إلياس خوري - سر الأم...

لماذا حين تهدنا الأوجاع نصرخ: «يا أمي»؟ وتكون أمك قد اختفت من حياتك منذ أكثر من ثلاثين سنة.
ما هو سر الأم التي تعاود الظهور كلما اختفت؟
لا شك أن حكاية المرأة في الثقافة بالغة الالتباس والمرأة حكاية غامضة بدأت في التوراة بتحميلها وزر الخطيئة الأولى وانتهت بتحويلها إلى شمس مشرقة في كتاب «حكمة سليمان».
هذا التناقض وسم حياة المرأة في كل العصور. فهي إما ملاك وإما شيطان.
اتخذت المرأة أشكالاً متعددة، أهمها شخصية الأم التي نجحت في ابتلاع كل الشخصيات الأخرى.
لماذا انتصرت الأم على المرأة؟
لماذا تخوض المرأة صراعاً من أجل استعادة دورها وإزاحة الأم من المشهد؟
تناقض مستمر بلغ ذروته في العصر الحديث، غير أن هذا التناقض ما يزال يميل إلى مصلحة الأم لأنها تجسد سر الحياة.
هنا نكتشف أن هذا التناقض، رغم أهميته الاجتماعية والتاريخية، لم ينجح في زحزحة مقام الأم، لكنه نجح في زحزحة مقام المرأة في الأم.
هكذا انتقل التناقض إلى داخل المرأة نفسها، فهي أم وهي امرأة، بعضهم يقول إن الأنوثة لا تكتمل إلا بالأمومة، وبعضهم الآخر يثور على الأمومة باعتبارها عائقاً أمام تحرر المرأة.
غير أن ما نراه في زمننا هو ثورة عارمة على الأمومة بحثاً عن دور جديد للمرأة يتخطى الصورة النمطية التي وضعت فيها.
هنا تنفجر الأسئلة في وجوهنا لنكتشف أننا لا نزال في نقطة البداية.
لا يوجد أي شيء يشبه هذه الحالة، بداية تبدأ من جديد وتستعيد الأسئلة نفسها وتدور على نفسها وتأخذنا في دوامة من التردد.
غير أنني بدأت أشعر أن الدوران في هذه الدوامة غير مجزٍ، لأن حق المرأة في الحياة يجعلها فوق كل تصنيف، فهي كالرجل تماماً، رجل وأب ويعمل في المجتمع ويكون رفيق المرأة في البيت.
هنا تأتي صورة أمي كي تحطم كل الصور. امرأة خفرة، تمشي على الأرض كأنها لا تدوس الأرض، تضع الحنة على رأسها كي تغتسل من كهولة الأيام، صديقة الفقراء، حيث لم يكن مسموحاً لنا أن نأكل على العيد قبل أن نطعم فقيراً.
رفيقة الألم التي تحملت ما لا يحتمل من نزقنا نحن أولادها الخمسة وأمراضنا ومشاكلنا وضعفنا وقوتنا.
امرأة قوية تعرف كيف تواجه الصعوبات وتحب القراءة وهي تدخن نفس أرجيلة عجمي وتنتشي حين ترانا نأكل من يديها ونمتدح الأطعمة. لم تعش أمي طويلاً، ماتت مريضة وتركت في قلبي حرقة كبرى لأنني لم أستطع أن أشهد مأتمها في الجبل الصغير، وستبقى هذه الحسرة في قلبي إلى يومي الأخير.
لم أستطع يوماً أن أفسر هذه التناقضات في موقفي من أمي. كنت ككل الناس أحبها، طبعاً بعضنا لا يحب أمه ويدعي حباً لها على عادة الموضة، لكنني كنت أحبها بلا موضة وبلا شيء.
كانت تمسكني من يدي صغيراً هي وجدتي وتأخذانني إلى كنيسة مار الياس في كل عيد لقديس النار، ثم تدلانني على البئر حيث تعمدت، وأمسكت بذقني الكاهنين اللذين كانا يعمدانني. وعندما أخذتني الأيام إلى حيث أخذتني وكنت أعود إلى البيت في الخامسة صباحاً مهللاً بعرق فلسطين كانت أمي في انتظاري دائماً، تزيح أبي عن المشهد ثم تأمرني بخلع ملابسي والاستحمام قبل أن أجد أمامي مائدة عامرة بكل ما لذ وطاب، لا أدري متى صنعتها.
مرة سألتها كيف كانت تعرف مواعيد عودتي إلى البيت، فكانت تجيب دائماً بإشارة تضعها على قلبها وتقبلني على جبيني وترسم حياتي بإصبعها وهي تقول إنني سأكون كاتباً كما أحب.
بالأمس احتفلنا بعيدين متناقضين: عيد المرأة وعيد الأم لنكتشف في النهاية أننا أمام عيد واحد مليء بالاحتمالات يأخذنا إلى حيث يشاء ويرسم طرقنا بالطريقة التي يريدها.
اليوم يشاء هذا التناقض أن يرسم طريقنا إلى غزة، حيث نرى الأم وقد تحولت إلى امرأة تقاتل، والمرأة المقاتلة تتحول إلى أم ترتجف أمام أولادها والمدينة بأسرها تتحول إلى حقول قتل واغتصاب كما حصل في مجمع الشفاء الطبي خلال هذه الأيام.
لها، للمرأة والأم والرفيقة والمناضلة، ننحني كي نقبل خصلات شعرها الملوثة بالغبار والدماء والكرامة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى