نوئيل رسام - موت الفقير... - - اليتيم...

1- موت الفقير...

... وبعد أن نظر إلى شعاع الشمس الداخل إلى الغرفة المظلمة من كوة صغيرة في أعلاها وحدق فيه مليا دمدم ببعض الكلمات ثم إبتسم ثم نام. فتح الباب بهدوء تام ودخلت الأم ناكثة شعرها سابحة بدموعها تحبس حسراتها خوفا من إزعاج المريض.

تقدمت من الفراش وركعت جهة الرأس وكان قد تحول عن موضعه فرفعته وأعادته إليه باطمئنان.

مدت يدها ورفعت الغطاء عن وجهه فبانت لها آثار إبتسامة بادية على محياه الهزيل... إنحنت وقبلته في جبينه وبعد أن أزالت بسكون ما سقطت عليه من دموعها لم تشأ أن تعكّر على النائم أحلامه الهادئة فرفعت نظرها إلى أعلى وغرقت في صلاتها.

حوّل الشعاع مساره وأصاب وجه المريض فأضاءه، وما هي إلا فترة إذ بدت حركة خفيفة من ذلك الجسد الناحل سمع على أثرها لفراش القش صوت أعقبه.

أماه يا أماه

إنتبهت كالمذعورة :

عزيزي... ها أندا يا بني

ثم إنعطفت وطوقته بيديها.. رفعت الشعر الذهبي عن جبينه وقبلته، فتح عينيه الشاحبتين والتفت إلى أمه : أمي.. أنظري. هو ذا أخي قد جاء.. إنه يستدعيني هو يفتح لي ذراعيه.. ها أنا ذا خذني معك.

أغمض عينيه

إظلمت الغرفة

فقد أسلم الروح


********
>>>>>>
********


2- اليتيم...


.. وعند الفجر وقد تبدد ظلام الليل بأشعة الشروق نهض الصبي وإقترب من أمه وفكر في إيقاظها ولكنه عدل وإكتفى بقبلة إختطفها من جبينها وأسرع قافزا إلى الحقل المجاور ليلاعب الطبيعة كعادته.

وكان الوقت ربيعاً وقد إكتست الأرض حلتها الخضراء وقد نقشت بأنواع الأزهار ذات الأنواع الجذابة والروائح العطرية وكان الصبي يزيد المنظر بهجة وهو يقفز هنا وهناك يلاحق الفراش المتنقل من زهرة إلى أخرى فإذا ما ظفر بإحداها طار فرحا وأرسل مع النسيم قهقهة يحملها إلى حيث يشاء ثم يجلس على الحشيش الأخضر ويأخذ في مداعبة فراشته إلى أن تفلت منه فيقطب ويلاحق غيرها، وبعد أن إرتفعت الشمس عن الأفق وجفت قطرات الندى عن الأزهار إنتبه الصبي إلى نفسه فيقتطف بنفسجة كبيرة وينعطف راكضا إلى البيت ليقدمها إلى أمه التي لا بد وأن تكون قد انتهت من حلب البقرة، ولكن هيهات فهي لم تزل نائمة.

ولما وصل تقدم منها وأدنى زهرة من وجهها علّها تستيقظ باستنشاق عبيرها ولما لم تفعل جلس في حضنها وصاح:

- إنهضي يا ماما فلقد ارتفعت الشمس والبقرة لم تذهب إلى المرعى بعد.

ثم دمدم:

- إن ماما في سبات عميق.

ووضع البنفسجة في يدها وخرج بعد أن أوصد الباب أما الأم فلم تستيقظ أبداً.

أما الصبي فكان يتردد دائما ناظرا إلى أمه من شقوق الباب ولكن لم يجل بخاطره قط أنه أصبح يتيماً .



الموصل – نوئيل رسام




================
نوئيل ميخائيل رسّام
(1910-2001)
من مواليد محلة المكاوي بمدينة الموصل.
كانت أم نوئيل رسّام السيدة زريفة مُدرسته الأولى، ثم درس في مدرسة الطاهرة وبعدها في ثانوية الموصل، ثم سافر إلى بغداد ليدخل كلية الحقوق وتخرج منها سنة 1934.

تزوج نوئيل رسّام من مُدرسة لبنانية كانت تعمل في مدارس العراق اسمها (صوفي بخمازي) سنة 1935، ورُزق منها أربعة أولاد: آمال وهند وغسان وشميم.

انتمى نوئيل رسّام في شبابه لحزب الاستقلال وأصبح عضوا في مجلس النواب في الخمسينيات عن حزب الأمة الاشتراكي. كان توجهه قومي معادي للإنكليز وقد اعتقل بعد فشل ثورة 1941 وقضى ثلاث سنوات حتى العام 1943 متنقلا في معتقلات الفاو والبصرة والعمارة، ثم اُطلق سراحه وتفرغ للمحاماة.

انتقل للعيش في بغداد، وهناك اصدر جريدة (أ. ب. ت). وكانت تربطه صداقة قوية مع الشخصية الوطنية الوزير سعيد قزاز (1904- 1959) وقد دافع عنه في محكمة المهداوي 1958 وأشاد بوطنية سعيد قزاز. وقد اُعدم سعيد قزاز وقال مقولته الشهيرة: " أنا أعرف أنكم ستصدرون حكم الإعدام عليّ، ولكنني عندما سأصعد المشنقة سأرى تحت قدمي أناسا لا يستحقون الحياة ".

اُنتخب نوئيل رسّام عضوا في مجلس نقابة المحامين وقابل عددا من القادة والزعماء منهم الرئيس جمال عبد الناصر (1918 – 1970).

كما اُعتقل نوئيل رسّام سنة 1974 وحوكم أمام محكمة الثورة بحجة معاداة النظام، وبعد أن اطلق سراحه ظل في بغداد، ولكن إثر وفاة زوجته التحق بأولاده في أمريكا سنة 1991، وتفرغ للقراءة وكتابة مذكراته وتوفي سنة 2001.

كتب نوئيل ميخائيل رسّام كتاب إلى ولده غسان رسّام، وهو يقضي فترة حكمه في السجن بالبصرة والعمارة (1941-1943) حين اعتقل لتأييده ثورة مايس عام 1941 والمعروفة ب( حركة رشيد عالي الكيلاني). وقد صدر الكتاب عن مطابع (دار الأديب) بعمان - الأردن 2017 بعنوان: (سجناء الفكر في العراق الحديث .. أوراق نوئيل رسّام من خلف قضبان الحكم الملكي)، والكتاب من تحقيق وتقديم وديع شامخ. ويضم الكتاب (19) رسالة بدأ بكتابتها نوئيل رسّام إلى ولده غسان بعد أربعة ايام من اعتقاله، حيث كانت الرسالة الاولى مؤرخة بتاريخ 15 حزيران 1941 وآخر رسالة في 11 تشرين الثاني سنة 1943.



1711788002842.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى