تركية لوصيف - الأراجوزاتى موسى والأخريات... قصة قصيرة

هذه خامس حصالة من الفخار أكسرها وأعد النقود التى وفرتها مما تقاضيته من صاحب مسرح الأراجوز،

إنه شحيح وبائس يعيش بمفرده فى بيت قد خصص جزء من مساحته للمتفرجين ، جلّهم من الأطفال الفقراء الذين حفظوا العروض ، كنت أستمتع من خلف الستار وأنا أصغى لصغيرتين ترددان الحوار المفترض ما بين العروستين السوداء والشقراء، وينتقل الشجار المفترض إلى حقيقة وواقع مر..

أعود بعدها مع زميلى خلف الستار ونواصل العرض بعد فض الشجار ،ويعود الهدوء إلى المكان وخرجنا يومها عن النص ، زميلى يردد: أحبك يا دميتى ثم يشرك الأطفال فى العرض و يسألهم : من يحب سيلينا أكثر منى ؟

الجمهور : نحب سيلينا ..نحب سيلينا.

-لماذا؟

-لأنها دمية وتحب الصغار..

تعرض موسى لعقوبة الفصل من المسرح ، رأيته يغادر غاضبا فاستوقفته حتى أفهم قرار ذلك البائس ولكن لم يمنحنى الفرصة ، استعلمت من الإدارة ، كان الفصل ورأيته قرارا تعسفيا فى حق موسى ، دخلت مكتب ذلك البائس فحمّلنى بعض الوزر مما حدث وهددنى بالفصل فصحت فى وجهه: أيها البائس أنا مغادرة بمحض إرادتى ..

أين موسى الآن !

فكرة التسكع فى سوق الأقمشة راقت لى حتى رأيت موسى داخل أحد المحلات ، كنت أختلس النظر لما يفعل !
ربما سيصمم عرائس جديدة ويخطط للعرض فى الشوارع ، كان يحلم بهكذا عروض ولكن قريتنا صغيرة وقليلة السكان ومعظمهم يعملون فى البستنة عند أحد الخواص.

علاقتى بموسى تعود لأيام تواجدنا بدار الطفولة المسعفة ، كان الوحيد الذى يقبل اللعب معى والحديث عن وجودنا فى هذا المكان الذى يعج بالأطفال مجهولى النسب ، كنت الللؤة السوداء الوحيدة بينهم وحتى موسى كان أشقرا ، كيف لطفلة سوداء أن يكون لها وافر الحظ فى مجالسة موسى ، كنت أرى الصغيرات عنصريات .

إنه عيد ميلادى الثلاثين وكان لابد من وجود كعكة من أرقى محل وأنا محاطة بهؤلاء العنصريات اللواتى قدمن للأكل وليس لمجاملتى ، نرجس التى تسعى للظهور على حسابى فى كل فرصة أكرهها وأضيق من تواجدها حتى مسرح العرائس اقتحمته وكانت تفشل فى كل مرة فأعوضها حتى لا ينسحب الجمهور.

كان يوم مولدى بحسب شهادة الميلاد التى لم أقرأ فيها سوى إسمى (سيلينا )، من أطلق هذا الإسم كان موسى وكان يكبرنى بثمانى سنوات ، كان يعتنى بى ويضمنى إليه كلما تعرضت لبطش الصغيرات العنصريات ، كان يدافع عنى ويقول : إنها دميتى السوداء !!

جميعنا فى أرقى مطعم يقدم الحلويات والشاى وحتى تنظيم أعياد الميلاد ، كانت فكرة موسى وسعدت بها ولكن أراه قد تأخر فى الحضور وأرى الآن العنصريات يتهكمن .

أرى الأشقر يدخل من الباب الدوّار وهو يحمل علبة طولية الشكل وقد لفّت بشريط أسود، ابتسمت لأنى أدرك أن كل لون أسود هو ملكى ، لم يضعها على الطاولة بل كان يمسكها بقبضة محكمة ثم نادى النادل : أحضر الكعكة وشغّل موسيقى هادئة فهذا عيد ميلاد رفيقتى ومؤنستى ولؤلؤتى السوداء.

كنت أرى المحل لا يتسع للأخريات ، بعد تقطيع الكعكة والتقاط الصور ، وجدتنى بين ذراعى الأشقر يراقصنى مثل الأميرات ثم همست فى أذنه : ماتحويه تلك العلبة؟

استوقفنى قليلا وطلب انتباه الجميع: سيكون لنا مسرح خاص بنا ، واخترت ممثلة من بينكن حتى تجوب معى العالم ونعرض عروضنا فى الشوارع وسأطلب من سيلينا فتح العلبة الآن .

وجود الشريط الأسود على العلبة كاف لأطمئن وأكون أنا من تجوب العالم بمسرح العرائس، كانت عروس سوداء، فرحتى كانت كبيرة ، أنا من سترافق الأشقر فى جولاته .

تذمر كبير من الحاضرات ، عانقت الأشقر وغادرنا المطعم وأنا ألوح للمارة بالعروس السوداء…
تبادر إلى ذهنى هذا السؤال: من أين لك بالمال ياموسى ؟
لقد دفعت للنادل بسخاء، وجلبت لى دميتى السوداء.
كان يبتسم وفهمت أن وراء هذه الإبتسامة مقلبا ناجحا ، فأنا أعرف مشاكساته منذ الطفولة ، كان يسرق ممتلكات الأطفال ويبيعها فى السوق ويجلب بثمنها شكولاطة ولكن هذه المرة غابت الشكولاطة.
-كل ماجناه ذلك البائس الذى استغل جهودنا فى مسرح العرائس صار بجيبى .
-هل اختلست ماله ؟ سيشكوك للشرطة !
بعد عمر طويل إن شاء الله ( يضحك بنشوة النصر )
-لن أرحم أحدا ،سأصبح غنيا وسأتزوجك يا سلينا، هل تقبلين عرض الزواج ؟
تحسست حرارته ، أمسك بيدى وطبع عليها قبلة وقال : سننتقم من هذا العالم البائس !
رأينا نرجس تركض بإتجاهنا وكانت تلهث ، لم يمنحها موسى فرصة استعادة أنفاسها التى كادت تنقطع .
-نرجس ياوجه النحس ، ماالأمر؟
-الشرطة ..الشرطة ..تبحث عنكما ، ذلك البائس أبلغ عنكما ، ولكن ماذا فعلتما ؟؟
– غادرى ، الوقت ليل ، عودى إلى وكرك يا مشردة .
-لن أفعل ، سأرحل معكما .
ضاق صدرى من وجود نرجس فى حياتى ،إنها هنا لأجل موسى ، شيء من الحب تكنه له ، إنها شقراء جميلة وتناسبه .صمت ساد للحظات وتنهيدة موسى العميقة كانت بسبب تذمرى .
صفير سيارة الشرطة تجعلنا نفر من المكان .انتهى بنا المطاف عند ميناء وكانت السفن تغطى المياه وأصبح موسى المشاكس قائدنا ونتلقى منه الأمر فننفذ فحسب ، غاب بريق الحب من عينيه واستبدل بنظرة الشر .أمرنا بالسباحة والتخلص من أغراضنا ولكن رفضت التخلص من عروستى السوداء وحتى نرجس تمردت فحقيبتها الصغيرة تحوى أحمر الشفاه وفستانها الأحمر المسروق من أرقى محلات المدينة..
وافق على مضض وقفزنا فى المياه ، نرجس تظاهرت بالغرق حتى ينقذها موسى ، صارت بين ذراعيه الآن ، بينما أنا كنت من وجدت المنفذ ، كانت سفينة تجارية ، تحوى صناديق الفاكهة التى ينتجها فلاحو البلدة .نمنا ليتها نوما عميقا، استيقظ موسى قبلنا وقال: إنها طيور النورس . !.
فركت نرجس عينيها ، إنها كسولة ، فتحت حقيبتها وأخرجت المرآة وأحمر الشفاه واستخدمته على شفتيها ،موسى متذمرا: لن ينفع جمالك فى هذا الموقف ، كل الحيطة والحذر مطلوبتان منكما ، سيلينا راقبى المخرج .
لم أر أحدا من راكبى السفينة ، ربما هم نيام قلت : لنقفز فى المياه وفعلنا ..سبحنا حتى وصلنا للمرفأ وكان التعب قد أنهكنا.
اخترقنا جموع الزبائن وقررنا تقسيم الأدوار ، أنا خادمة السيدة الشقراء وهذا أسعدها ورأيتها تبتسم بخبث استفزنى ، أنا حرّة ويمكننى تركهما وشأنهما ولكن موسى حثنا على الصمود والتكاتف فيما بيننا..
تعرف إلينا أحد الحمّالين يعمل فى السفينة التجارية منذ سنوات ،اقترب منّا و ابتسامته تسبقه .
-حمدا لله على نجاتكم من بين يدى الشرطة.
ثلاثتنا فى حالة من الذهول
-ولكن ؟
-هل نمتم جيدا ؟
– ثلاثتنا : حمدا لله وشكرا على قضاء الليلة على سفينتكم
-صاحب السفينة يريدكم فى أمر يعود بالنفع عليكم.
تبعنا الحمّال واجتزنا الممر الخشبى الذي يوصل السفينة بالمرفأ،الحمّالون ينزلون البضاعة بكل نشاط ، دخلنا لمخزن المؤونة ، كان هناك إبريق من الشاى يفوح عبقه محضر للتو ، وكان الرجل حسن الهندام ومتوترا ، أشار للحمّال بالمغادرة وطلب منا الجلوس فجلسنا وتوسطنا موسى وكل واحدة شدّت على يد..اأطال صاحب السفينة النظر إلينا ثم قدم لنا أكوابا من الشاى و عاد لمجلسه ..
كنا نستمتع بمذاق الشاى ونتبادل نظرات الإستفهام بيننا ، وضع موسى الكوب وقال :هات ماعندكم ياسيدى !!
-لى ابنة وحيدة تمردت منذ سنوات وأريدك أن تعيدها للبيت .
قام وأخرج من الدرج صورتها وناولها لموسى ، اندهشنا لجمالها ورشاقتها وحلو ابتسامتها واتساع عينيها وشعرها البنى المنسدل على كتفيها .
نظرت إلى نرجس كما لو أنها بلعت لسانها وأنا نظرت إلى سواد دميتى المقرفة ،موسى لم يبعد نظره بعد عن الجميلة .
-أين يمكن أن تكون ؟
-فى هذه البلدة .
-ولكن لم لم توكل المهمة لأحد موظفيك ، لم أنا؟
-اجعلها تحبك وتتزوجك وانجب منها أحفادى وستصير سيدا غنيا يوما ما .
-أقبل الشطر الأول فقط من عرضك هذا ، ولكن لا يمكننى الزواج !!
-هل أنت متزوج ؟
-أحب هذه السوداء ولا أريد غيرها .
-هل ترفض ابنتى أيها اللص ؟ !!
ذهلنا ، إنه يعرف كل شيء ، ولم يزعجنا ذلك اليوم ، وتركنا ننام ونرتاح ، يبدو أنّ له عيون بكل مكان تترصدنا وصرنا فى قبضته .موسى مصرّ على الرفض وصراخه يعلو، وصاحب السفينة تناول تحفة نحاسية وضربه على وجهه وسال دمه..إنه يسقط أرضا ونرجس تصرخ رعبا وأنا تقدمت من العنيف وأطرافى ترتعش وقلت : قبلنا عرضك ياسيدى ولكن نحتاج عدة الدواء حتى نعالج جرحه فى الحال أخشى عليه من العفن.
وضع بقربى العدة وغادر المكان ، رأيته يحدث حمّالين من خلال نافذة دائرية الشكل وهما يصغيان بانتباه ، مسحت الدم ووضعت ضمادة على الجرح كانت نرجس قد عقمتها ، الحمّالان يقدمان لنا المساعدة وينقلان موسى لغرفة خاصة .
مالك السفينة يقايضنا فى هذا الظرف السيء، موسى فى شبه غيبوبة فى الغرفة الموصدة، علينا أن نجد الفتاة المتمردة حتى يسلم لنا صديقنا المصاب وفى حالة فشلنا سيتخلص منه رميا فى عرض البحر..حياتنا البائسة فى الشوارع كانت أرحم مما نشعر به الآن ،
طلبت مساعدة نرجس فهى ذكية للغاية وتحسن الحديث مع الناس وتستخدم جمالها الفاتن للتأثير عليهم ، جبنا السوق الشعبى ، كان زقاقا مكتظا بالزبائن من الجنسين ، أصوات الباعة تختلط ببعضها .
-ركزى إن سمعت صوت فتاة يا نرجس.
-علينا التسلل حتى نهاية الزقاق ثم ننتقل إلى وجهة أخرى
كانت هناك لحسن حظنا ، تعرض عبوات معجون البرتقال وتطأطأ رأسها استحياء من نظراتنا ، جذبت نرجس من يدها وأشرت إلى حيث تتواجد الفتاة لوحدها .
-إنها حقا الفتاة المطلوبة .
-لا زبائن ، لا تنادى ولا تروج لبضاعتها
اقتربنا منها ، نرجس تسأل عن ثمن العبوة الواحدة ، الفتاة لا تجيب وتكتفى بالتحديق بنا ، نرجس تضع عبوتين فى الكيس وتناولها المبلغ واستدرنا ، الفتاة تلحق بنرجس واستخدمت الإشارات للتواصل .
-يا إلهى !
إنها خرساء.
كانت ليلة مقمرة،جعلت كل من بالسفينة الراسية يتسامرون وكان الأمر عاديا لدرجة أن مالكها كان يتحدث لأحد أعوانه بخصوص الأيتام ، كنت أسترق السمع خفية عنهما بينما كانت نرجس تتأمل النجوم كما لو أنها تراها للمرة الأولى ، كانا يتابعانها بأعين مشدودة لجمالها.
-كنت أجلب الأيتام وأفرغهم مثل الحمولة فى تلك البلدة البائسة ، كنت أقبض أجرا على كل لقيط يتخلص منه ذويه ، وكانت ابنتى التى كرهتنى وهجرتنى عندما بحت لها بحقيقتها ..
كنت أبيت الليلة بفندق العاهرات وكنت شابا يافعا ولكنها حملت منى أو من غيرى وعند رحيلها سلمت لى الطفلة بعمر السنتين
فرار موسى وصديقتيه جعلنى أتذكرها حتى أعيدها للحياة الجميلة ورأيت أن موسى شاب ذكى وله من الطموح للثراء مايجعله يقبل الزواج منها وأغير نظرتى للحياة وأتقبل هؤلاء اللقطاء جميعا
شعرت بالغيرة كما شعرت أن روحى تنسل منى ، مالك السفينة يقدم ماملك لموسى ونرجس يساعدها الوضع فهى جشعة للمال ولصة محترفة ، حتى الخرساء ستتموقع الموقع الجميل بين كل هذا ..
أنين موسى ينبعث من الداخل ، هرعت إليه كان ينادينى : سلينا ..سلينا ..
وجدت الخرساء بالقرب منه تراقبه حتى استفاق ، كانت بملامح هادئة وابتسمت ، جلبت مالك السفينة وهى ممسكة بيده كما لو أنها تعجل بإقامة العرس.
الأهازيج ورقص المالك مع موسى والخرساء والشقراء نرجس فى حلقة لم أستدعى لها ، كنت أقدم الشراب ومالذ وطاب من الطعام للحضور ، كنت أتساءل إن الحياة تعيد ترتيب مراتبنا وأدوارنا بحياة بعضنا
شيء من مسرح الدمى ياسلينا ، كان مالك السفينة يطلب تسلية على حساب أعصابى ، حملت دميتى السوداء ودخلت ، لم أجد كلاما حتى اقوله فى العرض ولكن قلت : سأجرب السباحة وسأقاتل السمكة الكبيرة ولكن مالونها ؟
الحضور : حتما هى سمكة سوداء
قهقهات الحضور
قفزت للماء وصرت أسبح كان شعور مخيف ، أن أنتحر بهذا الشكل ، صرخت وكلت ذراعاى ، لم أستنجد بموسى ، نرجس قفزت فى الماء وكانت تسبح وتقترب نحوى شيئا فشيئا ثم أمسكت بى ، كانت تمسك برأسى حتى آخذ نفسا ،وتشجعنى حتى نقترب من اليابسة ، كانت تضع شيئا على ظهرها ، استلقينا ثم سألتها وأنا منهكة : ماتحملين ؟
قالت : كل مال المالك بحوزتى وأخذ مقابله موسى

— النهاية —

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى