هشام لحرش* - تاريخ «المعقــــودة» أو خبز الفقـراء

عندما طلب مني أن أكتب مقالا عن تاريخ أكلة المعقودة، ترددت كثيرا قبل الإقدام على الأمر، وذلك بالرغم من أن الحديث عن هذا الطبق أو الأكلة، التي تعد اليوم إحدى أشهر أكلات الشارع، سيعد المقال العاشر ضمن سلسلة المقالات التي دبجناها عن تاريخ الأطباق المغربية، وهو تردد مرده إلى غياب أي إشارة إلى هذا الطبق في أي من المراجع التي أرخت مجال الطبخ، سواء في المشرق أو المغرب، ومرد ذلك أيضا إلى أن البطاطا التي تدخل في مكونات هذا الطبق تعد من خضروات العالم الجديد، وهو ما حتم علينا ونحن نقدم تأريخا لهذا الطبق أو الأكلة الإجابة عن ثلاثة أسئلة.

أولا: هل يشكل طبخ الشارع جزءا من موروث المغاربة الحضاري؟

ثانيا: متى عرف العالم والمغاربة البطاطا؟

ثالثا: هل عرف المغاربة طرق إعداد أطباق وأكلات تشبه طريقة إعداد المعقودة، وبالتالي، سهل هذا الأمر الاستعاضة عن مكونات تلك الأطباق بالبطاطا؟

أولا: تاريخ البطاطا بين أوروبا والمغرب

تشير بلقيس شرارة في كتابها الشيق: «الطباخ ودوره في حضارة الإنسان» إلى أن البطاطا مرت بمراحل الرفض نفسها التي مرت بها الطماطم، باعتبارها نباتا جديدا. فهي لم تُقبل في أوروبا بالرغم من أنها زرعت في أعالي جبال البيرو منذ 1500 سنة، وقد أطلق عليها في إنجلترا «تفاح الأرض»، وقد كان أول من وصف البطاطا هم الإسبان سنة 1537.

وقد أخرت هذه النظرة السلبية قبولها في أوروبا، وبعضهم رفضها لأنه لم يأتِ ذكرها في الإنجيل، بالقول: «لو أراد الله أن نستعمل البطاطا طعاما، لذكرها في الإنجيل»، كما عارض رجال الدين والمتدينون زراعتها، إذ اعتقد بعضهم أنها الفاكهة المحرمة التي أكلها أول المخلوقين.

وبالرغم من مرور السنين، لم يتغير رأي الناس كثيرا في البطاطا، لذا، فقد قدم العالم الفرنسي بارمنتيه في إحدى الولائم باقة ورد البطاطا إلى الملك لويس الـ16 (توفي أواخر القرن الـ18)، كما قام بإعداد عدة ولائم عشاء قدم فيها البطاطا بأشكال مختلفة، لكن أهم دعاية قام بها بارمنتيه عندما زرع أرضا بالبطاطا وأحاطها بسياج لحمايتها، فتعجب الناس، وعندما نضجت قاموا بسرقتها؛ وبذلك قبلت البطاطا طعاما، وشكر لويس 16 بارمنتيه قائلا: «ستشكرك فرنسا ذات يوم لأنك وجدت خبزا للفقراء».

وإذا كانت البطاطا قد احتاجت إلى ما يقرب من قرنين من الزمن لتصبح جزءا من المطبخ الأوروبي، وذلك لاعتبارات دينية كما سبقت الإشارة إلى ذلك أعلاه؛ حيث إنها لم تصبح جزءا من هذا المطبخ إلا أواخر القرن الـ18 وبداية القرن الـ19، فإنها، في المقابل، لم تكن بحاجة إلى وقت طويل لتصبح جزءا من المائدة المغربية؛ وذلك بالنظر إلى أن الإسلام يعتبر التحريم أمرا توقيفيا، أي لا بد من ورود نص بالحريم، وإلا فإن إعمال قاعدة: «الأصل في الأشياء الإباحة» يكون هو المرجع المعتمد.

وقد واجهتنا صعوبات عدة في الإجابة عن سؤال: متى عرف المغاربة البطاطا؟ وذلك بالنظر إلى أن منهج المؤرخين المغاربة القدامى كان الغالب فيه تأريخ الأحداث السياسية مع إغفال الأحداث الاجتماعية، فما بالك بالإشارة إلى أمر من قبيل حدث دخول أحد أصناف الخضروات إلى المغرب.

لكن انفتاح المؤرخين المغاربة المعاصرين على منهج الحوليات في التأريخ مكننا من الوقوف على رسالة من محتسب الرباط، السيد عبد الخالق فرج، إلى السلطان المولى الحسن الأول (متوفى سنة 1894)، وهي مراسلة عبارة عن مخطوط أورده الدكتور عبد العزيز الخمليشي في كتابه المتميز: «مدينة الرباط في القرن الـ19» (تجدون صورتها في المقال)، حيث إن هذا المحتسب أورد أنواع الخضراوات التي كانت توجه إلى القصر الملكي بالرباط، وقد كانت البطاطس بأنواعها جزءا من تلك القائمة، ما يقدم دليلا على أن المغاربة قد تعرفوا على نبتة البطاطا خلال القرن الـ19، أي قبل الحماية الفرنسية، وذلك نتيجة احتكاك المغرب الدائم والمستمر بالقارة العجوز.

ثانيا: المعقودة وأكلات الشارع المغربي

تعتبر المعقودة اليوم من أكلات الشارع، إذ نادرا ما يقوم المغاربة بإعدادها في البيوت، وهي تعتبر أكلة الفقراء والفئات الشعبية بامتياز، وذلك لرخص ثمنها وقيمتها الغذائية، فلا عجب أن نستشعر ذلك ونحن نشاهد عشرات الفقراء وغيرهم من مختلف الفئات الشعبية متحلقين حول عربات المعقودة.

ويعتبر طعام الشارع في المدن المغربية ليس وليد اليوم، فقد عرف المغرب هذه الظاهرة منذ القديم؛ فالرحالة بن الوزان في كتابه «وصف إفريقيا» قدم وصفا دقيقا لمحلات الأكل بمدينة فاس قبل 500 سنة من اليوم، يقول بن الوزان: «ويشرع في الصباح ببيع اللحم المشوي، ويباع كل يوم من الفطائر والخرفان المشوية أكثر من مائتي مثقال، لأن هناك 15 دكانا لا تشتغل طوال اليوم إلا بذلك، ويباع كذلك اللحم والسمك المقليان ونوع آخر من خبز خفيف مصنوع من أشرطة أغلظ، وتباع الأكارع عادة مطبوخة، ومن عادة الفلاحين أن يتناولوا في الدكاكين نفسها هذه الأطعمة الغليظة في الصباح الباكر قبل أن ينصرفوا إلى أشغالهم في الحقول»، ونحن لا نستبعد أن تكون هناك أكلات رخيصة أخرى كانت تعد في هذه الدكاكين المخصصة لإطعام هؤلاء الفلاحين من سكان فاس.

وإذا كنا قد أجبنا عن السؤالين الأولين؛ المتعلقين بتاريخ البطاطس وأكلات الشارع أو مطاعم الأسواق في المدن أساسا، تبقى الإجابة عن سؤال: هل عرف المغاربة طرق إعداد أكلات وأطباق تشبه طريقة إعداد المعقودة، ما سهل تعويض تلك المكونات وإدخال البطاطا محلها؟

وهي المقاربة التي سننتهجها للحديث عن أكلة المعقودة كما يعرفها المغاربة، أي تلك الأكلة التي تُعد من البطاطا، والتي تباع في مطاعم الشارع.

بالرجوع إلى معاجم اللغة وكتب الطبخ؛ فإن الشيء المعقود هو الشيء الذي غلظ أو جمد بالتبريد أو التسخين، وأما كتاب «فضالة الخوان في طيبات الطعام»؛ وهو كتاب عن الطبخ من العصر المريني؛ فقد أشار إلى أن معقود السكر يجري إعداده بعد وضع السكر على النار لصنع العسل، وهو العسل الذي يضاف اليه اللوز ويترك حتى يبرد، لتصنع منه أقراص.

وخلاصة ذلك أن المعقود أو المعقودة هو وصف يوصف به الشيء الذي يجري تغيير مادته وإعادة تشكيله من جديد، وهو الذي يحصل مع البطاطا، حيث تتحول من حالة تكون فيها قاسية إلى حالة تصبح معها إعادة تشكيلها، بعد طهيها في الماء، أكثر سهولة.

وأما طريقة إعداد المعقودة والتي يعرفها الجميع اليوم؛ حيث يجري سلق البطاطا وتقشيرها ثم إعادة تشكيلها كأقراص؛ ثم وضعها في سائل خاثر مكون أساسا من الدقيق والماء والبيض أو الزنجبيل وهناك من يضيف «القزبر والمعدنوس»، لتقلى بعد ذلك في الزيت. وهي طريقة ليست وليدة اليوم، بل عرفها المغاربة قبل ألف سنة من اليوم.

وبالرجوع إلى كتاب «أنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة»؛ وهو كتاب عن الطبخ من العصر الموحدي (القرن 12 م)، نجد أن هذه الطريقة استعملت في إعداد طبق الباذنجان المعفر (ص 145). حيث إن الباذنجان بعد أن يغلى في الماء، يخرج من مائه، ويترك يمصل ويجف قليلا، ثم يؤخذ من دقيق الدرمك، ويضرب بيض وفلفل وكزبرة وزعفران؛ ويسير من مري نقيع؛ فإذا صار مثل حسو خاثر غمس فيه الباذنجان، وقلي في مقلاة حامية، ثم يمر ثم يغمس؛ ويعاد ثانية وثالثة.

ونعتقد أن دخول البطاطا إلى المغرب قد مكن المغاربة من أحد أنواع الخضروات ذات الإنتاجية الأكبر والسهلة التخزين، ما يجعلها متوفرة طوال السنة، وذلك بخلاف الباذنجان، وهو ما سيدفع المغاربة إلى تعويض الباذنجان بالبطاطا، لتصبح، بالتالي، أكلة المعقودة جزءا أساسيا من مطبخ المغاربة، ومن مطبخ الشارع أساسا.

ونحن نعتقد كذلك أن هذا الأمر مرتبط، أساسا، بما يسميه الأستاذ محمد حبيدة في كتابه «المغرب النباتي» بالاندماج المطبخي، حيث يعتبر الأستاذ حبيدة أن مسلسل أكل الأطعمة وتطويعها واستجابتها للذوق العام، يكون من خلال الاعتياد على بعض الأكلات؛ فتندمج (أي هذه الأكلات) بكيفية تدريجية في النسق المطبخي الاعتيادي؛ بهذا المفهوم تغيرت وظيفة بعض النباتات البرية من طعام قحطي إلى طعام اعتيادي، على النحو -يضيف الأستاذ حبيدة- الذي تظهره أوراق الرجيلات (البقولة والرجلة) التي اكتسحت الأذواق؛ خاصة في المدن، حيث أضاف إليها الناس الزيتون والليمون الحامض؛ وأصبحت أكلا شهيا مع مرور الزمن حتى اليوم.

ونحن نعتبر أن المغاربة إذا كانوا قد تعاملوا مع ما سماه الأستاذ حبيدة بالطعام القحطي، أي المرتبط بالمجاعات، فما بالك بالبطاطا، ذلك النوع من الخضار الآتي من أوروبا، حيث أصبحت جزء رئيسا من المطبخ المغربي، بل أصبحت خبز الفقراء، كما وصفها العاهل الفرنسي لويس الـ16.

*باحث في التاريخ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى