محمد فطومي - الهاوي

لاحقا لا أحد سيذكر متي أو علي يد مَن انطلقت حملة سبّ كلاب المرّيخ الضالة علي وجه التّحديد. فمن ناحية لا حاجة تدعو إلي نبش الماضي بعد أن بات أكيدا أنّ التذكّر يعيق تقدّم النّاس نحو آفاق جديدة لممارسة طقس السبّ. ثمّ من ناحية أخري لأنّ تقبّل الحملة جري متعقّلا وئيدا كما يُلتفت إلي السّكن في منطقة قاحلة. أو بصورة تليق بالحملة، لنقل إنّها هُضمت علي نحو متسامح أشبه بأمر نعرفه جميعا. أرأيتَ إذا ارتديت جوربا سليما فوق جورب يبرز منه إصبِعُك الكبير. لعلّها سارت كذلك أو أجمل مع مراعاة بسيطة لفداحة العبارات أمام الاكتشافات القصوي. ففي البداية، كما هو شأن المنتجات الثوريّة دائما، اقتصر التّفهّم علي فئة قليلة لم يُثنهم مستقبل الحملة الغامض عن المضيّ بذكاء وتبصّر منقطعي النّظير في تقريب الصّورة إلي الأذهان. بالعمل ولا شيء غير العمل كانوا يقومون بذلك. يكفي أنّهم أقدموا بجرأة ونبل خالصين علي نعت كلاب المرّيخ الضالّة بأقذع النّعوت كلّما لاح لهم حشد من النّاس، غير مكترثين باحتمال رميهم بالجنون. بل يقال إن أحدهم افتكّ المصدح من مغنية علي الرّكح وراح يصرخ لاعنًا كلاب المرّيخ الضالّة تحت دهشة الجمهور آنذاك. إنّه الخلق ومُتطلّباته. ثمّ إنّهم هم الذين وضعوا للمنتج الجديد دوافع وغايات مازالت تُتَداول إلي اليوم:
»صار للكلام معني!»‬
»‬كان لابدّ من دخول المرحلة.. إنّه عصر الانتباه والإنسان السّعيد!»
»‬سبّ كلاب المرّيخ الضالّة تأخّر ولم يتأخّر!»
»‬أنا سبّ كلاب المرّيخ اللّعينة!»
لقد نجحوا في السيطرة علي اندفاعهم حتّي فترة متقدّمة كان خلالها قد طواهم النسيان نهائيّا. وربّما قرّروا الاختفاء بمحض إرادتهم راضين بحلاوة أن يسبق المرء أوانه. عموما لم يظهروا بعد رواج الحملة أبدا، لكنّها استمرّت متحدّية الزّمن والإحباط الذي يرافق الحلول العظيمة والأفكار المُعجزة عادةً. و هكذا ببراءة لا تخلو من شحنة طموح تبعث علي الإعجاب والفضول امتلأت الميادين بجموع غفيرة تشتم كلاب المرّيخ الضالّة. انضمّ ياسر الخطّي إلي المتظاهرين. غيّر مكانه عشرات المرّات لزيادة حظوظه من أن تلتقطه كاميرات الصحافيّين. لكن بدلَ ذلك أُصيب بنزلة برد حادّة جرّاء اللّعاب المتناثر في كلّ مكان. فيما انتُخِبت صورة لعجوز تمجّ سيجارة لتكون رمزا للحملة. وازدهرت تجارة أدوية الأنفلونزا. خلال مسامرة سبّ إذاعيّة دُعِي طبيب شابّ ليشرح للنّاس تدابير الوقاية منها لأجل أداء أفضل، لكنّه تجرّأ علي القول إنّ أخطر أمراض عصرنا هي العدوي. في الواقع لم يكن لائقا أن يلصقوا به تهمة تحويل مسار الحملة. كان علي الأرجح مجرّد إفراط في الحماس أو الخمر. بالمناسبة، هل لك علم أين ياسر الآن؟ من يدري ربّما استقام. المُهمّ أنّ قوّات البوليس لم تتدخّل لفضّ المظاهرة فقد انهمكت بدورها في كيل السّبّ لكلاب المرّيخ الضالّة. عقب المظاهرة بأسابيع بادرت بعض المقاهي بتخصيص فضاء محترم للسبّ، تمّ الاتفاق علي أن يكون مجهّزا بعازل صوت علي الجدران وخوذات تمنع تداخل الشّتائم دون أن تُحرم من سماع شتائمك. لم تكن الخوذات مريحة فإضافة إلي ثقلها كانت تجعل مستخدميها يبدون مثل بيادق الشّطرنج لا روّادَ فضاء كما أريد لها. خصوصا أنّ موضة التّناسق حتّي أصغر تفصيل مازالت شائعة في ذلك الوقت. هنا خطرَ لياسر الخطّي أنّ في إمكانه جني أرباح طائلة لو عرف كيف يطوّع الحملة لصالحه. لن يكون في حاجة إلي أكثر من مقترح عبقريّ تراهن عليه شركة صنع الخوذات. كتب فورا علي ورقة أعدّها لتسجيل الأفكار: »‬سمّاعات تنتهي بمضخّم صوت قادر علي امتصاص الأصوات أو إذاعتها نحو الخارج. أمّا بالنّسبة إلي إعدام الأصوات علي نحو يجعل أذن الشّاتم فقط قادرة علي سماعها فهذا شأنهم. ليتصرّفوا، هذا ليس دوري». سعّر ياسر الخطّي مقترحه بألفي دولار أو ما يعادلها. لكنّ هاجسا نغّص عليه استرساله في الوصول بمشروعه إلي السّرور. ماذا لو باعوا الكثير منها؟ كيف يرافق فكرته حتّي آخر قطعة نقديّة تقطر منها. سيطر عليه الإحباط أيّاما قبل أن يقرّر التحرّك أخيرا. إلاّ أنّ مراسلاتِهِ ظلّت معلّقةً دون ردّ بالقبول أو الرّفض أو حتّي إشعار يطمئنه إلي أنّهم استلموا الرّسائل. صرفَ النّظر عن الأمر. إنّما ليس لأنّهم تجاهلوا المقترح بل لأنّ الخوذات أصبحت في فترة وجيزة تحمل في أعلاها هوائيّا صغيرا جعله يوقن أنّ البشر يحبّون الرّداءة. قال متصفّحا بريده الالكتروني الذي بعث به إليهم: »‬تكرهون الرّجل! ما ينبغي أن يفعلوه هو الشيء الوحيد الذي لا يفعلونه.. ستلْعقون لي كلبي في الأخير ». في الأثناء فتحت أولي الأكاديميّات أبوابها لتكوين فنّي في مجال سبّ كلاب المرّيخ الضالّة. تزامن تدشينها مع ظهور أبواق محمولة في الأسواق خفيفة الوزن مزوّدة بلوحة تحكّم رقميّة لأجل ذبذبات عالية الجودة. دون إهدار للوقت طلب ياسر الخطّي مقابلة مدير المركز. حدّدوا له موعدا بعد خمسين عاما لأنّ المدير سيمضي في جولة حول العالم لجمع الأمثلة التي تثبت تورّط كلاب المرّيخ الضالّة فيما هي متورّطة فيه. انسحب بلطف مبالَغ فيه جعل حرّاس المدخل يفتّشونه. ويدفعونه من الخلف بلطف شديد. نفض كتفه وابتعد دون التفاتة واحدة. علي طول الشّارع لاحظ علي لوحات الإعلانات دعاية للمركز في شكل صور للمبني من الدّاخل تنتهي بشعار بدا له تافها جدّا. قبل قليل أوشك علي إطلاع حرّاس المركز أنّه يحمل لسيّدهم مشروعا لو تبنّاه لاستبدلهم بآخرين من اختياره. كان ياسر الخطّي قد صمّم للمركز شعارا من كلمتين: »‬ناب من فضّة» وعلامة تجاريّة استوحاها من شكل عشوائيّ للطْخة بُراز علي زجاج سياّرته الأماميّ.. ضاع حلم الثّروة من جانب المركز. أحسّ لوهلة وهو يسير علي الرّصيف حريصا علي ألاَّ يطَأ الخطوط الفاصلة بين حجارته أنّه ألقي للتوّ قارورة نبيذ فاخر في حاوية قذرة وحدّث نفسه بما يشبه أنّ أحدا لم يمت من قبل لأنّه حاول ولم ينجح. سبح الخاطر في ذهنه علي هيئة كهل وسيم يطالع صحيفة في حديقة غابيّة تملؤها فقاقيع الصّابون. انتابه فجأةً سرور مكثّف يبعث علي الخجل لمّا قرّر إطلاق موقع علي الانترنت لسبّ كلاب المرّيخ الضالّة. اكتشف عند عودته إلي بيته أنّ جميع المواقع تخصّص زاوية غاية في الرّوعة تُعني بالطّقس. لم ييأس. انصرف إلي ترجمة الشّتيمة إلي اللغات التي يعرفها. إلاّ أنّ المذيع في التليفزيون سبّ كلاب المرّيخ الضالّة بكلّ اللغات في نشرة الأخبار. لم ييأس. استغرق شهرين يدرّب كلبه علي سبّ كلاب المرّيخ الضالّة لكنّه اصطدم بأنّ جميع الكلاب والقطط تمارس الطّقس بمهارة تدعو إلي الحيرة. لم ييأس. صرف اهتمامه عن الّلهجات إلاّ أنّ الشّتائم ظهرت في الأقراص بكلّ الّلهجات ملحّنة فوق ذلك. لم ييأس، بل خطّط لبعث نادٍ لسبّ كلاب المرّيخ الضالّة. إلاّ أنّه احتاج إلي كيلوغرامين من التّبغ ليفهم أخيرا أنّه أصبح في كلّ حيّ جمعيّة وناديان تؤدّي جميعها المهمّةَ بحرفيّة مدهشة. لم ييأس. قلّت المسيرات الشّاتمة لكنّ الطّوابير ما انفكّت تزداد طولا يوما بعد يوم أمام النّوادي المتعاطية للنّشاط. أحبّ النّاسُ الأمر. التّحامل في أوج جسارته وياسر الخطّي لا يجد المنفذ. ظهرت مسابقات في السبّ. المناظرات أيضا. فرق تقابل بعضها البعض وتشرع في كيل الشّتائم لكلاب المرّيخ الضالّة. خاضها ياسر الخطّي جميعا. لكنّ أحدا لم ينتبه إلي شتائمه رغم الإلقاء الحسن. مازال يحلم بالثّروة وشهرة تفوق شهرة »‬نابليون». فكّر في كتابة مرثيّة عن مُطلق الحملة، لمّا انتهي من صياغة مُسوّدتها كانت قد صدرت مئات الرّوايات التي تمجّد مُطلِق الحملة. كانت الكتب التي تروي سيرته الذّاتيّة هي الأكثر طلبا. لم ييأس. كتب مقالا يمدح مؤلّف الكتاب الأكثر مبيعا. كان الكتاب يتحدّث عن سيرة المؤرّخ الذي سرد حياة الباحث الذي اختصّ في يوميّات مطلِق الحملة. أنتَ مجرّد هاوٍ. لا تُنكر! لم تهتمّ الصّحف بنشر المقال. فقد كرّست صفحاتها للحديث عن تطبيقة ثوريّة علي الهواتف تسمح للمستخدمين بسبّ كلب ضال من المرّيخ يظهر في الشّاشة ويختفي. وأخري تصلح الأخطاء

الشّائعة في عبارات السبّ. قنوات السبّ الأكثر حيادا، قالت إنّها جديرة بالثّقة لولا أنّها تطبيقات تعلّم الكسل. لم ييأس. اتّخذ لنفسه صورةَ مُقرفصٍ إلي جانب قبر مُطلق الحملة. أعني ما اتُّفِق علي أنّه مُطلِق الحملة. لكن خلال رحلة بحثه عن مجلّة تنشر الصّورة نشر آلافا من صورهم مع أب الحملة بينها من يُطعمه الحساء. لم ييأس...
مهلا.. دعني أتِمُّ حكايتي بنفسي!
كنتُ مع كلّ صفعة أكبرَ من خدّي أتلقّاها أتأكّد أنّ هناك من حظي بلقمة أكبر من فيه. أمر مضحك أليس كذلك؟ فقط وجب أن أصحّح لك شيئا بدا لك عرضيّا؛ لم أحلم بالثّروة يوما! كنت أحلم بدور. من يُصدّق؟ كنتُ في حاجة إلي دور. لمّا تبدّد شكّي في أنّي مهزوم لا محالة قرّرتُ إطلاق حملةٍ مضادّةٍ. حضَرَني بقوّة الرّقص بحزام أزرق بحريّ حول أعمدة الإنارة. تنجح الحملات المُضادّة عادةً في افتكاك زمام الأمور. دور صغير كان سيفي بالغرض. لم يسبقني إليها أحد، ما حصل أنّها سُرقت منّي، وهكذا فقدتُ آخر ورقة في حوزتي. حين انتبه الميكانيكيّان في مصنع مجسّمات كلاب المرّيخ الضالّة إلي وجودي. كنتُ أرتدي زيّ المُهندسين. كان هناك عطل في آلة الوَبَر. وقفت خلفَهما. أحدُهما مُمَدَّد والآخر مقرفص إلي جانبه. كان وضعا مُزريا. رفعا بصريهما ناحيتي باستغراب لا يخلو من ازدراء. بدا واضحا أنّهما لم يتمكّنا من العثور علي العطب. دون تحيّة قدّمتُ إليهما نفسي علي أنّي المهندس الجديد. لم يكن هناك غيرنا في المصنع ساعتها. حدّقا فيَّ بسخرية ثمّ عادا يتناوبان علي فكّ برغيّ لا تسعه راحة اليد. دلقا عليه سائلا مزيلا للصّدأ. ضرباه بمطرقة عظيمة. غيّرا المِفكّ المرّة تلو الأخري. لم يتحرّك البُرغيُّ قيدَ أنملة. كان يُفترض بهما أن يعيراني وزنا. أن يطلبا مساعدتي علي الأقلّ، أن يتمرّدا علي مواصلة العمل في حضرتي شأن كلّ العمّال، فأنا المهندس ولا أحد سواي. كنتُ أتحطّم مع كلّ ضربة مطرقة يوجّهانها إلي البُرغيّ. آنذاك أخرجت من جيب المئزر قشّة تبن ما انفكّت تشاغب أصابعي منذ لبسته. مددْتها بينهما وقلت: »‬جرّبا هذه لعلّها تنفع». توقّفا بحدّة مخيفة. حدّقا فيّ بعمق. كانت نظراتهما مسعورة هذه المرّة. قلت:»جرّبا هذه هيّا.. لا تستمرّا في الرّفض فهذا يقتلني.. هيّا ليتناولها أحدُكما من يدي». أحسستُ بجبهتي تبرد بشكل لا يُطاق. كنتُ جادّا أكثر من أيّ وقت مضي. حين يئست تركت القشّة تسقط من يدي. ثمّ في لمحة تناولت قضيبا هائلا من الفولاذ كان ملقي علي مقربة من قدمي. لو كنتُ مكانهما لصدّقتُ رجلا جادّا. كيف لم يخطر لهما أنّ وصولي إلي ذاك المكان تطلّب الكثير من الدّم؟ كيف؟
تونس




محمد فطومي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى