أحمد كفافى - رمضانيات...

رمضانيات... 3- 2024
أضرحة ومساجد مجهولة

الأضرحة الصوفية والمساجد الأثرية تتعدد فى مصر بصورة نادرة بالمقارنة بما يوازيها فى العالم الإسلامى، ولكننا وللأسف لا نعلم عن أغلبها إلا النذر اليسير غير ما هو معروف بالقاهرة والقليل من مدن الدلتا مثل مسجد الحسين و السيدة زينب والسيدة عائشة والسيدة نفسية، وغيرها من الأضرحة الصوفية كسيدى المرسى أبو العباس بالإسكندرية وسيدى إبراهيم الدسوقى بكفر الشيخ.
تلك ما تحضرنى من أسماء وأنا أكتب هذا التحقيق، ولكن حدث أننى زرت أضرحة ومساجد غيرها فى مدن كرشيد والسويس ودمياط، والتى ربما لم يسمع معظم الناس بها ولكنها تشع جميعها نورانية و روحانية وصوفية، وهى تشكل قدسية لمن يعيشون بالقرب منها.
فيما ياللى بعض الأماكن التى زرتها ولم أخرج منها إلا بالكثير من الصور وندرة من المعلومات..للأسف لا توجد كتيبات فى تلك الأماكن تمنح للزائرين الذين يطرقون أبوابها لأول مرة، ولذا فقد أعتمدت فيما كتبت على ما نشر فى دوائر المعارف الإلكترونية والصحف وهو أيضا قليل لأنه يعتمد على ما ينقل عن المرشدين والأهالى دون المتخصصين. إليكم ما أستطعت أن أجمع من معلومات ولقطات جميعها من تصويرى إلا واحدة ولكن الصورة هنا لا تقل أهمية حيث أنها تغنى كل منها عن ألف كلمة.
مسجد الغريب بالسويس
هو واحد من معالم مدينة السويس وربما ترددت سيرته فى الوثائق التاريخية والأغانى التى تشيد بالسويس..نعرف أين هو ولكن هناك من لا يعرفون قصته...فى أخر مرة زرت السويس من حوالى شهر ومررت بسيدى الغريب وكان هناك دليل ثقافى حكى قصة المسجد...فموقعه كان مقبرة عامة لمدينة السويس عفا عليها الدهر فأمر أحد المحافظين إزالتها للاستفادة من الأرض.. وبينما هم يزيلون الرفات وجدوا جثمانا غير متحلل ولكن كان إحدى ساقيه مبتورا وملق بالقرب من الجسد فدهش الحفارة من ذلك المشهد العجيب، وبالتنقيب بالقرب من الجثمان وجدوا وثيقة تدل على هوية صاحبها..فهو طبقا للوثيقة (أبو يوسف بن يعقوب بن محمد بن يعقوب بن إبراهيم بن عماد..وكانت وفاته رضى الله عنه فى ليلة الجمعة السابع عشر من ذى القعدة سنة عشرون وثلاثمائة وهو المشهور بسيدى الغريب).
ونقلا عن جريدة اليوم السابع فإنه كان قائداً عسكرياً عرف بالتقوى والزهد، ذاع صيته في سنة 926 ميلادية، عندما اعترض القرامطة الحجيج، بعد أن أدوا الفريضة، والقرامطة فرقة باطنية حاربت كل من الدولتين العباسية و الفاطمية ، فقطعوا على الحجاج الطريق، وأسروا النساء وأبناءهن، وثار الناس فى بغداد، وكسروا منابر المساجد يوم الجمعة، وصرخت النساء فى الطرقات، وطالبن بالقصاص من القرامطة. وظل مسلسل عدوان القرامطة على المدن والحجاج يتكرر كل عام، وليس هناك من يؤدبهم أو يوقفهم عند حدهم، فلم تسلم منهم مدينة، حتى مكة اعتدوا عليها وعلى مقدساتها فى سنة 929 ميلادية.
وتضيف الجريدة أن هناك رواية شعبية تقول إن مؤسس الدولة الفاطمية عبد المهدي عندما علم بنبأ مهاجمة القرامطة لمصر وللحجاج أرسل أبا يوسف "الغريب" على رأس حملة عسكرية إلى مصر عام 936 ميلادية، فتقدمت الحملة من القاهرة حتى بلبيس ومنها إلى القلزم (السويس)، والتقى مع القرامطة فى معركة حاسمة هناك، واستشهد الغريب فى هذه المعركة ليلة الجمعة 17 من ذى القعدة عام 320 هجرية.
ودفن فى الضريح الذي أقامه السوايسة له الآن مع أربعة من مشايخ الصوفية، الذين كانوا معه فى المعركة وهم الشيخ عمر والشيخ أبو النور والشيخ حسين والشيخ الجنيد، وقتها أطلقوا عليه اسم عبد الله الغريب مرجعين ذلك إلى أن البشر كلهم عبيد الله لذا فهو عبد الله، وحضر فى مهمة تتعلق بتأمين طريق حجاج البيت الحرام.
أما لفظ الغريب فلكونه ليس من أبناء السويس، وإنما ترجع أصوله إلى المغرب فأصبح اسمه عبد الله الغريب.وأصبح قبر وضريح الغريب بعد وفاته مزاراً لحجاج بيت الله الحرام وبه بئر للسقاية، كان الناس جميعًا يشربون منه طوال العام قبل أن تشق ترعة الإسماعيلية التي تمد السويس بالمياه العذبة.
ومن الحكايات الشعبية لبركات هذا الولي، أنه بعد حصار السويس في 22 أكتوبر 1973، إبان حرب أكتوبر، حاصرت قوات الاحتلال الصهيوني ترعة الإسماعيلية، وقطعت المياه عن أهالي السويس، فإذا ببئر سيدي الغريب تتفجر لتسقي كل أهالي السويس.
مسجد السيدة حورية ببنى سويف
تصل إلى مسجد السيدة حورية ببنى سويف عبر شارع ضيق تحدوه من الجانبين بعض المقاهى الشعبية وبائعى الخضروات..ولا يخطر ببالك أن ينتهى الشارع بهذا الصرح المعمارى الضخم، فمسجد السيدة حورية مكون من عدة مساجد ضخمة يفصل كل واحد منها عن الآخر دهليز طويل..ويوجد فى كل مسجد ضريح من أضرحة أولياء الله الصالحين ويأتى الناس من كل حدب وصوب للتبرك بهم والتبرع بالمال والإحسان إلى الفقراء..وفى الواقع لا تكفى زيارة واحدة للتعرف على المسجد فهو من الوسع والارتفاع ما لا يجعلك تتخيل أن جامعا كهذا يقع فى تلك المحافظة الصغيرة التى لا نعرف الكثير عنها. لكن من هى السيدة حورية؟
مسجد ومقام السيدة حورية'، يعد الأشهر بين مساجد مدن ومراكز المحافظة السبع من الواسطى شمالا وحتى الفشن جنوبًا، خاصة وأنه يتميز بوجود ضريح ومقام لإحدى حفيدات الحسين بن علي، وصاحبة المقام و اسمها زينب الحسينية شرف الدين«زينب الصغرى»، ويمتد نسبها من الأب إلى الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب، ونسبها من الأم يمتد إلى بنت كسرى ملك الفرس، وحظيت باسم حورية نظرا لجمالها وتقواها.
يُعتقد أنها رافقت الجيوش الإسلامية في فتح مصر، وأظهرت شجاعة فائقة في قتالها جنبا إلى جنب مع الرجال خلال معركة (البهنسا) بالمنيا جنوب مصر وبعدها استقر موكبها في مدينة بني سويف، وتوفيت بكرا ولم تتزوج، ودفنت بمكان إقامتها.والبعض الآخر يقول أنها لم تولد بعد في فتح مصر وأنها جاءت مع آل بيت النبي إلى مصر بعد معركة كربلاء.
وبنى «محمد بك إسلام» مسجداً بجوار ضريحها والذي أصبح جزءا من المسجد، وأتم بنائه نجله عثمان بك سنة 1323 هجرية، بجوار الضريح القديم الذي أصبح جزء من المسجد وجناحا يقع على يمين الداخل من الباب الأيمن واستحضر له مجموعة من المهندسين الإيطالين المهرة، وأتمه من بعده ابنه عثمان بك عام 1323 هجرية. والمقام الكائن في نهاية المسجد ويفصلهما باحة، وتوضع لافتة تحمل سيرة السيدة حورية في أحد حوائط الباحة، بجوار باب مقامها.
تحتفل الطرق الصوفية ببنى سويف فى الأسبوع الأخير من شهر شعبان بمولد السيدة حورية حفيدة الإمام الحسين، وتقام السرادقات بالساحة المواجهة للمسجد والشوارع المحيطة به بمدينة بنى سويف، وينتشر الباعة على جانبى الشارع المؤدى الى المسجد لعرض بضاعتهم من البلح والفول السودانى والهدايا، وكذلك الملاهى وألعاب الأطفال. وتستمر الاحتفالات أسبوعا ختامها الليلة الكبيرة وتغلق خلالها إدارة المرور الشوارع المؤدية للمسجد بالحواجز الحديدية وينتشر ضباط وأفراد الأمن لحفظ النظام بالمنطقة التى تكتظ بالزوار .
مسجد عمرو بن العاص بدمياط
فى الواقع أن كثيرين لا يعلمون أن القائد عمرو بن العاص بنى أكثر من مسجد فى أنحاء مصروليس فقط مسجده الشهير بالفسطاط والذى يعتبر أول جامع بنى بمصر.هناك مسجدان غير جامع الفسطاط: الأول بمدينة دمياط والثانى بمدينة قوص من ضواحى الأقصر بجنوب البلاد. هو ثانى مسجد بنى فى مصر ويعد من اشهر مساجد دمياط..بناه المسلمون عام 21 هجريةــ 642 ميلادية على طراز جامع عمرو بن العاص بالفسطاط وبه كتابات كوفية وأعمدة رومانية..شيدة الصحابى المقداد بن الأسود..ويطلق عليه أسم الفتح نسبة إلى الفتح العربى. والصراحة أننى بهت من كبر حجم الجامع ومعماره وفخامة سجاده وأسقفه ولم أكن أتصور أن مدينة دمياط تحوى هذا الكنز المعمارى.
المسجد يتكون من قبة في وسطه، يحيط به أربعة إيوانات ويوجد بالجهة الغربية المدخل الرئيسي للمسجد وهو مدخل بارز عن جدرانه وبالقرب من الباب توجد قاعة المئذنة المربعة التي تهدمت إثر زلزال في العصور القديمة. ومن العجيب أن المسجد تحول عدة مرات من جامع إلى كنيسة ومن كنيسة إلى مسجد فى عهد الصليبين وحوله الملك لويس التاسع إلى كاتدرائية أقيمت بها عدة احتفالات وتم بها تعميد ابن لويس الذى سمى بــ ( تريستان) أى الحزين لأنه ولد وسط أهوال الحرب. عند طرد الصليبين قام الفاطميون بترميمه.
أما حديثا فقد تم ترميم مسجد عمرو بن العاص على غرار مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط وهو عبارة عن صحن مكشوف يحيط به أربعة أروقة أكبرها رواق القبلة أي الرواق الجنوبي الشرقي وتم تجديده وزيادة مساحته عام 500 هجرية 1106م، ظل المسجد قائما بعد التجديد الفاطمي حتى 1250م حتى أصدر أمراء المماليك أمرهم بتخريب دمياط لكنهم أبقوا على هذا المسجد. كان المسجد يعاني من ارتفاع منسوب مياه الرشح بالمنطقة المجاورة، وقد بدا منذ عده سنوات مشروع لخفض هذا المنسوب وتقرر البدء في رفع ارضيه المسجد وترميمه بتكلفه بلغت 66 مليون جنيه.
وقد تمت إعادة افتتاح المسجد أمام المصلين في يوم الجمعة 8 مايو 2009 والذي يوافق عيد دمياط القومى الذي يتزامن مع انتصار شعب دمياط على الحملة الصليبيه بقياده لويس التاسع ملك فرنسا.
مسجد أبو مندور برشيد
تقع منطقة تل أبومندور جنوب مدينة رشيد وهى مجموعة من التلال الرملية على هيئة ربوة بجوارها مسجد سيدى أبى مندور الذى أصبح مقصدا للسياحة الداخلية بمحافظتى البحيرة و كفر الشيخ..وقد بنى المسجد عام 1312هجرية/1897 ميلادية.
سمى المسجد بهذا الاسم نسبة إلى العارف بالله «محمد أبو مندور»، والذي اشتهر بأبو النضر لقوة بصره ويرجع نسبة إلى الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه من زوجته فاطمة الحنفية التى تزوجها بعد وفاة زوجها محمد بن الحنفية وهو شقيق الحسن والحسين من الأب.
حضر العارف بالله إلى رشيد عام 991 ميلادية، وعاش برشيد 11 عامًا، وبُنى المسجد في تلك الفترة، وكان يعلم الناس أمور دينهم به حتى وافته المنية عام 1002 ميلادية. جُدد هذا المسجد عام 1321 ميلادية، وفي عام 1987 سجلت وزارة الآثار مسجد «أبو مندور» ضمن المساجد الأثرية التي تتبع الهيئة العامة للآثار الإسلامية.
هناك الكثيرات من النساء في مدينة رشيد يتباركن به فيقال إن هناك بئر ماء يوجد بجوار المسجد تأتى إليه النسوة اللائى حرمن من الإنجاب فتغتسل منه ليرزقها الله نعمة الأبناء، وأيضًا من الشائع هناك أن التراب الموجود بجوار المسجد يعالج من بعض الأمراض الجلدية..

***

رمضانيات... 4 - 2024
جينات الإيمان

هل الإيمان قدر أم إختيار؟ سؤال ظل يشغل بال الإنسانية منذ أن عرفت الأديان..
منذ القدم والإنسان فى صراع داخل منظومة الخليقة بين وجوده المادى برغباته وأطماعه وطموحاته وبين الضوابط التى تحد منها متمثلة فى الإيمان والدين ,والقيم و الإخلاق...
جاء العالم الأمريكى (هامر) عام 2004 باكتشاف مزلزل وهو ( جين الإيمان) أو ( جين الله)..وهو ما أجج الإعتقاد بعدم مسؤولية الإنسان عن درجة إيمانه..وهو فعلا مطابق للواقع فليس لكل الناس نفس الدرجة الإيمانية...
تتبعت الجديد فى البحوث المرتبطة بالاكتشاف منذ عام 2004 فلم أجد غير أحاديث عن القدرية والإختيارية وسر وجودنا على الأرض..
لقد أثار الاكتشاف جدلا كبيرا فى جميع الأوساط فهو الأول الذى يتحدث عن عمل الجينات بعيدا عن الشق البيولوجى للإنسان..ولكن عقب عقدين بعد عن الأنظار لأنه موضوع علمى بحت يصعب فهمه فى أوساط جماهيرية غالبيتها غير متخصصة...
أحمد كفافى
هناك الملايين من المؤمنين حول العالم الذين يشقون طريقهم إلى الخلود بوعظ وإرشاد من رجال الدين من مختلف الديانات. كل فئة تعبد الله على طريقتها ..يختلفون أو يتحدون ولكنهم يعتقدون أنهم يتبعون السبيل الصحيح إلى الرضا الإلهى,,درجات تمسكهم بالدين تتنوع وتتلون عقائدهم وفق تقاليد دينية وسياسية واجتماعية ثابتة. فإذا كان تلك خصائص كل المؤمنين، فإن العلم قد أتى بسمة بيولوجية تجمع كل هؤلاء فى بوتقة واحدة..ألا وهى (جين الإيمان) أو (جين الله).
هى مسألة قد تبدو عصية على الفهم للوهلة الأولى، فجين الإيمان مسؤول عن كياننا الروحى ودرجة الإيمان التى يحملها كل منا تجاه الخالق عز وجل. إنها قضية يمتزج فيها العلم بالأسطورة..قضية فجرت معارضة كبيرة من قبل رجال الدين حول العالم. (جين الله..كيف يلتحم الإيمان بالجينات الإنسانية) هو عنوان الكتاب الذى نشره دكتور (دين.إتش هامر) الأستاذ بالمعهد القومى للسرطان بجامعة هارفرد عام 2004 والذى أثار جدلا ساخنا بين عامة الناس ورجال العلم والدين على السواء.
قد لا يكون الجدل جديدا ولكن بعد عصور تلت نظريا ت ديكارت وداروين والتطور الطبى والتكنولوجى الحالى، فإنه يعود بشكل مختلف، فعقب سنوات طويلة من الأبحاث جاء (هامر) ليزعم انه أكتشف ( فى ام ايه تى 2) وهو جين يبدو أنه مرتبط بالسمو الروحى...أى القدرة على نسيان الذات أو الخوض فى تجربة أو شعور مرتبط بعالم أو كون أكبر...
كل هذه سمات يتحلى بها المؤمن الصادق ولكن وفقا لتلك الفرضية ــ حسب ما قال (هامر) فإن درجة إيمانك أو إلحادك تتحدد بنوع جيناتك..فما ما يميز المؤمن عن الملحد هو (جين الإيمان) ولكنه يعود ليشدد أن جذور الجينات الروحية ليست مردافا لجذور الدين الجينية..ويضيف أن السمو الروحى حالة عقلية بحتة، أما الدين فإنه الحالة التى تتحول فيها هذه الحالة إلى قانون: السمو الروحى تجربة ذاتية أما الدين فهيئة مؤسساتية. ولا يترجم جين الإيمان بالضرورة إلى نوع من البحث الدينى،فقط هؤلاء ممن لهم درجة عالية من السمو الروحى هم القادرون على المضى فى هذا النوع من البحث.
لقد خلقت نظرية (هامر) نوعا من الحيرة ولاسيما عندما تشكك عدد غير قليل من العلماء فى المجال الطبى فى اكتشافه، أما رجال الدين فاتهموه بالجهل بالمعايير التى تحدد سير الإيمان داخل نفس الإنسان. ولكن فجر الاكتشاف من جديد السؤال الذى اختمر فى كيان عامة الناس منذ قرءوا خبر (جين الله): فاذا كان هناك جين للإيمان فهل الفرد مسؤول عن أفعاله؟ أم أن القضية بأسرها تحكمها القدرية!
كلنا نعلم أن الإنسان مخلوق بحاجة فطرية إلى قوة جبارة عصية على الفهم ترجمها الإنسان فى العصور القديمة إلى عبادة الظواهر الطبيعة كالشمس والقمر والنجوم أو الأصنام والملوك فى مرحلة أخرى. ولقد أظهرت البحوث فى العلوم الجينية أن الإنسان لا يكون مخيرا فى بعض سلوكياته، فالمجرمون على سبيل المثال لهم ميول إجرامية بسبب وجود جينات مرتبطة بالإجرام فى كيانهم الروحى، وبالمثل فإن محبة أو خشية الله ما هى إلا ردود أفعال فطرية مرتبطة بحضور متفاوت فى جينات المحبة لله أو الخوف منه.
لكن تتعارض النظرية أيضا مع أى نوع من التحول: فكيف نفسر التغير الذى يعترى فاجرا يتحول تدريجيا إلى قديس؟ أو مجرما إلى مصلح اجتماعى! فهل يترجم هذا التحول إلى تغير فى أصول الجينات؟ الحق هناك أسئلة كثيرة تفرض نفسها، لكن دعونا نروى قصة الاكتشاف أولا ونستمع إلى أراء المتخصصين ورجال الدين.
بدأت القصة حينما شرع (هامر) عام 1998 فى إجراء اختبارات على المدخنين ومدمنى المخدرات فى ( المعهد القومى للسرطان)..وقد تناول شق من هذه الاختبارات قياسا للسمو الروحى ودرجاته عند ألف من الذين خضغوا للقياسات المعملية، وأظهرت النتائج التفاوت فى درجات السمو الروحى من أعلاها إلى أدناها..مما حدا بــ( هامر) أن يجرى اختبار (دى ان ايه) ليعلل الفروق بين هؤلاء فى درجات الإيمان. فحصر بحثه فى تسع جينات مرتبطة بوظائف حيوية كالمزاج والتحكم فى الآلة،فبدا أن ( فى ام ايه تى 2) هو المتحكم فى درجة السمو الروحى.
ولكنه أكد أن هذا الجين ليس وحده المتحكم فى تلك الخاصية، إنما هى عملية معقدة تدخل فيها مئات الجينات. لكن سبق تلك النتائج محاولات ثانوية قام بها فريق من جامعة مينسوتا عام 1979 حينما خضع لاختبار جينى 31 من التوأم المتطابقة وغير المتطابقة الذين تفرقوا عند الولادة فتيبن أن التوأم المتطابقة تحمل نفس السمات الجينية ومن بينها السمو الروحى أكثر من نظيراتها غير المتطابقة.
لقد أصبحت القضية محط أنظار الصحافة العالمية ولكننا نخص بالذكر مجلتى ( التايمز) الأمريكية و ( روز اليوسف) المصرية حيث سلطت كل منهما الضوء على ( جين الإيمان) كموضوع للغلاف.. ما لفت النظرإلى التناقض فى كل من الرؤية الإسلامية والغربية، فبينما تناولت (روز اليوسف) الشق الثانى من الموضوع وهو رأى رجال الدين، راحت مجلة (التايمز) تشدد على أن الدين عنصر موحد وأن النظرية تنطبق أيضا على ديانات أخرى كالهندوسية والبوذية. وتضيف (التايمز) أن جمال الدين وصفاءه يكمنان فى العبادة الفردية وسط عالم تستعر فيه الصراعات والحروب بسبب الدين.. ونوهت باحتجاج متحفظ أن جينات الإيمان قد لا تكون موزعة بالتساوى على سائر البشر..ما ترك الإنطباع أن المجلة قد سلمت بصحة النظرية لتبرر الواقع السياسى.
أما (روز اليوسف) فقد ملئت الفراغ الذى تركته مجله (التايمز) بإهمال أراء رجال الدين وغيرهم من المتخصصين فى مجال فلسفة الأديان فكتبت أن الإيمان أو الإلحاد ما هما إلا نتاجا للثقافات والقيم الأخلاقية السائدة وأن الإنسان يولد باستعداد فطرى تجاه الخير والشر على السواء، فالقوانين الوضعية والإلهية تجعله مسؤولا عن أفعاله، أما فى ضوء نظرية جينات الإيمان فإن مفهوم العقاب يتهمش وينزلق إلى الخلف..فلو كان هناك عقاب فلابد أن يتنافى مع نظرية جينات الإيمان، التى لو كانت لها اليد العليا لعفت الإنسان من مسؤوليته عن أفعاله، وبهذا يصبح من شأن جين الإيمان أن ينحى جانبا دورالثقافة والمجتمع، فالأيمان قوة غريزية يمكن أن تعمق بالعبادة والتقوى أو تتلاشى بفعل الوعظ المنحرف المغلوط.
فأما هؤلاء الذين ناقشوا الموضوع من وجه نظر دينية فكانوا بالضرورة مؤمنين متدينين..فالمتدين ينتهى إلى نتائج لا تتعارض مع الدين. ولكن أيد بعض رجال الدين نظرية جينات الإيمان، ففى رأيهم أن الجين هو الدافع الأكبر وراء حاجة الإنسان إلى الدين وهو ما يتساوى و الرغبة فى الحياة و البقاء لكنه أمر لا خيار للأنسان فيه غير أنه مازال مرهونا بإرادته، فالجينات هى التى تحدد قوة الإيمان فى عمقها أو وسطيتها أو ضعفها ولكن هذا لا ينفى دور المجتمع الذى يلعب بدوره دورا غير هامشى فى تشكيل عقيدة الفرد وتوجهه نحو الدين.
لقد عبر بعض علماء الأحياء والأخصائيين النفسيين العرب عن وجه نظر مشابهة لكن بمصطلحات علمية بحتة. قال البعض إن العقل لا الجينات هى مركز الإيمان عند الإنسان، فالإيمان آلية عقلية عاطفية تتوقف لو تعطلت وظائف العقل، فالمجنون يضيع إيمانه لأن لا سيطرة له على العقل، فالسلوك الإنسانى ما هو إلا مزيج من تفاعل العوامل البيولوجية والبيئية.
لقد أثبتت التجارب مرونة العقل وتغيراته نتيجة تغير العوامل البيئية، والتى تنتقل من جيل لجيل وراثيا. الله داخل العقل والقلب ولا تحتاج أن تشعر به فى جيناتك، فجين الإيمان يأتى هنا فى أسفل القائمة. كثيرون أعترفوا أنهم لم يقبلوه ولم يرفضوه كلية..فحتى الآن لم يستطع هامر أن يجمع الأدلة الكافية لتأكيد صحة فرضيته، قضية حساسة ومعقدة لا يمكن قياسها بالاختيارات المعملية، ولأثبات فرضية (هامر) يجب أن تجرى معامل أخرى نفس الاختبارات وهو لم يحدث حتى عام 2004.فقياس الإيمان عبر الجينات لا يحمل قناعة للكثيرين الذين يؤمنون بالدور الحيوى للثقافة والبيئة.

***

رمضانيات 2022 (3)
حرية الاعتقاد فى القرآن الكريم

مما لاشك فيه أن الحرية هى القوة الدافعة لكل الناس والأفراد..لكنها تصبح مجالا حرجا عندما يتعلق الأمر بالدولة والسياسة والدين، فالثلاث يمثلون الحرية الفكرية وهى مساحة حساسة فى سلسلة من الجدل ترتبط بحرية الاعتقاد التى كانت موضع نقاش رئيسى فى حوار الحضارات، ولذا فالمنظور الإسلامي للأمر يعتبر من الأهمية بقدر لأنه يشكل رؤية المسلمين حول الموضوع.
نحن نعيش فى عصر يشدد فيه المجتمع الدولى على نداءات السلام بصفة مستديمة، لكن الواقع السياسى يعكس موجات من المواجهات العدائية التى تأجهها الكثير من العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية..ولما كان المسلمون جزءا من تلك المواجهات ، كان عليهم أن يتصدوا لوصمة الإرهاب الدينى.
البعض يعتقد أن الأمر قد حُسم بفعل الدسايتر النى كفلت حرية الاعتقاد، لكن هذا أمر يخالف الواقع، فالمسألة تقع فى إطار الإيمان لا الدساتير أو القوانين، فحرية الاعتقاد تترفع على أن تكون حقا يهبه الإنسان للإنسان.
ولما فشلت الدساتير والهيئات القانونية فى حسم الأمر كان من الضرورى دراسته فى ضوء القرآن الكريم الذى يعكس رؤية المسلمين للأديان الأخرى. كان كتاب (حرية الاعتقاد فى القرآن الكريم) للكاتب التونسى عبد الرحمن حللى جهدا ممدوحا فى هذا المضمار.برغم صدوره عام 1989 فهو يتفرد دون غيره بوجه نظر فريدة: الجديد فى الكتاب ــ الذى قمت بكتابة عرض له منذ عدة سنوات بعد أن اخترته من بين عشرات العناوين المشابهة ــ أنه يركز بجانب التفسيرات القرآنية وأراء الفقهاء على الدراسات التى أنجزت فى مجال الحريات وحقوق الإنسان.
اتسمت علاقة المسلمين بغير المسلمين بالتسامح على مر التاريخ الإسلامى.فبينما محت أوروبا كل أثر للحضور الإسلامى فيها، احتفظ العالم الإسلامى بأقليات مسيحية ويهودية و زوردشتية، لكن لم تعف تلك السياسات المتسامحة الباحثين من تناول القضية من وجهة نظر فكرية فتطرقوا لمسائل شديدة الحساسية كالجهاد والردة والجزية وغيرها مما قد يكون له أثر سلبي أو إيجابي على حرية الاعتقاد.
لقد اكتسبت القضية مزيدا من الأهمية بعدما بدأت الأمة الإسلامية تأخذ بنموذج الدولة الحديثة.شدد حللى على أن الدراسات الحالية تركز على أحقية المسلم فى أن يمارس حرية الاعتقاد...يقول الكاتب بما أنها المرة الأولى التى تناقش القضية من وجهة نظر قرآنية بحتة، كان عليه أن يواجه صعاب شتى: أولها غياب مصطلح (حرية الاعتقاد) فى مصادرالإسلام الكلاسيكية وثانيها غلبة الطابع الفلسفى على المصطلح فى حالة العثور عليه وثالثها ارتباط الموضوع بقضايا سياسية وتاريخية وفقهية.
يأتى الكاتب بست آيات قرآنية من شأنها أن تمهد لثبوت حرية الاعتقاد فى الإسلام:
الأولى : لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(البقرة 256)
الثانية: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس 99)
الثالثة: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (الزمر 15)
الرابعة: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ(هود 28)
الخامسة: لكم دينكم ولى دين (الكافرون 6)
السادسة: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (الكهف 29)
فمعانى الآيات واضحة وصريحة فهى تشدد على أنه لا إكراه فى الدين، فلو شاء الله لآمن جميع من على الأرض ومهمة الرسل تقتصرعلى تبليغ الرسالة وليس على فرضها. لقد حبا الله الإنسان الإرادة فإذا ما بُلغ رسالة الرسل فإنه يختار الطريق الذى تمليه عليه إرادته لكن لا يمكنه أن يجبر غيره على اعتناق أى دين باستخدام القوة. فما ( لكم دينكم ولى دين) إلا المبدأ الذى يجب أن يفصل بين فئتين تتنازعان بشأن العقيدة.
يأتى حللى بآيات اخرى غير مباشرة تؤكد نفس النتيجة، فلا إكراه فى الدين لأن الله شاء أن يعيش الناس على الأرض كأمم وقبائل مختلفة.
(فلو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون يختلفون (هود118)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (يونس 19)
جميعها تشدد على أن الله شاء ألا يكون الناس أمة واحدة..فحكمته أبت إلا أن يخضع الإنسان لاختبارالاختيارو يحاسب على أساس الحرية التى وهبه الله إياها.. فالله فى نهاية الأمر يفصل بين الناس يوم القيامة. أما مهمة الرسل فتتلخص فى حماية تلك الحرية ودعوة الناس وفق الرسالات السماوية التى تنبذ الإجبار.
ولما لام بعض الرسل أنفسهم على عناد أقوامهم فى قبول الدعوة، فإن الله أوحى إليهم بأنهم مسئولون فقط عن الجدل والإقناع فلا يحق لهم الإكراه والإجبار..
فالله أودع فى وعى الإنسان النزعة الفطرية للحرية وشدد على جدواها فى خلق أفق من الفكر الإنسانى يسعى به الخلق إلى سبرأغوار الحقيقة واكتشافها، وبذلك تحرر فكرالإنسان من غلبة تأثيرالإيمان بالمعجزات والخوارق عليه. فالعقل المتحرر من وطأة الخوارق وإملاءات الإجبار سيتمكن من الوصول إلى الإيمان عن طريق الفكر السليم.
فحرية الفكر واحدة من أعمدة الإيمان الحق..فلقد رفض الإسلام إتباع التقاليد والنماذج دون إخضاعها لسلطة العقل..فالتقليد الأعمى يتنافى ومبدأ الإختيار والمسئولية التى تترتب عليه.. فهى لا يناقض فقط الحرية ولكنه مرادف آخر للإجبار.
سبق نقاش الكاتب حول موضوع الكتاب تمييز هام بين حرية الإعتقاد والحرية الدينية.. فوفق ما يقول حللى إنه برغم من ارتباط الاثنين ببعضهما البعض، إلا أنه يجب أن نفصل المفهومين كل علن الآخر..فحرية الاعتقاد أكثر شمولية وتندرج تحتها الأفكار والمبادىء والمفاهيم، سواء كانت دينية أو غير ذلك..أما الحرية الدينية فترتبط ارتباطا وثيقا بعدد من الواجبات والالتزامات.
لكن يحذر الكاتب من أن تترجم حرية الاعتقاد إلى حق شرعى للخوض فى معتقدات متنوعة..كما أنها يجب ألا تتطورإلى نوع من الجدل ضد الدين او الثورة على النظام الحاكم أو العبث بمعتقدات الآخرين وحقوقهم.
يدور النقاش القائم فى النصف الثانى من الكتاب حول هذا التمييز..فلما وقعت الردة والعدوان على عقائد المسلمين..حُق الجهاد ضد محاولات و جهود منظمة كان هدفها إشاعة الفوضى فى الدولة الإسلامية وفرض القيود على حرياتها.
لقد كانت حروب الردة نوعا من حماية حق الاعتقاد..وأضحى استمرارها ضربا من ضروب ردع الأعداء لفرض عقائدهم على المسلمين. أما الجزية ففرضت فى وقت لم يعهد فيه للأقليات الدينية بالمشاركة فى الدفاع عن الوطن.ثم أصبحت بديلا للزكاة إلى أن سقطت تماما بعد تم أن إدماج تلك الأقليات فى الجيوش الإسلامية.


***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى