أحمد شفيق حلمي - الوفاء المذبوح..!

(كيف السبيل إلى البقاء على العهد، وهو على قيد الحياة، وحبيبته رهينة القبور؟ لا يجب أن يلحق بها، أن يموت لكي يتم اللقاء الذي لا فراق بعده؟ نعم يجب أن يلحق بها. فهناك السعادة الأبدية إنه طاهر نقي، وهي طاهرة نقية، إنها تنتظره وتدعوه إليها)

إيفان تورجنيف




مالي أراك يا وحيد ساهماً، وقد علت وجهك الغيوم. . . غيوم نفسك الحائرة في الحياة. . وقد سرحت الطرف، ترقب الشمس الغاربة، تتهادى على صفحة الأمواه، ناشرة غلالتها القرمزية على صفحة البحر الخضم، تودع الحياة. . . فتنحدر وجلة نحو المجهول، حتى احتضنتها الأمواج، فطوتها مع أشلائها المتناثرة ثم ولت نحو المغيب. . .

هل لفظتك الدنيا، وسئمتك الحياة، ففررت إلى تلك البقعة الجرداء، تنعى الأمل وتبكي الحياة، أم تخاطب النجوم المبعثرة في القبة الزرقاء؟!.

هل جلست هنا، أم منبسط المياه. . . تستمع لحشرة الريح؟ أم تعاتب القدر لقسوته عليك!؟

ألف سؤال أحتوشتني من كل جانب، وعندما قادتني قدماي إلى تلك البقعة الجرداء. . . فوجدته هناك شارداً عليه وجوم، وراحتاه تحملان رأسه الثقيل بالأتراح. . . يجوب بنظرته التائهة عبر البحر، يناشد الأمواج العزاء والسلوى، ويقاسم الريح عويلها الحزين!.

وألفيتني أدق في السكون الساري، والبحر من تحت قدمي، أمواجه تتلاعب، وتندفع إلى بعيد. . . في الصفحة الفسيحة.

وفجأة لمحت أشباحاً انشق عنها البحر، ونفضت عنها ثوبها الأسود الكالح. . . فبدت طيوفاً بيضاء زاهية، حملتني إلى الماضي القريب، وقد خلته بعيداً، لما ناءت به مخيلتي من الخواطر والأفكار. . .

عرفتك يا وحيد أول مرة، طفلاً ساذجاً حلو الشمائل، وهب الله أباك نعمة واسعة، وخيراً عميماً. . . في القصور بين حدب الأب، وحنان الأم كنت، فكانت حياتك كالجدول العذب، يلعب بأنامله السحرية في الفلاة الصادية، فيحيلها مروجاً سندسية نضيرة. . . ويتسرب بين السهول والوديان، عازفاً ألحان المرح، وتراتيل السرور!.

وكذلك أنت يا وحيد. . . كانت حياتك تسير في مواكب الأفراح ترقص وتغني! وكلما أغدقت من ثروتك الطائلة في سبيل الخير. . . زادت، واتسعت، والتف حيالك الناس!؟.

ومضى بك الزمن هادئاً ناعماً إلى مطلع الشباب، فحلقت روحك بعيدا بعيدا أنت وحدك تدري إلى أين!! ثم هامت في اللانهاية. . . تجوب عالم الخيال، تمني نفسك العطش نعيم الحياة، فما فتئت ترتوي من مختلف ينابيعها، وتعطف القبل من ثغرها البسام، إلى أن صبت نفسك إلى الراحة، وهفا قلبك للسكون، وتاقت روحك الهائمة. . . إلى بيت الزوجية الهانئ، فنفضت غبار الماضي، لتستقبل من اصطفتها توأماً لنفسك، وشريكة في الحياة.

وغمرتني النشوة، والطيوف تداعب خيالي، والرؤى تتماوج في شتيت الذكريات، وأحسست بالراحة رانت على روحي. . . عندما تشابكت خيوط الماضي، كأنما لعبت بها أنامل بارعة، سرعان ما أحالتها إلى وجه صبوح عليه إشراقة عذبة ساحرة. . . فانطبعت في خاطري صورة عروسك الحبيب (سهام). ما كان أنظرها! عيناها كسندس تكتسي به الحقول، وشعرها المتهدل على جبينها الوضاح كبدر بين حفيف السحاب، أما صدرها الناهد وجسدها الريان، فمملوءان بسحر مجنون!!.

ما كان أروعها ليلة الزفاف، وهي تخطر إلى جوارك، بين هالة من الفتيات يحملن الشموع والزهور. . . تفتر شفتاها من بسمة حلوة، يرف فيها ما تحس من سعادة وهناء. . . وتلمح في عينيها تأملات حالمة، تحملها سراعاً إلى عشها الجميل، وأملها المنتظر، وبيعها الدائم، وقد نبتت فيه أزاهير من حب ووفاء.

وهنالك بين أكاليل الزهور. . . جلست وعلى رأسها تاج من زهور الأقحوان، محلى بالجيراينوم ومرصع بالفيولد. . . كانت في نبل الملائكة، تحوطها حالة من نور. . . نور يخطف الأبصار. . . قد تسربلت خيوطه البهية من بين أهدابها الحالمة!.

وكانت الليلة حلماً رائعاً، رقصت فيه الملائكة على أنغام الجازبند فتمايلت نشوانة فرحى. . . ترف حولها في المكان. . . آهات حري أرسلها صدرك يا صاحبي - علها تريد أن ترقص أيضاً!! - يحملها الأثير الهادئ اللين إلى ابتسامة الأمل، ونفحة الله. . . سهام.

وعلى دعاء الفجر لأله الوجود، حملتك وعروسك نسائم الصباح الندية، إلى عشكما الآمن، تشيعكما قلوب العذارى، وقد غبن في حلم جميل يتمنين أن تدب فيه الحياة!.

ها هو الليل قد أوشك على الرحيل، وها هو - أنا - أجلس إليك بعد ذلك الحلم الطويل. . . فهلا فككت كربتي يا وحيد، فتبسط على نفسك الحزينة الغارقة في الأتراح. . . وتقص علي ما وراء تلك العشرات البيض من أحداث! إنها تتسلل في شعرك الفاحم كنور الصبح يتلاشى أمامه الظلام!.

- أواه يا خليل. . . أن جراحات قلبي لم تندمل، وروحي الشريد. . . لم يستقر بعد!. . .

أنت تذكر ليلة العرس يا خليل، وقد حملتني وعروسي عربة انطلقت إلى النزل الفخيم، الذي اخترته للإقامة. . .؟

وصلنا هناك، والى غرفة تشعرك بالبهجة، تطل على مروج خضراء، ومياه جارية في سهل فسيح. . . حملنا أمتعتنا.

إني أذكر ساعة الوصول، ومدير الفندق يقودنا إلى الغرفة البهيجة، ثم يصفق خلفه الباب، وهو يتمنى لنا إقامة هانئة. . .

قلت لزوجتي وأنا أجوب الغرفة فرحاً: (ما أجملها غرفة يا سهام)؟ فقالت بصوت حنون: (إنها بديعة يا حبيبي)!.

وتطلعت إليها فتلاقت العيون، وتلمست أصابعي كتفيها المرمريتين بخفة ورشاقة، وقبلتها بحنان، ثم دفعتها برفق إلى الفراش، فاتكأت على حافته بحياء وخفر، وعلق بصري بعقارب الساعة تترى بسرعة. . . وسدتها ذراعي، وهصرتها بين أحضاني، ثم تلاقت الشفتان في قبلة محمومة ولهى، فرشفت من الكأس حتى الثمالة. . .

وتراقصت الظلال في جلالة وروعة. . داعب النسيم البليل خصلات شعرها بمرح، فتهدل على صدرها العاري، وهو يعلو ويهبط بسرعة، وانعكست على صفحة وجهها خبايا هواها، وتألق في عينيها بريق عجيب، فيه لهفة عميقة!.

وفجأة. . . وفجأة يا خليل لمحت وجهها الوردي الفاتن يصير إلى اصفرار رويداً، وعيناها أخذتا تحدقان في شيء مجهول، تبكي في صمت وتتوسل في ذهول. . . كأن قوة جبارة أمسكتها بيد من حديد.

تحسست جسدها، وأنا من الهول لا اعي، فكان في برودة الثلج، فصرخت والدموع في عيني: (مالك يا سهام!. . . ماذا تحسين؟. . . إلي بطبيب! إلي بطبيب!).

وتداعى ذراعاي من حولها، فسقطت على الملاءات البيضاء، فقلت يائساً: (إليك روحي يا حياتي، خذيها وعودي إلي!. . . هل تذبل الورود وهي تختال في المروج؟ تكلمي. . . ردي عليّ ردي عليّ. . . لماذا لا أسمع صوتك الحنون؟ وأحر قلباه، يا ضيعة العمر وأنا من غيرك يا سهام)!.

. . . وامتلأت الغرفة بالظلال الداكنة. . . تهتز في صمت ثقيل. . . وحفل الفراغ بالأشباح. . . تتراقص في عربدة مجنونة. . . فجثم على صدري صرخاتها المنكرة. . . فهرعت إلى الأسجاف أرفعها، وفتحت النافذة، فاندفع الهواء من السهل القريب، حيات تسعى. . . ومادت الأرض. . . حتى غدوت في النهاية، غريقاً في صخب هائل مفزع. . . وتوهج المصباح، ثم خبا فتشتت الضوء، وأحسست بالبرودة تسري في أطرافي، ثم غبت عن الوعي.

. . . وعادت الغرفة تلوح من بين أهدابي المغلقة، فلمحت خيالات كثيرة تروح وتجيء، وسمعت أحدهم يقول لخيال: (إنه في طريقه إلى الوعي). . .

تحاملت على نفسي، وحدقت في الجدران التي تدور. . . وصرخت ملتاعاً (أين سهام؟ أين سهام؟). . . فحشرج في سمعي صوت رهيب (ذهبت. . . ذهبت يا وحيد ولن تعود)!

وانهمر على وجنتيه دمع حبيس، فقلت له وأنا من أجله ملتاع، أطالع صفحته الحزينة. . . فيثب إلى خاطري الوفاء المُعَذَّبُ، والدنيا والأحلام، وقد لُفّضت في أكفان الأبد، قلت له (وبعد يا رجل، هل تود أن تموت؟ هيا يا صديقي إلى الحياة، ترى فيها السلوى والعزاء).

- أنا؟؟ أنا أهبط إلى الحياة من جديد!؟ لقد سحقت قلبي أناشيد الحرمان، وذريت روحي في مهمة الظلمات، فهل أهبط إليها من غير قلب وروح!؟

- جرب هل الريح تأتي وفاء!

- دعني يا صاحبي في أحزاني وآلامي، علني ألحق بها، بعد أن خلفتني وحيداً في عالم الأحزان!

- لك الله يا وحيد، ولكن رفقاً بنفسك يا صديقي، ولم الوفاء لميت!؟.

- ويلك، ماذا تقول؟ وهل الحياة غير الوفاء لحبيب؟! مضيت في طريقي، وتركته وحيداً، وهو في غمرة الأسى، ولوعة الشجن، يذوب ويذوب، وهو يتطلع بشوق لهيف، هناك. . . إلى السماء. . . عل ملك الموت الرحيم! يختطفه إليها، فيجمعه بها في الفردوس. . . عند الله.

أحمد شفيق حلمي


14 - 11 - 1949

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى