مسعد بدر - ابن رفح (3)

(3)

بعد انفصال (رفح) المصرية عن (رفح) الفلسطينية عام 1982 نُصبت سوف (السبت) في باحة سواء بين البادية والمدينة. كانت خمسة القروش ورقة أنيفة عزيزة يحتال الرفحي في حصول عليها وربما طمع في أكثر منها إذا اقتفى آثار العاملين في جمع اللوز، يبحث في الرمضاء عن حبيبات دفنتها الأقدام في الرمال، ويشرئب عنقه إلى ذوائب الشجر الشامخ فيرى حبّة أو حبّتين فيحتال كل حيلة للحصول عليها. أو يهب له والده حفنة من الشعير، أو يجود عليه بعض الأقارب بقروش قليلة يراها هو ثروة، وينتظر يوم السبت انتظار العاشقين.
يقف في السوق قابضًا بيمينه على قروشه في جيبه أمام حلوى زاهية اللون لينة الملمس لذيذة المذاق. ترقد رقدة مغرية داخل صينية واسعة بيضاء نظيفة. مساكين أطفال البادية، لا يرون هذا في بيوتهم، هذه أشياء لم تكن البادية تعرف أسرار صنعها. يطلب قطعة يدفع فيها شقاء أسبوعه كله، ثم لا يندم؛ فقد ارضى نفسه بعض الرضاء، ولم يوفّها حقها. وإلى أن تجود الظروف بقروش أخرى ينتظر سبتًا آخر.
أما في مدرسته الجديدة فقد اكتشف أن لدى الحضر صنوفًا أخرى من الحلوى. كم كان ساذجًا حين اعتقد أن (الكنافة) و(النمّورة) هما غايتا الغايات!
بين مركز الشرطة والمدرسة التي كانت يوم ذاك بلا سور، يقف البائع دراجته الهوائية، مقودها إلى الشرق، وفوق كرسيّها إناء له عمق وليس صينية مسطّحة، وبجانب الإناء أطباق فارغة نظيفة تلمع. يرفع البائع الغطاء عن الإناء فإذا مادة ليس لها لون واضح، يغرس الملعقة فيها فإذا بالمادة الغريبة تترجرج! ما هذا؟ قالوا إن اسمها (مهلبيّة). هذا اسمها غريبًا، فما سرّها؟ يضع البائع الشاب في الطبق بمقدار ما يدفع التلميذ، ثم يعمد إلى إناء آخر ويصب منه في الطبق سائلا أميل إلى الصفرة. كان مع الرفحي قروش؛ فذاق شيئًا لم يذقه من قبل، سائل حلو لذيذ يخالط مادة تذوب في فمه، كم نحن محرومون يا عرب! وكم هم بؤساء هؤلاء الذين يرقبون ويشتهون ولا يملكون! المدينة ملذّات، والملذّات سوق، ولا شيء في السوق بلا مال!
إن في الاختلاط بالآخر كشفًا واطلاعًا وإثارة. وفيه أيضًا مقارنة تستطيع من خلالها أن نقدّر موقفك وأن تقيّم ذاتك وأن تحدد موقعك بحيادية إذا برئت نفسك من التحيّز المُضلّ.
لم يكن هذا الرفحي من أعماق البوادي الجبلية النائية، بل كانت دياره على تخوم الحضر، ومع ذلك لم تتهيأ له فرصة مناسبة للاختلاط بأبناء الحضر إلا أواخر عام 1986. كان المحتل قد انسحب من رفح قبل أربع سنوات، رحل وترك وراءه دورًا قديمة أنيقة تعود إلى عهد الاحتلال البريطاني، تركها قائمة مكتملة لم يمسسها ضُرّ. وانهال عليها العربان، ينزعون الأبواب منها والنوافذ، ثم يستولون على (القرميد) الذي يغطّي سقفها، ثم حازوا الخشب الذي كان يحمل القرميد، ولم ينسوا تلك الأنابيب البيضاء التي تحتوي أسلاك الكهرباء. حتى إذا استحال المبنى هيكلًا لا روح فيه عمدوا إلى الجدران يهدمونها ويستصفون ما بقي صالحًا من حجارتها لبناء بيوت لهم. وكانت أسرة الرفحي من ضمن هؤلاء؛ فبنت بيتًا – أو قل: كوخًا – من بقايا بيوت سكنها جنود بريطانيا الوافدون من شتّى أقطار الأرض، ثم سكنها بعدهم المحتل الصهيوني، ثم ها هي تؤول إلى أصحاب الأرض يعيدون بناءها ويسكنونها. ولسوف يأتي عام 2012 فيهدم الرفحي ذالك البيت القديم، ويستخلص حجارة الإنجليز الصلبة لتكون أساسًا متينًا لبيته الجديد قبل أن تأتي الآلة عام 2018 فتتبرّه تتبيرًا! وليسامحنا (ابو العلاء المعرّي) إذا غيّرنا في بيته الشهير كلمتين:
رُب (بيتٍ) قد صار (بيتًا) مرارًا
متضاحكًا من (تعاقُب) الأضدادِ
لم يكن البيت (الكوخ) إلا حجارة رُصّت كيفما اتفق دون كبير عناية، وقد تطوّع أحد أصدقاء والده برصّها بدون أجر، حين كان الناس يتداعون إلى الأعمال فيتعاونون، وحين كان المال هدفًا مسبوقًا بالشهامة والنخوة.
وعلى كل الأحوال كان ذلك البيت خيرًا من أكشاك الصفيح التي تُؤوي معظم أبناء البادية آنذاك، وقد كان الرفحي يشعر بشيء من الامتياز بسُكناه (الحجر) لولا أن ما رأى عصف به عصفًا لا هوادة فيه، وأعاده إلى حيث وضعه الله!
تعرّف إلى أحد أبناء البادية المقيمين مباشرة على حدود المدينة، وهذا دعاه إلى بيته. سارا مسافة قبل أن يشير صاحبه إلى قصر أنيق شاهق قائلًا: ذاك بيتنا. سَرَتْ في جسده رعشة اضطراب اجتهد في السيطرة عليها والخلاص منها. مشيا بجوار سور عالٍ ملوّن بألوان زاهية، (ليس في كوخه كله طوبة واحدة ذات لون معيّن!) وقف أمام بوّابة حديدية مزخرفة بالنقوش والرسوم البديعة، (وباب بيته من صفيح)، فُتحت البوّابة، لم يسمع لها صريرًا، سار وراء صاحبه عبر ممرّ مرصوف ببلاط منقرش، ثم انعطف يمينًا من خلال باب لم يجد فرصة لتأمّل فخامته، اجتازه ثم صعد في سلّم على جانبيه زخارف عجيبة يسند الصاعد يده إليها، وأقدامه تطأ لأول مرّة السجاد الوثير الساحر في لونه ورسومه والممتد من أول السلم حتى باب آخر خرافي، ثم بهو أسطوري، ومقاعد غاص في أحدها، نوافذ وستائر ومفارش وأرائك وزينة تملأ البراح الوسيع وأشياء كثيرة لم يُحط بها خُبرًا، ولم يشاهدها، لا، بل لم يسمع بها، ولم تخطر على باله قط! أفي الدنيا مثل هذا الجمال؟ أيعيش الناس في مثل هذه الفخامة؟ أليست هذه هي البيوت؟ وأليس العيش فيها هو العيش؟ لم يملك إجابة، ولم يحدّث بما رأى قبل أن يكتب هذه الكلمات، لكنه عاد وهو كارهٌ قبره ذاك كل الكُره، منكرٌ العيش فيه أشد الإنكار، هيمن عليه إحساس ضاغط ثقيل، إحساس بالوضاعة جعله يُبغض حياته كلها بما تحتوي، إن كانت تحوي، أصلا، شيئًا ذال بال! وهذه ضريبة يدفعها كل من يطلّع ويعرف ويقارن! "وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ"!

مسعد بدر – شمال سيناء




1712190984749.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى