مسعد بدر - ابن رفح (6)

(6)

فكيف كانت الأسَر؟ لقد كان المعلّمون والآباء في العنف سواء. وإذ قد رأيتَ طرفًا من أخبار تنكيل المعلّمين بالتلاميذ؛ فهذا طرف من نبأ قهر الآباء للأبناء.

أتى رجل يسأل عن حال ابنه في الدراسة، ونادرٌ هذا جدًّا، فأنبأه المدير بأنه أحيانًا يغيب. نادى الرجل ابنه الطفل، لم يخاطبه بلسانه، ولم يكن معه أبًا شفيقًا، صفعه بكفه اليمنى على صدغه الأيسر، وأعقب بكفه اليسرى على الأيمن، فما زال به والطفل يصرخ منهارًا والمعلمون حاضرون ناظرون لا يحولون بينهما، وكأن نفوسهم اطمأنت لهذا التنكيل، وكأن آذانهم طربت لإيقاع الصفع المنتظم. والكفوف قهر وآلام جسام، والصفع صوت مسموع بغيض.

أيكفي هذا الشاهد العنيف المخيف؟ فماذا لو أنك رأيت ابًا يعذّب ابنه بسلك من حديد في طابور الصباح! وماذا لو أنك رأيت امرأة تتبع ابنها إلى داخل الفصل ببعض أدوات قد نسيها في البيت، فتشتمه أمام أترابه شتيمة سوف تلتصق به أبدًا، ثم لا تكفّ عنه لسانها حتى تُغري به المعلم أن يضربه ويعاقبه!

ولعل من المضحكات المبكيات أن معلّمًا شابًّا كان يجلس بجوار الطريق يضع ساقًا على ساق؛ فمرّ به ضابط شرطة في سيارته وهو لا يعرف الرجل، فأخرج رأسه من نافذة السيارات صائحًا في عنف وكبرياء: "نزّل رِجلك يا بن....."! إذن، حَكَم الواقع بأن إهانة تولّد إهانة، وبأن المُهين مُهان، وبأن القوي يُذلّ الضعيف باليد وبالقدم، أو باللسان، وذاك أضعف الإيمان.

في مثل تلك البيئة نشأ الرفحي وأقرانه ونشأ قبلهم وخلف من بعدهم كثيرون. تلك بيئة آمنت بالعنف المؤذي سبيلًا إلى التعليم والتقويم، وبالضرب المبرّح أداة للاستقامة والصلاح، حتى صاروا يمدحون بعض المعلمين بأنهم يضربون فيعلّمون ويقوّمون.

فهل تنتظر أن يخرج الخير من هذا القاع المظلم؟ هل نبغ عالم؟ وهل برز مفكّر؟ وهل أبدع أديب؟ وهل تألق لاعب؟ وهل تميّز رسّام؟ وهل كان نحّات؟ وهل نجب موسيقي؟ وهل أطرب مغنٍ؟ وهل وهل وهل متّصلات متعاقبات لا يكاد يقطعهن إلا أفراد أفذاذ تجاوزا الضياع، ثم لم يستطيعوا إصلاحه؛ لأنهم، أصلًا، تركوا بيئة رفح إلى بيئات أرحب.

وليس المقصود هنا بتاتًا أن يُساء إلى أحد، ولا أن يُقال إن واقع اليوم أفضل، لكنها إشارات إلى طبيعة الحياة آنذاك، ورصدًا لنتائجها الثقيلة المتكاثفة التي حجبت الرؤية وقصّرت الأنظار وحالت دون استشراف المستقبل المظلم لرفح؛ فعجزت النفوس الصغيرة، وخارت العقول المغلقة، وتضاءلت الآمال الضعيفة والأحلام الهشّة أمام الطوفان الجارف المدمّر، وكان الناس فيه بين اثنين: مشارك في المؤامرة الخبيثة عن جهل وغباء، وعاجز عن دفع البلاء عجزًا تولّد عن تلك الثقافة التي عاشتها الأجيال وطابت بها نفسوهم حينًا من الدهر، حتى أصبحوا جميعًا شيئًا منكورًا غير مذكور.

وليس المقصود أن المجتمع تخاذل عن طاقة، أو نكص عن مقدرة؛ فقد كان البلاء يفوق الجهد، وكان الخُبث أوسع من الخيال. كذلك وليس الأمر مقصورًا على رفح وحدها؛ فهذا شأن الوطن بأَسِره، وقضية العرب قاطبة، مجتمعات بعضها من بعض، أخذ فيها الاستبداد غايته، من أصغر وحدة في بناء المجتمع مرورًا بالمدرسة والمزرعة والمصنع والملعب حتى يبلغ نضجه الناضج على أعلى مستويات البناء الاجتماعي. فلا تلد بيئاتنا إلا مقهورًا سيصبح قاهرًا ما واتته الظروف وتهيأت له فرصة، وما أكثر هذه الفرص في بلاد العُرب، أوطاني!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى