِ.*
إسطنبول
* عاصفة..
تتوجّعُ أسئلتي من عطش
محموم الاشتهاء
ناضب الرؤى
قميء الجنون
تتوضب مشارف الحروف
على لغة من موج
تصطفق كلمات الهواجس
على مذبح الحنين
أهيم في اعتلاء البوح
أركن أصابعي عند
شفق العنق
أعاقر نهد النار
وأروم من شفتيكِ
غسق الموت
في صدركِ ألاحق
فضاء الشهيق
وتنزاح من أمامي
ستائر البكاء
لأحتضن غيم السعير
وأفترش جدائل القبلات
أمرغ شمس العشق
على زنود ضحكتكِ
وأمسّد جراحي الهائمات
على زغب أوجاعكِ
أضم أجنحة عطركِ
بنبض حقولي
وأطلق العنان لسفني
تمخر خلجان دفئكِ
أغوص في همسكِ
أتسلق أضواء الضحكة
وأتمسك بشبابيك الآهة
أتهجا سمق الروح
أستقرأ أعاصيركِ
وأتوارى خلف قميص
النسمة العارية
أعلن عن لقائنا
الذي أكله الانتظار.*
إسطنبول
* حِبَالُ الخَدِيعَةِ..
سيأكلُ العشبُ من لمساتِ دمي
وينسج النّدى من عطشي
خيوط احتراق
يقتات الملح على جرحي
ويشرب الشوق دمع أوجاعي
أعلق أجنحتي على جذع الانتظار
وأرمم شبابيك سهوبي
وأشدّ على يد الدرب
يستعجل بخلع مسافاته
أحدق بهسيس الوقت
يسري بهشيم اللهاث
ساطع الخطى يهمي
وألملم التراب عن بوح
حطامي
ينبت حولي فراغ
من اختناق
تتزاحم أجنحة السقوط
يرفرف الاحتضار بوجهي
يلعقني مسمار الجنون
يدقني الحزن برحى الخيانة
ينتابني صليل الصراخ
على صديق
اقتطع من عمري
غابات فرحي
وبنى من بكائي
شرفة مجد
وراح يرجمني
بقطع من لحمي
وينساب مني مدى
وأسراب ضوء
تضحك في حلقي المرارة
تقهقه لها قصيدتي
وتهمس بأسف
يا لكَ من غبي
يا صديقي
القافز على حبال
الخديعةِ.*
إسطنبول
* وَجَعُ الحَنينِ..
يحفرني الوجعُ
يدقُّ في أوردتي مساميره
يعمق ألمه..
في أنحاء أنفاسي
ويوسع ثقوب الروح
يفتح قبره في قلبي
يدفن جمر الدمع
ويسكب فوق لهاثي
مطراً من صليل
يحاصر في دمي
أحصنة اليباس
ويقبض على أفق
كنتُ أزرعه بالنّجوى
يشدّ شعر لهفتي
ويذبح ضوءاً كان
يضمد عتمتي
يرمي بدهشتي إلى الخراب
ويتصيد من آهتي
فراشات البوح الثكلى
يمشط صحارى الاختناق
ويشعل فتيل الموت
في نخاعي الشوكي
يعتقل أنين الرؤى
ويمخر عباب الاشتهاء
يمرغ قامتي بالسقوط
ويشهر الهاوية
بوجه حلمي الشاحب
يلملم حطب صرختي
وأشجار الهطول النادبات
يغلق عليّ شبابيك الانتظار
يسقيني عطشاً من حنظل
ويبقر لي خاصرة الوقت
وجعي شوق نازف
عشق أبدي التكوين
وَلهُ هائم الخطوات
يبعثرني في الطرقات
المودية إلى بلدي.*
إسطنبول
* وَهَجُ السَّرابِ..
مَهمَا اقتربْتُ منكِ
وضممتُكِ إليَّ بقوّةٍ
تبقينَ عنّي بعيدةً!!
حتىٰ لو سكبْتُ قلبي
في دمِكِ
ومزجْتُ روحي
بأنفاسِكِ
وأطعمْتُ يديكِ
من حنيني
وانصهرَتْ لهفتي
علىٰ عنقِكِ
وذابَتْ هواجسي
وانفطرَتْ شهقتي
وَبَكَتْ كلماتي
وارتعشَتْ همستي
وخارَتْ نظراتي
وارتمَتْ شجوني
وتساقطَتْ شجاعتي
وانتحرَتْ رغبتي
أحسُّ أنّكِ بعيدةٌ
تبدينَ غائبةً
وعنّي شاردةً
قلبُكِ لا يدقُّ بضراوةٍ
وروحُكِ ناعسةٌ
قبلتُكِ بلا رائحة
وحضنُكِ يتثاءَبُ كالخريفِ
لا صوتَ لأصابعِكِ
لا شغفَ في شفتيكِ
وشَعرُكِ
يتهرَّبُ من ملامستي
لماذا هٰذا الموتُ
ينثالُ من صمتِكِ؟!
لماذا هٰذا الخوفُ
يطلُّ من عينيكِ؟!
هل كانَ حبُّنا وهماً؟!
وهل كانَتْ قصائدُنا
عجافاً؟!*
إسطنبول
* حبلُ المَسَدِ..
يأكلني رغيف الوقت
ينهشُ أنفاسي الماطرة
يتزنَّرُ بدمعتي ويعدو
إلى أرصفة أوجاعي
ويشرب من بحة موتي
هذا المساء الهرم
تتقاذفني غيوم الانتظار
وأنا أرتل شهقتي
أنا انهمار الأسى
في عروق الرحيل
درب الزمهرير النابت
في كفٌ بسمتي النّابية
حصار النزيف إلى الحلم
نافذة الاختناق الرْحب
وجع الدّنيا يسكنني
سماء الغبار الزاجل
حراشف الماء الدّاكن
سكون السّراب الهائم
جليد النّظرة الغائرة
إحتشاء الضْوء بالأوردة
أنا زقاق المدى المسدود
شقوق النّهار البائد
تلوكني ريح الفجائع
تقضم خطوتي الأنداء
يخطفني رحيق الأفعى
وأندسُّ في فراش الاحتضار
أبحث عن نهد النّحيب
يا أيها الزْمن الضّال
يا حصان الأوبئة
يا مسمار الوهج الآثم
توقف عند نعش الغروب
حمّل معكَ لغتي الزّائفة
وصفيح الذكريات
لا أريد صباحات غبية
تلعق جزمة الاغتصاب
وتؤدي التّحية للخراب
لا أريد تصفيقاً حاراً
لعنكبوت الزّوايا السّوداء
رتب موتكَ يا حبر الموسيقا
هذا النشيد آبق
يحفرني القبرُ ليموتَ
في رحابِ نبضي
وأشهد أنَّ الدِّيَكَة
كانتْ تنقرُ خُصلَةَ حُلُمِي
والزّناةُ سيَّجوا محرابهم
في عقرِ الطَّهارةِ
الوقتُ يردمُ قامتي
الخوفُ يستبيح بلادي
مدينتي اغتصبها الشّيطان
والموت يرفل بالنّدى
سكاكين الظّلام تسلخ الدمع
ولا وقت لزبد البحر
ليطلعنا على فتواه
هل قتل الطّفولة جريمة
أم مستساغ في شريعة الأمم؟!
يتزمَّلني الجنون
في عالم الرّياء
وتلطمني الهواجس الرّاعفات
ألوب على حرّيّة الأمواج
على سماء تّتسع لشمعة
على أفق يحمي فراشة
على حبّة قمح
لم يمضغها الكهنة
عبث هذا البرق
فخلف هذا الرّعد
مجزرة
تهدّد من يستغيث
بِحَبلِ المَسَدِ.*
إسطنبول
* الهديَّةُ..
صَارَ المَوتُ خبزَنا
وصديقَنا الوحيدَ
يكادُ لا يفارقُ بلادي
يُطِلُّ علينا كلَّ حينٍ
متعدِّدَ الأوجُهِ
كي لا تَمَلَّ منهُ
أو تهربَ من أمامِهِ
يحضنُنا بكلِّ شوقِ
يسحقُنا بقبلاتِهِ الحارقةِ
يحبُّ صغارَنا وكبارَنا
نساءَنا ورجالَنا
حتّى زرعُنَا لم يسلمْ مِنْ حبّهِ
وعصافيرُنا
نابَها منهُ الكثيرَ
لا يشبعُ من احتضانِنا
ولا تخفى عليهِ عناوينُنا
راقَتْ لهُ البلادُ
استوطَنَ الأحياءَ والأزقّةَ
يدعونا إليهِ
ليسقينَا من حليبِهِ
الموتُ يشاركُنا الفِراشَ
ويرقصُ في الأعراسِ
ويقعدُ معنا على موائدِ الطَّعامِ
يشربُ معنا الشَّايَ
ويدخِّنُ من حناجرِنا
وكلَّما تلدُ أنثى يضحكُ
كلَّما كتبْتُ قصيدةً
يهزّ لي برأسِهِ
ويدلِّي لي بلسانِهِ
الموتُ يصبُّ علينا الزّيتَ
ويرشُّ فوقَنا الملحَ
ليأكلَنا
ونحنُ نأنسُ إليهِ
نحبُّ حكاياهُ
تتغلغلُ في صدرِهِ
ليحمينا من الحياةِ
ومتعةِ الحبّ
الموتُ هَدِيَّةٌ قيّمةٌ
مِنَ العالمِ المتحضّرِ
لسوريّة.*
إسطنبول
* تعارف..
أشكرُ اللهَ كثيراً
لأنَّهُ خلقَني في عصرٍ أنتِ فيهِ
ومنحَني فرصةَ أنْ أرى صورتَكِ
وأنْ أعرفَ اسمَكِ
وأتعرَّفَ عليكِ
حتّى وإنْ كانَ عَنْ بُعدٍ
المهمُّ أنَّنا نعيشُ في عالمٍ واحدٍ
وعلى أرضٍ واحدةٍ
لا تهمُّ المسافاتُ الفاصلةُ
طالما الشّمسُ تنيرُ لِكِلَينَا
والقمرُ ذاتُهُ يطلُّ علينا
وقد نبتلُّ من ذاتِ المطرِ
شكراً لله الّذي أعطانا
موهبةَ الكتابةِ
هي سببُ تعارفِنا
حيثُ بإمكانِنا التّواصلُ
كتابةً أو صوتاً
وحتَّى صورةً
ونتحدّثُ في كافّةِ الأمورِ
ونعربُ عن تفاهمنا
بل وعن تفاهمنا
بل وعن إعجابٍ
وصلَ إلى حدِّ العشقِ
بدَلَ أن أندبَ حظِّي
وأشعرَ بالحزنِ
لأنَّ اللقاءَ مستحيلُ
أعلنُ عن غبطتي
وفرحي الهائلِ
المهمُّ
كانَ تعارفُنا
ماذا لو خلقنا اللهُ
كلٌّ في زمنٍ؟!
ماذا لو كانَ الواحدُ منَّا
لا تعنيهِ الكتابَةُ؟!
وماذا لو كنّا في زمنٍ
لم تتطوّر فيهِ الاتّصالاتُ
هل كنّا تعارفنا؟!*
إسطنبول
* أنتِ..
أنا عندما أقولُ أحبُّكِ
أعني أحبُّ كلَّ البشرِ
أحبُّ الكونَ كلَّهُ
لأنَّكِ تختزنينَ العَالَمَ
في عينيكِ
وتعطينَ للحياةِ
نكهةَ الرّوعةِ
أنا أعرفُ مَنْ أعطى للوردِ
جمالَهُ وشذاهُ
وأعلمُ مَنْ زَوَّدَ الضَّوءَ
بسرّهِ
وَمَنْ وزَّعَ على النّدى
طُهْرَهُ
وَمَنْ أعارَ للفراشاتِ
أجنحَتَها
وَمَنْ أسبغَ على القمرِ
اسمَهُ
وَمَنْ منحَ للغيمِ
فرصَةَ الرَّحيلِ
وَمَنْ أهدى للنَسمةِ
قامتَهَا
وللصّبحِ رونَقَهُ
أعرفُ
يا حبيبتي أعرفُ
أنتِ
فأنتِ نبعُ الحياةِ
وشرفةُ الفرحةِ
نغمةُ الدّنيا
وسرّ الوجودِ
فَمِنْ قبلِكِ
كانَ الزَّمنُ مشرَّداً
وكانَتِ الأقدارُ عمياءَ
لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ
نَجمَةٌ
ولا كانَ للحبِّ
شَهادةُ ميلادٍ
فأنتِ مَنْ رَوَّضَ الكواكبَ
وَمَنْ سَرَّحَ لِلشَمسِ
ضفائرَها
وأنتِ مَنْ نَثَرَ الكَلامَ
في قلوبِ الشّعراءِ
وَمَنْ كَفكَفَ النَّارَ
عَنِ القلوبِ
وأنتِ
مَنْ أهدى للأرواحِ
مساحاتِها
وللخطواتِ أغانيها
أنا أعرفُ يا حبيبتي
لِماذا المطرُ يهطلُ
والهواءُ يرفرفُ
والفجرُ يبزغُ
أنتِ هكذا ترغَبينَ
وهكذا تشترطينَ
وأنتِ
على قلبي المُتيَّمِ
أشفَقْتِ
لكِ الحبُّ على سعتِهِ
لكِ الحنينُ
بكلِّ ما يحملُ
ولكِ قصائدي
تتظلّلُ فيكِ
وأحتمي أنا بأصابعِكِ
مِنَ الأوجاعِ
والموتِ.*
إسطنبول
* رَملُ الدَّمعِ..
ألوذُ بدمعتي
أندسُّ في صدرِها
أدفئُ ارتعاشي من نبضِها
أرضعُ البسمةَ من حلمتِها
وأودِّعُ في راحتَيها آهاتي
أمشِّطُ ضفائرَ الهمساتِ
عَلِّي أتنشَّقُ شهقَةً
أذوبُ في رحابِ الضَّوءِ
وأهفو إلى حُلُمٍ يُراودُنِي
كُلَّما احتطَبَنِي الشَّوقُ
ولملَمَ أوردتي من يباسِ الحنينِ
كانتْ ترفرفُ في دهشةِ النّدى
وتمخرُ عبابَ الَّسّديمِ
تبحثُ عنِّي بينَ غبارِ الطَّلعِ
فراشةٌ من جنونٍ
أتهيَّأُ لملاقاةِ الصَّمتِ
تضجُّ المسافاتُ بشحوبِ الرُّوحِ
وتكونُ قصيدتي راعفةٌ
تنزفُ بالأرجوانِ العليلِ
أيُّها الشَّاخصُ
في جرحِ النَّهارِ
الخائفُ من أشرعتِهِ
متى ترحلُ عنكَ هواجسُكَ
وتعودُ لأغصانِ الهناءِ؟
لِمَ يقتربُ منِّي البحرُ؟
الموجُ سرقَتْهُ السَّمكةُ
السَّمكةُ اصطادَها غيابي
يا هذهِ الأنثى
يا غمامةَ السَّرابِ، اقتربي
سأعطي لِشَفَتَيْكِ
أوجاعَ الخريفِ وامضي
إلى حدودِ الموتِ
لأتوضّأَ من تيهِ العنقِ
وَأُصَلِّي على رملِ الدَّمعِ
صلاةَ العشقِ الغائبِ.*
إسطنبول
* أطلّي..
أطلّي على القلب الذّبيحِ
تورمت نبضاته من تعب اﻻنتظار
ونهشه الصقيع تحت شرفتكِ
ومن تجاهلكِ اعتراه الحزن
وانتاب عزيمته اليأس
وسرت في دمه مرارة الخيبة
وبتُّ أخشى عليه من الجنون
أطلّي على قلبي المتهافت لعينيكِ
الصادح بأغنيات الشوق إليكِ
والعاتب عليكِ من هذا التجاهل!!
انهارت روحه وهي تشرئب لبزوغكِ
وبكت عليه الليالي وثواني الانتظار
أطلّي عليه
فقد هدّهُ الوهن
ومازال ينتظر.*
إسطنبول
* أَصَابِعُ الرُّكامِ..
يا لهذا القلبُ!!!
كم عليهِ أن يغتربَ؟!
وأن يمضغَ أحجارَ الانتظارِ
أكلَتْهُ رمالُ الاحتراقِ
وعصفَتْ به مسافاتُ الخَيالِ
كَم لَهُ وهو يحبو
على قارعاتِ الجّراحِ؟!
في صوتِهِ ندوبُ نارٍ
أراهُ يجأرُ بعذاباتِ المدى
ويذرفُ براكينَ آهاتٍ
يمضي إلى أبوابِ المُحال
يدقُّ جدرانَ المرارةِ بجنونٍ
هو لا يقوى على ارتداءِ خيبتِهِ
لا يحتملُ قضمَ دمعتِهِ
في حناياهُ الشَّوقُ يمطرُ
وفي أصابعِهِ ركامُ انهيار
يتأجَّجُ الوجعُ في باطنِ أنفاسِهِ
والحُلُمُ يسحلُهُ القنوط
يا وطني
متى أراكَ تتعافى
من أعاصيرِ الانتحار؟!
وتمتدُّ يديكَ إلى رمقِ شيخوختي
وتحنو على سقوطي؟!
عكّازتي تَوْقٌ ورجاء
جثمَ الغولُ على ترابِكَ
واستباحَ قتلَ الأنبياء
أبناءُ جِلدتي استعانوا
على إحراقِ ترابِكَ الضّاوي
بالغرباء!!*
إسطنبول
* مُكَابَدَات..
أَشرَبُ من ظمأِ عَينَيكِ
سَرَابَ اللّقاءِ
أَمِدُّ إليكِ يَدَ الصَّهِيلِ
أُزَاحِمُ لَهفَتِي
لِيَصِلَ إِليكِ اغتِرَابِي
وَتَغفُو في حُضنِكِ
دَمعَتِي
سأخبّئُ في رَاحتَيكِ
عُمري
وَأَضُمُّ حُزنَكِ
بِشغافِ دَمي
أحتاجُ منكِ الفَضَاءَ
لأوزّعَ على موتي
نَبضَكِ
وَسَألتمسُ من عنقِكِ
البحَرَ
لأتركَ مراكبي
تقبضُ على موجكِ
أهيمُ
بِصَحراءِ زَغبِ الرُّوحِ
أُطارحُ شَهقةَ الأوجاعِ
أَتَمدَّدُ فَوقَ بحّةِ الجَّمرِ
لأتنفَّسَ منكِ الدَّربَ
أُهِيلُ على الأُمنِياتِ
جُنُونِي
وَأَعدُو صَوبَ آَهَةٍ
تَنبثقُ من حَنَايَاكِ
أَمتَشقُ رَغَباتِ الجُّرحِ
بِي حَنِينٌ
لأكتبَ على أصابعِكِ
غيومي
بِي مَوتٌ يَتَشَهَّى
رَقصَةَ الخلجَانِ
الهَائِجَةِ
ضيَّعتُ فيكِ فُصُولِي
وَجِهَاتي لاذَت بالفَرارِ
وَحدِي
في حضنِ النَّحِيبِ
ألتمسُ منكِ الليلَ
لأستنيرَ بعطرِكِ
وأطلقُ من قلبي
فَرَاشَاتِ الخَوفِ
تُرَفرِفُ
فَوقَ جَدائلِ الكَلِماتِ
قَصَائدَ مِن مَطَرٍ جَائعٍ
لِعشبِ الشّفاهِ
وَيَكُونُ الرَّعدُ ثملاً
والبرقُ يتخبّطُ الخُطى
لاهثاً على سفوحِ الحنينِ
تتمسَّكُ بيَ النَّسمةُ
يتصيّدُني البوحُ
وَيَعتَلِينِي البُكاءُ
فأرتَمِي
تَحتَ أَقدَامِ الفِراقِ
مُسَوَّراً بالغُربةِ
مُسَمَّراً بالمَوتِ
أكَابِدُ الأَحلَامَ.*
إسطنبول
*حلب سماء من النٍدى..
آهٍ يا حلب
كم من الموت أرادوا إليكِ؟!
وكأنّ ضوءكِ يمقت ظلمتهم!
ويغيظ فيهم غريزة النباح!
يثير فيهم شهوة النذالة!
ويفجر الوحشية في قذارة أرواحهم
حثالة اللصوص هم
أخلاقهم نمت في المزبلة
تكالب عليكِ حقدهم
من كل صوب كشروا عن أنيابهم
لينهشوا حذائكِ يا حلب
يا مدينة يسكنها الله
من بدء الضّوء
والملائكة سيَّجت مبانيكِ بالطّهر
كافر من يوسخ ذرة تراب منكِ
يا أمُّ النُّجومِ وقلاع المجد
باعوكِ لصوصُ الدَّمِ
الخونة أبناء أحشائكِ
الذين رضعوا من حليب الشّهباء
أولاد الشّذوذ الكريه
لكنَّ دمهم كانَ بولاً
وقلبهم حذاء عسكرياً
ووجدانهم زجاجة عرق رخيص
سلموكِ إلى زبائنهم
مقابل كرسي من ورق
ودولة من نخاسة
سيلعنهم التاريخ
وسيهزمون
ونكتب على أسوار قلعتنا
هنا اندحر العملاء
وكلٌ العالم مدان
بصمته القبيح
عن دمارك يا حلب
العالمُ المتحضرِ اشتهى لكِ الموت!
وأخوتنا العرب اعتكفوا
في زريبة الحزن!
وأخوة الإسلام أصابها طرش
لا دمعة ذرفت من أجلكِ
من قلب يملؤه الطهر!
أحزاب تسمّت باسم الله
تقتل أحباب الله
وتدمر قلعة الله
ستهزمون يا أحباب الشّيطان
حلب نار على المعتدين
حلب أبجديّة التّكوين
حلب وردة الإسلام ليوم الدّين
حلب سماء من النّدى
حلب أحرف النسمة
حلب مهجة الفرحة
حلب نضارة الجنة
حلب قصيدة المتنبي
حلب ملامح الشّمس
حلب أنفاس (هنانو)
ستقاوم بعبق أغانيها
وَلَنْ تُهْزَمْ
وَلَنْ تُهْزَمْ
وَلَنْ تُهْزَمْ*
إسطنبول
* مضى قطارُ النّبضِ..
أَفْسحي الطّريق للنسمةِ الشَّائبةِ
كي لا تتعثر
أرادت إلقاء التحية
على روحكِ
قبل أن تمضي لاختناقها
وهنت أجنحة الرّوح
وشاخ نبض القلب
وتجعد وجه السّماء
يتكئ الغيم على حلمي
والمساء يبحث عن قمرٍ شهمٍ
يشدّ من أزرهِ
وانخلعت أضراس النّدى
وتثاقلت خطوات الدّروب
الوردة تشكو ورماً في عطرها
الفراشات تترنح في تلمسها للضوء
ما عادت تنفعُ القبلة
لشفاهٍ تيبّست أغصانها
وأصابعي ما عادت تلمس القصيدة
أكلتنا المسافات من أكتاف لهفتنا
وطير الموت نحونا
أسراب الاحتضان
ضيعنا العمر
مابين مد التمني وجزر العويل
أحرقنا شغاف القلب بالانتظار المقيت
لم نذق من الحب إلّا اسوداده
ولدنا في لجة الموت الرخيم
الصبر ارتكب جرائمه
بحق ما نهفو إليه من فرح ولذة
انزلق بنا العمر في وحل الخيبة
وأنتِ
لم تحسمي الأمر بعد
صوتي كان يأتيكِ مشبعاً بناره
تنفخت أوداج قلبي
وتهشمت بسمتي خلف نافذتكِ
أنتِ
من أهرقت شبق الوميض
أضعتِ على حبنا
فرحة الحياةِ
جهزي كفنا للحلم
وانتظري.*
إسطنبول
* الحاقِدُ..
يقيناً أنَّكَ ستثمرُ
وتَتَفَتَّحُ أوراقُ قلبِكَ
وينمو الضَّوءُ في وريدِكَ
تأتيكَ الفراشاتُ هائماتٍ
يرفرفْنَ بجناحِ الفرحةِ
يغتسلْنَ بشهدِ طيبِكَ
ويرسمُ لَكَ المدى
ما يليقُ بكَ من فضاءٍ
ومن غيومٍ ترشفُ النَّدى بغبطةٍ
من حقولِ راحتَيْكَ
قميءٌ من حاولَ رجمَ
صدى أوتارِكَ
يقفُ عندَ البابِ مرتاباً
يشتمُّ ظلِّ دربِكَ
غيرتُهُ أكلتْ باطنَ نعلِكَ
أنتَ السَّماءُ
وهو القَزَمُ المقدَّدُ
لا تُعِرْهُ اهتمامَكَ
سيأكلُهُ علقُ الصّدأِ
أنتَ نورُ الشَّذى
أينعَتْ في غصنِ الكبرياءِ
حاسدُكَ مسجّى
تحتَ بلاطِ الذّلِّ
لَنْ تعبرَ أذيالُ السّموِّ عندَكَ
مهما انتفخَتْ أوداجُهُ بالنّباحِ
هو خُلِقَ
ليتابعَ مجداً سكنَ خطواتِكَ
هو رجسُ الشَّيطانِ ينمو
في اختناقِهِ من شرِّ حسدِهِ
لا تلتفتْ لانهيارِ الخساسَةِ فيهِ
الفضاءُ لَكَ وحدَكَ يتلألأُ
وهو في سراديبِ القيءِ المقزّزِ
حاصرَهُ كرهُهُ الأفَّاكُ
وانسَكَبَ فوقَ حقدِهِ الآسنِ
رمالُ طهرِكَ الوضّاء
قد حاولَ أن يثلّمَ حروفَكَ
ويعرقلَ ما في قصيدتِكَ من خَلقٍ
قَزَمٌ تطاولَ على الآفاقِ ، انكسرَ
لا تُعِرهُ احتقارَكَ
كي لا تُعلي من شأنِهِ
كُثُرٌ هُم مثلهِ بهذا المستوى
شَنُّوا عليكَ الحربَ بضراوةٍ
يعملونَ على اغتيالِ الفتنةِ
في بهاءِ أناشيدِكَ
وما الكونُ كلُّ هذا الكونِ
إلّا بعضاً من رواةِ شِعرِكَ
فَمَنْ يكونُ هذا الإمّعيُّ اللا اسمَا يحملُهُ؟!
أرادَ تحريضَ العواءِ على ضوءِ بوحِكَ
سيسخرُ منهُ الدُّودُ
يومَ ينهضُ قبالَتَهُ
وتبصقُ عليهِ الدّفاترُ
لحظةَ يريدُ الكتابةَ ضدَّكَ
وتبترُ لهُ الأقلامُ أصابعَهُ الجلفةَ
لو فكَّرَ أنْ يتطرّقَ إليكَ
شاعرُ الشّعراءِ أنتَ
مهما انفلقَ الخصاةُ
صديقُ الأنبياءِ
مهما كفروا بنقاءِ سريرتِكَ
سيختبئُ التَّاريخُ تحتَ عباءتِكَ
ويتعلَّقُ المجدُ بركابِ موكبِكَ
يا شاعرَ النَّسمةِ الحبلى بالنّدى
يا واهبَ المعنى للمبنى
يا عفيفَ البَوْحِ
يا ثملَ الرُّوحِ
لا تذكرِ اسمَهُ
دَعِ الاحتقارَ يزدريهِ
حتّى لا يذكرَهُ التّاريخُ
التَّاريخُ
بعضٌ ممَّا يمجّدونَ اسمَكَ
ويحفظونَ أشعارَكَ.*
إسطنبول
* الخلاص الجميل..
لهذا المدى النّابت في حنيني
للجرح المفتوح على قهري
العابث في أجنحة العويل
والطافح بأوجاع البرق
أقدم اعتذار الموت
عن تأخره بعض الوقت
لأسباب طارئة
لكنه سيجيء كما أخبرني
محملا بالهدايا والأماني
وبشائر السعادة الأبدية
موت تتفتح له الورود
تستقبله الفراشات بالزّغاريد
وتلوح له الصّبايا بمناديل الاغتصاب
الموت خلاصنا مّما نحن فيه
من عفن الرّوح وبكتيريا القلب
وهستيريا الكره لأحبتنا الرائعين
أقبل أيها الموت الجميل
فنحن نناديك
نوافذنا مشرعة عليك
سنغفوا في حضنك الدافئ
دون خوف من غدر أو خيانة
واضح أنت كزهرة الياسمين
لا تضمر لنا عكس ما تقول
خلاصنا أنت من وهج الاختناق
لا تطمع بأشيائنا وأثمالنا
تأخذنا عراة وأنت تستر عورات القبح
نحب فيك صمتك الأزلي
وموسيقا الفناء العذب
لا ضجيج في حضرتك
لا شكوى من آلام الروح
سنمشي إليك إن تأخرت
سندق بابك بقوة الحياة فينا
نعترف أنٌا نشتاق إليك
حين نتعب من هذه الدنيا
دنيا لعينة تلبستنا
وراحت تمتص وقتنا بشراهة
يا الله ما أحلاك
يوم أهديت لنا الموت
ودللته على عناويننا واحداً واحداً
ما أعدلك
لحظة أن زودته بأسمائنا
كي لا ينسى أحداً منا
ويحل عليه ظلم رهيب
سينقذنا من آلام الحب اللئيمة
ويحررنا من نيران الأشواق
ومن سعيرها الفج المقيت
مرحى لك يا موت
وأهلا بك في أيّ وقت.*
إسطنبول
* سأمضي..
سأمضي..
لن يلتفت قلبي خلفه
سيرافقني بصمت
يذرف نبضه طوال الارتحال
لن يجرؤ أن يحتد
أو يُعصي قراراً لي
قلت اكتفيت وانتهيت
لا رجعة لنا إليكِ
قرار حاسم وأبدي
سأزهق روحي إن هفت لحبكِ
وسأكوي أشواقي بالنار
إن كوتني أو داهمتني
لا
هذه المرة ليست مثل كل المرات
هي كلمة قاطعة
لا رجعة عنها
سأخنق جوارحي إن بكت
وسأحرق أحرفي
لو راودتني القصيدة
مهما أرسلتِ خلفي من حنين
لن أعود ولن أضعف
سأمرغ اشتهائي بوحل الموت
من هنا من موقع جرحي
واحتضاري
أعلن
من خلال منبر الجنون
انفكاك قلبي عن مسار فتنتكِ
واستقلال روحي عن هيمنة عيونكِ
وحدي سأبقى
سأهدم جسور الذكريات
لن أداعب وردة كي لا تذكرني بكِ
لن أصادق فراشة كي لا أضعف
لن أمسد لنسمة خائفة كي لا أحن
وسأعرض عن أي ابتسامة تصادفني
حتى القمر لن أعيره اهتمامي
وسأغض طرفي عن نجمة تلوح لي
كل ما يتعلق بكِ سأقطعه
من عطر إلى شعر أو موسيقى
سأعيش في مكان لا يطاله الندى
سأهجر الغيم والمطر الشفيف
لن أفتح للبحر نافذة تطل عليّ
ولن أسمح للموج
أن يستحم بدمي
سأمكث وسط الرمل
إن كان العشب سيثير هيامي
سأوقف عمري خلف الغياب
كي لا تطلين على ليلي
سأمنع الليل على الإتيان بسيرتكِ
وإن نمت سأكبل أحلامي بالسرير
كي لا تفرّ نحوكِ
سأمسك عنك قبلات ضوئي
وتنهدات أصابعي
وشهوة أنفاسي
سأحرم دربكِ عن خطاي
لن أعانق شجر الكرز ما حييت
أو أحضن سحابة بيضاء ناعمة الملمس
فكي عن عنقي شذى طيبكِ
ولا تقتربي من أوجاعي
عليّ أن أصحو من هذا الهلاك
عليّ أن أنجو من هيمنة سطوعكِ
أنتِ بلاء القلب
شرخ الذات الوديعة
جنية الانهيار المباغت
أنوثتكِ مصيدة للروح
وطعم شهي للقلب
ولكني
أعلنت عن تمردي
من طغيانكِ على هوايّ
كنت أحبكِ أكثر مما ينبغي
وأخلصت أكثر مما يجب
طرقت بابكِ كثيرا حتى انهزمت
وأنتِ
لم تستجيبي
فلا تغتري على قلب
غنّى لكِ طويلاً
حتى استحال نبضه
إلى جمر من دمع.*
إسطنبول
* الخائن..
لا تكترث
أنتَ من سيبقى
سيلثم الغيم أصابعكَ
وينحني لكَ الزمان
ويتمسح بكَ الوقت
كقطة جائعة
وينسكب الضوء تحت ظلكَ
في الأفق مداسكَ
تأتيكَ الدروب خانعات
من عند قدميكَ تبدأ
لسماء أنتَ ترسمها
ومدى يقف تحت شرفتكَ
لا تكترث
مهما أوجعكَ هذا التعجرف
أنتَ سيد المستقبل
والخائن رماد التاريخ
حلق فوق آلام روحكَ
رفرف بجناحيكَ فوق الانتصار
لكَ أرجوحة بين النجوم
وللخائن تراب الخيبة
وعفن العتمة الباكية
في عينيكَ نور القصائد
وبساتين الكبرياء
والخائن أصغر من أن يذكر
لكَ المجد وحدكَ
وله مرارة الندم
تضج من حولكَ رائحة الياسمين
وتفوح منه رائحة الرذيلة
من حقكَ وحدكَ
أن تغني لكَ الفراشات
وأن يطهر الندى
شحوب امتعاضكَ
ولكَ حفيف الموج
يوم تدنو صواريكَ
لكَ أمواج الفيء
ترانيم السديم
تكايا الضوء الجليل
وعرش الأقحوان الباذخ
لا تكترث
بمن يعض غبار نعليكَ
أنتَ سيد الهناء والهديل
والخائن
ستذروه الرياح نشارة خشب
في وسعكَ
أن تأمر الأشجار أن تبول عليه
وتبصق عليه الجنادب
وتسخر منه الأرانب
وجه الكون أنتَ
صدر الهمس الوارف بالعذوبة
امتشاق النسمة لفتنتها
صوت الهلال عند الفجر
لا تكترث
إن عوا على قصائدكَ أحمق
مزنراً بغبائه وقواعد النحو
والمتسربل بالإملاء والخطابة
هذا الكائن لا يصلح
أن تسمع باسمه
أن ترى وجهه
أن تقف عنده.*
إسطنبول
* لمَ نتحارب نحنُ؟!
أتحسّس عتمة الجرح
وعمق الدّمعة في الرّوح
وآثار الموت الذي
ألمّ بنهوضي
لا أبصر بحنايايّ الدّم
إلّا بعضاً من سقوطي
وتحشرجات الضّوء في لغتي
الضّحكة في الرّكن منزوية
تحمل آثار التّعذيب
والحلم مصلوب على القضبان
وضعوا الماء على المذبح
واحتبسوا السماء في كيسٍ
الشمس تنوح في القبو
والموت يصدح في الممرات
درج يهبط الأنفاس
ويصعده العسكر
حذاء بحجم النصر يدعس آمالنا
وفوق الجثث
يرفرف علم السلام
القاتل أخي
والقتيل أخي
والاثنان كانا يريدان قتلي
ثأراً لحبي لهما
الحب مكروه عندنا ومطارد
الورد حطب القتلة
النّسمة كلب مسعور
حتّى البسمة
تثير حنق الباغي
مدينتنا متعفنة الطّرقات
أكل الرّصاص مبانيها
انتهك ضوء نوافذها
وصارت جناحاتها مسبية
مطلوب مننا الاقتتال
على مقبرة لن ندفن فيها
سنموت ولن ندري
لماذا كنا نتحارب؟!*
إسطنبول
* نصيحة كاذبة..
لا دخل لي بين قلبي وكلماتكِ
فأنا أكثر من مرٌة أخبرتكِ
قلبي لا يمثلني
لست مسؤولاً عن طيشه وجنونه
هو لا يقدّر أو لا يفكر
بما أنا فيه أو عليه
لا تكثري عليّ باللوم ذات يوم
قد يذهب معكِ ويتركني
ويمكن أن يزين لك الدّنيا
ويفرش لك الحنين بين أحضانه
ثم يستفيق على وجع
أنتِ لا ترغبيه
قلبي مشكلتي يا صبيّة
يحنّ للصبا والانعتاق
فلا تتركي له منفذا
ليتسلَّل إلى مهجتكِ
أخاف عليكِ منه
وأشفق على عطركِ السَّاذج
هو لا يكذب
لكنه في وهم
لا يخدع
لكنه في عجز
يحبّكِ لكنه متهوّر
غارق في حماقته
أنصحكِ بالابتعاد مهما استطعت
قد يسرق من قلبكِ الشّوق
ومن روحكِ القبلات
وهمس أهدابكِ
لا تشجعيه
إن إندسّ تحت جناحيكِ
ماكر هو يتقن فنّ الشّكوى
لينال قبلة من عطفكِ
يدخلكِ بألفِ بابٍ
من أبواب الوله واللهفة
ويسيج لكِ السراب من الأماني
يكشف لكِ عن ظمأ باكٍ
ليقترب من ينابيع الحنان
برّأت نفسي منه
قدمت لقلبكِ النصح
ما عدت مسؤولاً
عمّا سيحدث سيدتي
وأنتِ الشاهدة.*
إسطنبول
* ذات الشّعر الشّائبِ..
مازال الحبّ يناديني
وأنا على عتبات الموت
قلبي لا يفهم بالمنطق
لا يعترف بالأزمنة
وروحي تركض خلفه
كفراشة أعماها الضّوء
الحبّ مزروع بأنفاسي
شجرة سامقة من نور
لا يحنيها إلّا الموت
سأظل أحبّكِ يا فتنة
مهما شاخت أوجاعي
وأتمنى في كل نسمة
قبلة منكِ يا وردة
عنقكِ يناشد جنوني
أن لا يبخل عليه بالنّار
وأنا أهمس لعينيكِ
بعديّ مازلتُ قوياً
لأحملكِ على أكتاف المدى
نستلقي فوق فرحتنا
والدنيا أصغر من رغبتنا
ما عليها إلّا أن تنصاع لنا
فنحن فرسان الهوى
لا يقوى علينا الزمن
سأظل أحبكِ يا حبي
حتى الكون يتوسع
ويحمل الموت عكازته ويرحل
لا نريد موتاً يا موت
إلّا بالعشق واللهفة
سنطرد من على الأرض الوقت
لا زمن يحسب على الحب
ما زال الحب يناديني
سأمضي إليه بشيخوختي
أحمل بنبضي قصيدة
أتلوها على تجاعيد حزنكِ
حبيبتي..
ذات الشعر الشائب.*
إسطنبول
* لا تقتلوا حلب..
صوّبوا بنادقكُم نحوي
واتركوا حلبَ
حبيبتي هناكَ داهمَها الخطرُ
اقتلوني ألفَ مرّةٍ
ولا تهدموا حجراً واحداً
أحجارُها من الجنٌة لو تعرفون
أرضُها أشجارُها سكّانُها
أحبّةُ اللهِ على الأرضِ
شوارعُها من ندى
ماؤها من رحيقِ السّماءِ
عتمتُها نورٌ
رائحتُها خبزٌ
سكّانُها نسماتُ الصّباحِ
حلبُ
عروسُ المدى العاشقِ
يغنّي لها الشفقُ
كلّما جَنّت فراشاتُ الرّبيعِ
لا تشبهُها المدائنُ الخانقةُ
فيها من السّحر الكثيرُ
تنحني لها العواصمُ والدّروبُ
فيها القمرُ أحلى وأكبرُ
والصّباحُ أنقى وأبهجُ
حتّى الليلُ يغنّي للعاشقينَ
الهائمينَ في دروبِها
حلبُ
سوسنةُ القلوبِ الحالمةِ
رداءٌ للتّاريخِ والأمجادِ
شعاعُ الأمدِ
جمرُ الأزلِ
نورُ الأزمنةِ
وهجُ الأمكنةِ
صرحُ الحياةِ
فوقَ الرؤى
نبضُ الشّمس
في صدرِ المدى
واحةُ السّلامِ
والأمانِ
واشراقةُ الهدى
لا تقتلوها
هذا انتحارٌ
ستنتحرُ الأرضُ
إن مسّها مكروهٌ
هي جبينُ الكونِ
وبدءُ التّكوينِ
قلبُ السّديمِ
روحُ الله الخالدة.*
إسطنبول
* لا تذهبي عنِّي..
يحزنُني هذا الغياب اللا مبرَّر
ويتعبُني التّفكيرُ فيهِ
لماذا وَلِمَ وما القصدُ؟!
كأنَّكِ تتقصَّدينَهُ!!
يعني تتعَمَّدينَ مضايقتي وإزعاجي!!
لِمَ تقتلينَ الفرحةَ في دمي؟!
ولماذا تصرِّينَ على أن تسبّبي لي القلقَ؟!
هل ترغبينَ باختبارِ مشاعري نحوَكِ؟!
أبعدَ كلِّ هذا الحبِّ تنتابُكِ الشّكوكُ؟!
حقَّاً أنتِ مجنونة يا حبيبتي!
كلُّ الفراشاتِ حفظَتْ اسمَكِ منِّي
كلُّ الورودِ تزيَّنَتْ برائحتِكِ من أجلي
حتّى القمرُ
صارَ يسألُني عن آخرِ قصيدةٍ عنكِ
يا الله!!
يا حبيبتي أَبَعدَكِ
تريدينَ التَّأكّد؟!
اسألي النّسماتِ تكفلني عندَكِ
حلّفي العصافيرَ لَنْ تكذبَ عليكِ
كلّ الجميلاتِ ابتعدنَ عنّي بسبَبِكِ
ماذا تريدينَ أكثرَ؟!
من عاشقٍ
كتبَ على جناحيَ الهمسةِ اسمَكِ!
ورسمَ على صدرِ الضّوءِ وجهَكِ!
وحفَرَ في أخاديدِ الغيمِ أحبُّكِ!
تحسدُكِ النّجومُ مِنْ عليائِها
حينَ تراني أسهرُ
مشغولَ البالِ عليكِ
وتنتابُ قصيدتي الغيرةُ
حينَ أكتبُ عنكِ
دفاتري امتلأتْ بالشّوقِ والحنينِ
وقلمي
عَنْ ظهرِ قلبٍ حفظَ أوصافَكِ
حتّى طاولةُ الكتابةِ
كَمْ شمعتُها وهي تغبطُكِ
ماذا عليَّ أنْ أفعلَ حبيبتي أكثرَ؟!
لتصدّقيني وتتأكّدي وتطمئنّي
أقسمُ لَكِ بعينيكِ أحبُّ عينيكِ
أقسمُ لكِ بأنفاسِكِ
إنِّي أعشقُ أنفاسَكِ
ما عسايَ أن أقولَ لمجنونةٍ مثلِكِ؟!
آلَمْتِ قلبي
بهذهِ التّصرّفاتِ الصّبيانيّةِ
وأبكيتِ روحي
من شدّةِ ما عتَبْتُ عليكِ
الحبُّ جاءَ ليعتذرَ منِّي
والليلُ طيَّبَ خاطري بكلمتينِ
قالَ عنكِ:
- ما زلتِ صغيرةٌ
ما زلتِ تجهلينَ إشاراتِ الحبِّ الواضحةَ
لَنْ أقبلَ منكِ اعتذاراً
إلَّا بقبلةٍ من وردٍ
وتَتَأسَّفِينَ لقلبي حينَ يضمُّكِ
سجائِري أحرقَها الشَّوقُ
وِسادتي أغرَقَتْ وجهي بدموعِها
وغرفتي تقفُ عندَ الشّبّاكِ تنتحبُ
فنجانُ قهوتي انتحرَ فيهِ السُّكّرُ
وأصابعي تخمشُ وجهَ الوقتِ
دَرَجُ البنايةِ ينتظرُ قدومَكِ
وملَّ البابُ من وقفتِهِ
مفتوحاً على مِصراعَيْهِ
تعالي ضاقَ الهواءُ ذرعاً
أقبلي فَقَدْ شحبَ وجهُ المرايا
حتّى صنبورُ الماءِ
عطشَ وجفَّ ريقُهُ
تأكّدي أنْ لا حبَّ إلَّا حبُّكِ
ولا عشقَ في الدّنيا من دونِكِ
وحقِّ الهوى كلّي انتظارٌ
جَنَّتْ لهفتي وأصابَها المشيبُ
والحُلُمُ عندي تقوّسَ ظهرُهُ
ما عُدْتُ أحتملُ هذا الدّلالَ
محالٌ أنْ يكفَّ عندي السؤالُ
هَلمّي نعوّضُ ما فاتَنا من عِناقٍ
اقتربي
صارَ وقتُ الوصالِ
لا تذهبي عنِّي
بحقِّ هذا الجمال.*
إسطنبول
* الحسود..
يقيناً أنّكَ ستثمرُ
وتتفتّحُ أوراقُ قلبِكَ
وينمو الضّوءُ في وريدِكَ
تأتيكَ الفراشاتُ هائماتٍ
يرفرفنَ بجناحِ الفرحةِ
يغتسلنَ بشهدِ طيبِكَ
ويرسمُ لكَ المدى
ما يليقُ بِكَ من فضاءٍ
ومن غيومٍ ترشفُ النّدى بغبطةٍ
من حقولِ راحتَيكَ
قميءٌ مَن حاولَ رجمَ
صدى أوتارِكَ
يقفُ عندَ البابِ مرتاباً
يَشتَمُ ظلَّ دربِكَ
غيرتُهُ أكلَت باطِنَ نعلِكَ
أنتَ السّماءُ
وهو القزمُ المقدَّدُ
لا تُعِرهُ اهتمامَكَ
سيأكلُهُ عَلَقُ الصّدأِ
أنتَ نورُ الشّذى
أينعتَ في غصنِ الكبرياءِ
حاسدُكَ مسجّى
تحتَ بلاطِ الذّلِ
لن تغبرَّ أذيالُ السّموِّ عندَكَ
مهما انتفخت أوداجُهُ بالنّباحِ
هو خُلِقَ
ليتابعَ مجداً سكنَ خطواتِكَ
هو رجسُ الشّيطانِ ينمو
في اختناقِهِ من شرِّ حسدِهِ
لا تلتفت لانهيارِ الخساسَةِ فيه
الفضاءُ لَكَ وحدَكَ يتلألأُ
وهو في سراديبِ القَيءِ المقزّزِ
حاصرَهُ كرهُهُ الأفّاكُ
وانسكبَ فوقَ حقدِهِ الآسنِ
رمالُ طهرِكَ الوضّاء
قد حاولَ أن يلثمَ حروفَكَ
ويعرقلَ ما في قصيدتِكَ من خلق
قزمٌ تطاولَ على الآفاقِ و انكسر
لا تُعِرهُ احتقارَكَ
كي لا تعلي شأنَهُ
كُثُرُ هم مثلَهُ بهذا المستوى
شنّوا عليكَ الحربَ بضراوةٍ
يعملونَ على إغتيالِ الفتنةِ
في بهاءِ أناشيدِكَ
وما الكونُ كلًُّ هذا الكونِ
إلاّ بعضاً من رواةِ شِعرِكَ
فَمَن يكونُ هذا الإمَّعيّ اللا اسمَ يحمله
أرادَ تحريضَ العواءِ على ضوءِ بوحِكَ
سيسخرُ منه الدّودُ
يومَ ينهضُ قبالتَهُ
وتبصقُ عليهِ الدّفاترُ
لحظةَ يريدُ الكتابةَ ضِدَّكَ
وتبترُ لهُ الأقلامُ أصابعَهُ الجّلفةَ
لو فكَّرَ أن يتطرّقَ إليكَ
شاعرُ الشُّعراءِ أنتَ
مهما انفلقَ الخُصاةُ
صديقُ الأنبياءِ
مهما كفروا بنقاءِ سريرتِكَ
سيختبىءُ التّاريخُ تحتَ عباءتِكَ
ويتعلَّقُ المجدُ بركابِ موكبِكَ
يا شاعرَ النّسمةِ الحبلى بالنّدى
يا واهبَ المعنى للمبنى
يا عفيفَ البَوحِ
يا ثملَ الروحِ
لا تذكرِ اسمَهُ
دَعِ الاحتقارَ يزدريهِ
حتّى لا يذكرَهُ التّاريخُ
التاريخ
بعضٌ ممّا يمجّدونَ اسمَكَ
ويحفظونَ أشعارَكَ.*
إسطنبول
* تَأخَّـرَتْ..
تَأخَّرَتْ عَنِّي القصيدَةُ
وعِندي كلامٌ كثيرٌ
سأبثُّـهُ في شفتَيها
وفي داخلي نـارٌ شعثاءُ
سأشعِلُ بها أمواجَها
وفي أصابعي شهيقٌ
سأنفثهُ على لواعجِ اخضرارِها
وعندي بكاءٌ طويلٌ
سأخفيهِ وراءَ ستائرِها
وحنينٌ لا يهدأُ
سأنثرُهُ لعصافيرِها
عندي موتٌ قديمٌ
سأدفنُهُ تحتَ حروفِها
وفضاءٌ متصدَّعُ النَّدى
سأُخِيطُهُ برؤاها
وسرابٌ طائشٌ
سأملؤهُ من رحيقها
عندي قمرٌ يحترقُ
في سمـاءِ خيبتي
وأشجارٌ تنزحُ عن تُرابي
وأنهُرٌ تفـرُّ من سهوبي
عندي خُطَايَ تَتَعَثَّرُ بالرَّحيلِ
وصوتي يتلكَّأُ بالنهوضِ
عندي وطنٌ يحشرني في العراءِ
ويُوصِدُ عليَّ الحُلُـمَ.*
إسطنبول
* شبابيك الهراء..
يتعقّبني فحيحُ الغُبارِ
يشرخُ ظلّي
ويغدرُ بقامةِ أنفاسي
ويلوّثُ ضحكتي
بصريرِ القتامةِ
يصفّرُ في هواجسي
ويتهدّلُ الخرابُ
على بحّةِ خُطايَ
أستنشقُ دَمَ الرّؤى
وألجأُ لأسوارِ الفاجعةِ
فيحاصرُني ركامُ الشّتاتِ
أبحثُ في جدارِ الذّكرياتِ
عن شقوقِ المنى
وأذرفُ فضاءً من رحيلٍ
وتسبقُني سيوفُ الاختناقِ
تقصمُ غيومَ اللَّهفةِ
على بلدٍ يسلخُ ضجيجَهُ
مشيداً بأنقاضِ الهلاكِ
وأرى موتاً يمشّطُ الأرصفةَ
قذائفَ تحاورُ الاستغاثاتِ
ونساءً يغتصبهنَّ العدمُ
صرخات أطفالٍ ارتطمَت بالانفجاراتِ
وأنينَ رجالٍ أخمدَها اللظى
أطرقُ أبوابَ الشّهقةِ
أريدُ أدراجَ الاختباءِ
سأختفي في قعرِ الارتجافِ
أبحثُ عن سلالمِ الهزيمةِ
وشبابيكِ الهراء.*
إسطنبول
*هزيع الأمنيات..
أتظلّلُ بالدّهشةِ
يتقدّمني انهزامي
ويتبعني عواء السٌديم
أتأمّلُ أوجاع التّراب
كم حلماً مرّ من فوقكَ؟!
وكم دمعةً هطلت على صدركَ؟!
يا دربَ حيرتي
خذني إلى هناكَ
عرّج على وجعِ الرّيحِ
نرمّمُ ما تبقى من هزيعِ الأمنياتِ
ونحملُ غيوم السّماء زوادة
نقتات عليها كلّما
أشعلنا الشّوق وتهنا
في براري الجوعِ
أتوغّلُ بشهيقِ السّراب
أكفكفُ اختناقي عنّي
وأصرخُ ملءَ وحشتي
وأنا أجرجرُ عربة الصّمتِ
المجلجلة
يا هذا الطّالعُ من موتي
والقادمُ من عمقِ الظّنون
خذني..
إلى شفقِ الهروبِ
خبئني..
في سردابِ المجيء
لي فوقَ هذا الانحدار
بيتٌ
تركتُ عمري يسند جدرانه
وعلّقتُ قامتي على مشجبه
ركنتُ روحي قرب الطّاولة
وأصابعي..
تخطُّ على المرآةِ القصيدة
نوافذ بيتي
تطلٌ على الضّحكةِ
والضحكةُ تعرف وجهي
إذا ما التقينا
خذني يا درب ولا تبطئ
عجل بلوعتي فقد هرمتُ
سابق صليلَ العتمة
صهيلَ الموت قادم
الرملُ يشرب أنفاسي
ويعضُّ دمي الحنين
هيا يا ملح الدّمع
رتّب للوقتِ ملاذاً
سترفّرف مناديلَ الضّوء
من الجرحِ سيطلّ الورد
من الخوفِ سيبزغُ سلام
على الحلمِ أن يمتدّ
ويعرّش فوقَ الدّم
ستثمرُ أشجار الشّهداء
وتورقُ صرخات الجّرحى
وستمطرُ أهازيج الأرامل اليتامى.*
إسطنبول
* برزخ اللهيب..
سيرعى قلبي أعشاب راحتيكِ
ويثغو عند الأصابع
عساكِ تمسّدين غرّته
وتحني على فضاء دمعته
تقشّرين الاحتراق
عن لثغة نبضه
ينهض في دمي أفق
معافى الأجنحة
ترفرف الشمس حول عنقكِ
ليسبح الضّوء في بحر
الارتواء الماطر
ويتصدّى لمكر الصّواعق
سأعانق لحاء النّدى
اللامع على زنديكِ
وأشمّ ضفائر الهسيس
يا بوح تنهدات الوميض
وسأطلّ من خلال همسكِ
على ظلال اللظى
لأطفئ درب انتشاري
وألتقط من بحور الشفتين
فيروز التيه
والمسافات الغامضة
يا ريعان النسمة الحالمة
سأخبئ إرتعاف فجري
المتنامي
في سهوب صدركِ
وأشعل عواصف التوحد
مع جسد الرّعب اللائب
وسأترك للسماء
مهمّة احتوائنا
وأطلب من الغيم
أن يوصد علينا الباب
ونحيا..
في برزخ اللهب.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
فهرس:
=======================
01 - مقدمة : محمد بن يوسف كرزون
02 - لو لاكِ
03 - عاصفة
04 - حبال الخديعة
05 - وجع الحنين
06 - وهج السراب
07 - حبل المسد
08 - الهديّة
09 - تعارف
10 - أنتِ
11 - رمل الدمع
12 - أطلّي
13 - أصابع الركام
14 - مكابدات
15 - حلب سماء من ندى
16 - مضى قطار النبض
17 - الحاقد
18 - الخلاص الجميل
19 - سأمضي
20 - الخائن
21 - لم نحارب نحن؟
22 - نصيحة كاذبة
23 - ذات الشعر الشايب
24 - لا تقتلوا حلب
25 - لا تذهبي عنّي
26 - الحسود
27 - تأخرتَ
28 - شبابيك الهراء
29 - هزيع الأمنيات
30 - برزخ اللهيب


--------------------------------------------
مصطفى الحاج حسين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى