مركب العمر

مركب العمر
قصة قصيرة :
بقلم محمد محمود غدية مصر
كنت فى زمن الطفولة والسذاجة، أحيا كما تحيا البلابل والزهور،
كنت أرى أبي فى جلبابه الأبيض ومسبحته الكهرمان، حين يمر ينبت العشب، وأمي حين تبكي، يطيب لدمعها أن يسقي الورد، وكنت أربي دجاجاتي فوق سطح المنزل، أضع لها الطعام والماء، وأطاردها بالعصى حتى تدخل عشها، وآكل بيضها، يوما تعثرت وأدمت ساقي، لا أدري كيف جاء والديا بهذه السرعة، ومعهما طبيب الوحدة لإسعافي، أذكر يومها كيف كان المطر يهطل، والريح تدوي، وغيوم السماء، تتكاثف تارة وتومض آخرى، فتلقى الرعب فى نفسي، تضمني أمي وتخلع شالها، وتلفه بجسدي النحيل مخافة البرد، كانت لا تنام قبلي وإنما بعدي، ولا تطمئن حتى ترانى فى سبات عميق، كانت تنفض الألم والحزن، وتزحزحه بعيدا حتى لا يعشش فى أركان البيت، مثل خيوط العنكبوت، كان الناي رفيق صبابتي، لولاه لمت بلوعتي وكآبتي، إشتراه لي أبي فى إحدى الموالد، وأشترى لي ساندوتش حلاوة، طعمه مازال فى فمي حتى الآن، كانت سن الطفولة لا تعدو سوى مركب صغير، يسبح فوق مياه راكدة، ذراع أبي المجداف، الذى يدفع بالمركب نحو شواطيء الأمان، لا يهتم بملابسه المبتلة، قدر إهتمامه بتأمين رحلة العمر، وطيبة وحنان أمي بمثابة طوق النجاة، يطالعني وجهها الباش وهى تستقبل الصباح، ببسمة آثره،
كما لو كانت تشكر الشمس على ربتتها الحانية على ولدها، كان أبي يعشق القراءة، يضحكني حين يمارس معي دور المعلم، فى ثرثرته الهامسة المؤدبة، فى كيفية المحافظة على ثبات الكأس، وقت الزلزال، كان خبيرا فى مغالبة الأفكار السيئة، ودفعها عنه، سار فى حياته على هذا النمط، وإعتاد الفصل بين العمل ومتاعبه اليومية المتكررة والبيت، يعود مغتصبا إبتسامة، تفضحه نظارته الطبية التي تخفي أرقا، يطوق الليل والأماكن والملامح، كان لابد من هجرة القرية الى المدينة، حيث دراستي الجامعية، بكت أمي كثيرا، طمئنها أبي قائلا : السهم لولا فراق القوس لم يصب،
والخوف، يخنق النجاح،
غبتما وأصبح الوجود بعدكما، باردا كئيبا رماديا، يعتصرني ليل نهار
بالأمس خلوت الى نفسي، ورأيتني واقفا فى ساحة القضاء فى محاكمة أبوي بعد موتهما، أبي الذي علمني الحب والتسامح، فى هذا الزمن الرديء، وأمي التى علمتني النبل والطهارة، والطيبة والأصالة،
أستحلفك بالله أيها التعب، أن لا تنشب في مخالبك الجارحة، فأنا روح موشكة على الغروب .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى