أحمد إسماعيل عمر - بداخل كابوس.. قصة قصيرة

كانت امرأة ذات ملامح يبدو عليها الكبر وفى عينيها عجز العمى، تتخبط فى ضوء خافت عقب أذان الفجر؛ ممسكة عصاة طويلة بيديها النحيلتين تهوش بها فى نواحٍ متفرقة وهى تسير ذهابا وإيابا.
كنت مستلقيًا على الفراش إلى جوار زوجتى وابنتى الصغيرة ذات العامين.. كان فى عقلى شىء غامض مخيف لم أستطع تحديد ماهيته، وإنما كان يظهر وجه بشع لامرأة عجوز ممسكة بالعصا تهوش بها فى عماء وكأنها تدرأ عن نفسها هجوم لكائنات غير مرئية.. وجه لم تكن تظهر قسماته مفصلة بل غامضة مطموسة، وكل ما هناك أن الحالة التى أحياها تعطى انطباعا بأنه بشع.
حاولت النهوض فلم أستطع؛ ورغم أنى مغمض العينين كنت أرى هذه المرأة، وهى تقف بالقرب من السرير محاولة الاعتداء علىّ؛ ما جعلنى أشعر بالخوف لدرجة ثقلت أنفاسى وانكتم صوتى الذى وددت أن يخرج صارخا لعله يوقظ زوجتى لتنتشلنى مما أنا فيه؛ وفى لحظة خاطفة استطاعت أن تمرق وسط غياهب الخوف.. كان بمقدورى الشعور وليس المعرفة اليقينية بأن لتلك المرأة أمرًا جعلها تقوم بما تفعل من حركات عدائية بالعصا التى تمسك بها.
كانت الغرفة التى تبدت لى وأنا مستلقٍ على الفراش بينما عقلى ما زال يخبرنى بأن وقت الاستيقاظ للعمل لم يحن، فما زالت الساعة عند الخامسة فجرًا، كنت أرى بعينين مغمضتين ضوءًا فضيًا لشقشقة الصباح يملأ الغرفة التى كانت مغايرة تماما لغرفة نومى من حيث المساحة والتفاصيل؛ داخلا إليها عبر نوافذ زجاجية كبيرة لم أشاهدها من قبل؛ فغرفتى كانت ذات مساحة ضيقة لها نافذة صغيرة صارت مغلقة منذ حلول الشتاء التى تواريها ستارة كريهة الشكل صفراء اللون. ويقبع بداخلها سريران جعلتهما متجاورين لكى يتسعا لنا - لى ولزوجتى وابنتى - وكان هناك بجوار الحائط على يسار الباب مكتب طالما كان الجلوس عليه أفضل من مكان آخر، كى أنجز بعض أعمالى المتأخرة بداخل تلك الشقة؛ كان هذا الضوء ما زال فضيًا قاتمًا ينعكس على ثوبها الأسود فيملؤه ببقع كبيرة لامعة تغشى عينيّ؛ فى حين كنت أرتجف خوفا والعرق يتصبب على جبينى برغم برودة يناير. كرهت أن يطول الأمر كما أريد أن أنهض، فمجرد الاستيقاظ سينتهى الأمر تماما دون أى مشاكل أخرى.
لعنت زوجتى بصوت عالٍ، ولكنه مكتوم لا يتجاوز لسانى إلى الخارج بينما ما زال هناك شىء غامض يثقل على أنفاسى ويكاد يحبسها؛ لماذا لم تستيقظ ابنتى الصغيرة كعادتها صارخة لطلب الماء؟! ولماذا لم يرن جرس المنبه سابقا عن ميعادة كما فى بعض المرات؟! ولماذا أصبح نوم زوجتى ثقيلا على غير العادة؟! هل كل الأشياء ضدى؟! وكلما حاولت التدقيق فى وجه المرأة لم أظفر بشىء محدد، فهى فى هيئتها التى أراها عليها تشبه جدتى لأبى ولكن ليست هى؛ فالأخرى كانت تضمر لى كل الحب والحنان، وإنما من تكون تلك المرأة العجوز الغاضبة التى تحاول الدفاع عن نفسها بالعصا الممسكة بها أو ربما الاعتداء علىّ؟!
غاب عنى هذا المشهد حينما وجدت بعض الراحة فى اختفاء المرأة الذى جاء عرضًا ولبعض الوقت، حيث شاهدتها من زاوية أخرى تجلس وسط ثلاثة أطفال صغار فى عمر واحد لا يتجاوز تقريبا الخمس سنوات حيث تطعمهم بيدها التى لا تفتأ تغمس فى إناء لم أستطع معرفة ما به من طعام فيما كان وجهها مغتبطًا.
من المستحيل أن تكون أمًا لهم، بل ربما تكون جدتهم ثم فى اللحظات السابقة يغيب عنى هذا المشهد ليحل بدلًا منه ظلام أسود وصمت ثقيل له وطأة على أنفاسى، مع شعور قوى بالرغبة المستميتة فى الاستيقاظ برغم ما ينتظرنى من يوم حافل بالمشقة فى العمل التى قبلها تسبقها مشقة البحث عن مكان خالٍ فى المواصلات التى كنت أتنقل إليها كما لو أني أتنقل فى جحيم دانتى. فكل شىء كان هينًا فى نظرى إذا قدر على أن أستيقظ. أو حتى إذا تململت فى رقدتى لأغير وضع نومى على ظهرى الذى كنت متأكدا منه برغم عدم الشعور بجسدي، وكيف يكون وضعه فى تلك اللحظة.
ومن زاوية أخرى ثالثة غير تلك التى كانت فيها ممسكة بالعصا والأخرى التى تطعم فيها الثلاثة أطفال، حيث كانت فى تلك المرة تستمع لصوت لم أسمعه أنا، بل حدسته وهو أتى إليها ليخبرها عن مكان الأطفال، بعدما أنفقت كثيرًا من الوقت بحثًا عنهم بهلع ورعب، خوفًا أن يكون هناك من أذاهم. غير أن صاحب الصوت لم أكن أراه فى تلك اللحظة بل تمثلت لى المرأة العجوز وهى واقفة بجسد منتصب وتدنى أذنها إلى شىء خفى ربما تكون تستطيع هى رؤيته، ولكن لم يكن بمقدورى أن أراه. فظلت على ذلك لبرهة قصيرة، ثم جن جنونها كما انتابني الفزع والهلع والصراخ بصوت مكتوم، وذلك على إثر ما أخبرنى به حدسى بأن الصوت الذى أدنت له أذنها قد أخبرها بأننى أنا سارق الأطفال التى تبحث هى عنهم. لم يكن فى إمكانى الدفاع عن نفسى بصوت مكتوم وبجسد مكبل. فكل ما كان يجول عقلى من كلمات رتبتها بمشقة لأدافع عن نفسى، انحشرت ثم ضاعت هباء، حتى صار لعيني المغمضتين القدرة ليس على تبين الأشياء وإنما الظلام الذى كان ما زال مخيمًا بغرفة نومى، ثم شعرت بيد تربت على صدرى بينما كانت أنفاسى تتلاحق ويتناهى إلى سمعى صوت أعرفه يؤازرنى ويبعد عنى ما ألم بى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى