مقتطف زينب علاء سامي - انا وانا مع عصير الليمون

استيقظت الساعة الرابعة فجراً ... غرفة مظلمة, بابها مواربة قليلاً. يمتد ضوءا أبيض من طرف الباب باتجاه احد أركان الغرفة .
فتحت عينيها وهي مستلقية بين شخصين على سريرٍ واحد . يميناً تستلقي فتاة , بشعرها النرجسي , بشرتها الناعمة , رائحة ملبسها من عبق النعناع . كأنها ملاك صغير يترك جناحيه على عتبة الباب . وبعض من الريش الأبيض متساقط على السجاد . مبعثر هنا و هناك . كأنها تقول كنت في هذا الشبر وذاك . طفلة صغيرة اقل من عامين . تستلقي في هذا الجانب المميز من السرير . فيما يستلقي رجل طويل , تمتد ذراعه حول خصرها وهو نائم , بشاربٍ ولحيةٍ خفيفة في العقد الثالث من عمره أو هكذا ما يخال لمن يشاهده بكمية هذا الضوء المتسرب . بالكاد تحاول تمييز ما حولها . تلقي نظرة على طفلتها تارة وعلى زوجها تارة أخرى .
" يبدوان بريئين , هادئين , لكنهما بركانان لو ثارا وأنا بينهما ألان سيصهرانني , بحرف غاضب يقولانه وبسيل من الحمم " .
نظَرت للسقف . حاولت أن لا تتحرك بجسدها الرشيق خشية أن يستيقظا. فجأة يُفتح الباب على مصراعيه . تدخل واحدة .. اثنتان .. ثلاث.
" بالكاد ميزت أنهن ثلاث نساء . تصاعدت أنفاسي بشكل مهول , رغم صمت البيت الموحش حينها إلا أن نبضات قلبي بدت مسموعة كصراخ من خلفِ أضلعي , كحركة عقارب الساعة المستفزة والمثيرة للقلق , لا زالت تنبض .. تك .. تك .. تك .. وكأن خط الحياة بعدها توقف . لا أرى سوى ظلال , أشباح ثلاث , أثواب طويلة شفافة , الضوء القادم من الباب يتخلل أثوابهن , كعب عاليا , أثواب خفيفة . بدا جلياً أنهن نساء بثياب تظهر أكثر مما تخفي . سحبت نفساً عميقاً وحاولت أن أتملص من يد زوجي الممددة حول خصري , بدت ذراعه كقيد , سلسال يمنعني من الحركة . بالكاد وصلت أناملي صوب مفتاح الضوء الموضوع على الجانب الأيمن من السرير . بقيَ المشهد مستمراً هكذا لعدةِ ثواني , ليست هلوسة لا زلن واقفات , يطالعنني بصبر كأن الأمر أشبه بفصل دراسي وانا الاستاذ فيه ينتظرن مني امرا . بدأ الخوف يتلاشى ويحل محله الفضول . " .
حاولت بهدوء بالغ أن تبعد ذراع زوجها الملتفة حولها بلهفة طفل يحتضن أمه . بالكاد أخذت تسحب نفسها شيئاً فشيئاً من السرير . وقفت تفكر ربما هذه هلوسة , نظرت إلى أصابع قدمها , ليس مهماً أصبع مفقود خير من قدم مبتورة . قالت أحداهن بصوت كالهمس : " نحنُ هنا " . التفت باتجاههن .
" نعم , هذا ما كان ينقصني أن اسمع تهامسهن .. أنها هلوسة لا بد أن الأمر .. لا .. أو ربما .. لما لا .. " .
اتجهت بثقة أكبر نحوهن . خطوات تكاد لا يُسمع وقعها . أنقطع التيار الكهربائي .
" ولنزيد الطين بلة . هلوسة وظلام دامس .. هل هذهِ الأشباح بنات دراكولا . سقطن في غرفتي بالخطأ .. هل ان دمي نقي لهذه الدرجة . كي يكابدن عناء القدوم بنفسهن في هذه الساعة المتأخرة .. يا للحظ العاثر .. " .
عادت إلى الخزانة الموضوعة قرب السرير . تتلمس فوق ملمس الخشب الناعم بحثاً عن هاتفها . فتحت ضوءاً من الهاتف . اتجهت هذه المرة بثبات أكبر وبخطوات موزونة .. اتجهت صوبهن لكن .. لا أحد ..
" أشعر بالخوف لكن القليل من الماء ربما سيهدئ من تفكيري التصاعدي الزائف هذا " .
بخطوات سريعة نحو المطبخ شعرت وكأنها تركض في ماراثون . بحثت في الأدراج عن احتمالية وجود شمعة هنا أو هناك . ماذا عن شمع و قوالب كعك والأدوات المخصصة بأعياد الميلاد التي تحتفظ فيهن في الدرج الثالث قرب باب الثلاجة . بالتأكيد ستحتاج إلى ولاعة . وها هي تلتقطها من على الموقد . خرجت من المطبخ مروراً بغرفة الجلوس . أوقدت الشمعة . جلست حول مائدة مستطيلة تتربع في الوسط . نظرت باتجاه النوافذ التي تسدل الستائر عليها .
" تحتاج هذه الستائر فعلاً لدوران فائق في الغسالة . بدا الغبار ظاهراً حتى في هذه العتمة .. لم أكن سأكمل جملتي الداخلية هذه حتى ظهرن من جديد . المشهد السابق نفسه .. يقفن قرب الباب و بالمظهر نفسه .. هذهِ المرة لم أخف . دعوتهن للجلوس . يتسرب إلى أعماقي خوف رهيب من استيقاظ زوجي . وأنا بين ثلاث نساء مريبات .. "
كلهن بَدَون بالمظهر نفسه لا شيء يدعو للخوف .. فهن انعكاساً لها . الأولى بدت رومانسية وحالمة عيناها تبتسمان . كأنها على موعد غرامي بعد ثوانٍ عدةِ . رتبت شعرها الأسود المنساب بسلاسة على كتفها . طويلاً بما يكفي ومناسب لتلك الأناقة الفاخرة . كأن الثوب مفصل على قياس جسدها تماماً . بحق أنه لجسد رشيق مع قصر قامتها المثير . قربت الشمعة من وجه الفتاة .
" أنهن أنا .. أنا بحق .. " .
حينما بدأت بالتقرب منها بدأت تميز ملامحهن على رغم الإنارة القادمة من شمعة الوحيدة . وبنظرة تعجب لم تعتل وجهها من قبل نهضت باتجاه هذه المرأة المتوهجة في العتمة , أظافرها مطلية بعناية . ماكياج بلمسات أنثوية . لم يكن ثوباً بأكمام وإنما أشبه بالأثواب الفضفاضة بالألوان الهادئة التي نشاهدها على الشاطئ .. قليل من الازرق الفيروزي الابيض الاخضر بدرجات منخفضة من الشدة .
بينما الثانية لم تكترث . كأنها بالضد تعاكس الأولى بشكل عنيف . كما تشاهد صورتك في قدح ماء تبدو بالمقلوب . أنها العكس تماماً . مع أنها ترتدي الثوب نفسه واللون نفسه . لكن يبدو عليها ملامح الوقار والحشمة . ولزيادة الطابع الرسمي عليها كانت ترتدي نظارة طبية رفيعة . لا تبدو سعيدة أبداً بوجودها مع غيرها في الغرفة .
في حين كانت الثالثة امرآة بلا منطق . شرسة عنيفة يمكن تمييز ذلك بوضوح لو تمعنت النظر في عينيها . إلا ان هذهِ اللبوة المفترسة عليك الوجود بعيداً عنها . وإلا ستكون وليمتها القادمة . والغريب أن يسود الصمت في غرفةٍ فيها أربعةَ نساء . أما أن تكون تلك معجزة سماوية أو حدثاً كونياً لا يتكرر كل ألف سنة . لكن لم يكن يبدو الأمر كذلك فلقد كان أشبه بأن يكون انتظار أحداهن للأخرى كي تنطق حرفاً .
" تشبهيني بشكل عجيب . تبدين كأنكِ أنا . بالمناسبة عطركِ لدي ذاته . لون بشرتكِ . نفس النظرة . الحاجبان آه لديه نفس لون أحمر الشفاه الذي تضعينهُ .. ".
كانت تتلمسها بتروٍ . وكأنها تتأكد من الجسد الذي يبدو مثلها تماماً . أو أنها هي .. ملمس البشرة ذاته ناعم كطفل ولدَ تواً , من فرط عنايتها بنفسها . اطلالة ساحرة للغاية. وكأن الجسد الذي تراه انعكاس في المرآة . استحال إلى جسد يُلمس . يتنفس وله عطر .
" حقاً . كل ملامحكِ أنا . مع بعض التغيرات . لم أكن يوماً بهذه الاطلالة الساعة الرابعة فجراً .. هل لديكِ موعد غرامي على الشاطئ .. أو في مقهى بحري .. أو على متن باخرة ؟ .. أسمحي لي قبل أن تجيبي أن أسال عن أسمائكن ! .. " .
عاد الصمت ثانيةً إلى الأجواء . لكنها أخذت تدور حولهن كأنها في جولة استكشافية فضائية لكواكب نادرة . تتفحص مرة طريقة تصفيف شعُورهن . ومرةٍ ما يرتدين من حلي وإكسسوارات . الأولى ترتدي خاتماً الماسي والثانية من الذهب أما العنيفةُ تلك فلم تكن ترتدي أي خاتم . إلا انه بدا واضحاً أن الأثر حول أصبعها يُشير إلى أنها كانت ترتديه لسنين , بالطبع يبدو أنه كان خاتماً ضيقاً لما تركه من أثر أو ربما انه لم يكن على مقاسها .
" هل ستتكلمن أم ان لَكُنَ هذا الهندام والقط قد أكل ألسنتكن ؟ " .
" لا .. " تكلمت الثانية وهي ممتعضة من وقوفها عديم الجدوى بين معتوهتين مملتين .
أجابت الأولى بصوتٍ أشبه بالهمس " أنا اُدعى غزل وهذهِ المتحذلقة جومانا و أما هذهِ المشمئزة بشكلٍ دائم منا ; هي نرمين وهنا أيضا .. "
كانت تجلس بينهن وهي مترددة في أن تتكلم أي كلمة . بما أنهن ضيوفها الآن فهل يجدر بها الذهاب إلى المطبخ كي تعد الشاي أو تُحضر القهوة . أم تكتفي بالجلوس والاستماع . ثلاث سيدات . مختلفات إلا أنهن متشابهات يحملن الملامح نفسها ولكن بتعابير متعددة .
" غزل , جومانا , نرمين ... لكلِ واحدةٍ منكن أسم له وقع في إذني وكأنني أعرفكن من مكان ما أو ربما التقيتكن سابقاً في عالم الأرواح قبل توضع الروح في الجسد أو مصادفة في الطريق أو حتى يمكن أن أكون قد قرأت عنكن في روايةٍ ما أو رأيتكن في التلفاز . ".

غزل : " تحتاجين فقط للاسترخاء . ليس اي مما قلتيه قد كان .. أجلسي " .
جومانا تخاطب غزل : " هل سأقضي الليل كله في محاولة تهدئةِ روعها . أم نتحدثُ مباشرة في الموضوع . كونه أمراً طارئاً وفي هذهِ الحالة عليها الإصغاء . " .
جومانا تحاول تثبيت نظارتها من جديد . محاولة بتلك الإشارة أن توضح للحضور بأن كلامها جدي للغاية ولا يتحمل التأجيل تحت أي ذريعة .
نرمين : " فقط دعونا نتحدث في الأمر . فلقد ضقت ذرعاً وأنا أحاول أن أفهمكن بأني من يجب أن تتولى زمام الأمور في كل شيء ولتكنَ تابعاتٍ لي . " .
بدا المشهد مشوشاً أمام ناظرها . ثلاث نساء يتناقشن ولا يبدو بأن لرأيها إيُ أهمية فيما يتحدثن فيهِ . لكنها مجبرة على الاستماع لهذا الحوار لا بل والخوض فيهِ لو أمكن . لسبب واحد ألا وهو أنهن يقفن بكل بساطة في غرفةِ جلوسها ولسبب أخر ربما لأنهن أفزعنها فجراً لهذا الأمر الطارئ الذي لا تعرف ما هو إلى هذه اللحظة .
" مع أني هذهِ المرة الأولى التي أشاهد نفسي فيها بهذهِ التعددية المخيفة . إلا أنني أحاول استيعابكن قصارى جهدي . والحد من نشوب صراع كي لا يستيقظ زوجي أو تفزع أبنتي . لذا علي التصرف بحكمة . نظرتُ إلى جومانا التي كانت تبد كمحامية أو مديرة شركة عقارية أو استثمارية . تربط شعرها بأحكام للوراء ونظرتها تخبِرك بكل رزانة بأن ما تقوله لكَ أياً كان ليس بمزحة . لا تضع ماكياجا تكاد تكتفي بكحلٍ عقيم و ماسكارا وقليل من أحمر الشفاه الباهت . تبدو وكأن هذا الأمر لا يعنيها أبداً لا يستهويها , أمر تافه لا يستحق ضياع ساعات أمام مرآة ليست سوى انعكاس زائف للجسد . مع أنه ذات الثوب الذي ترتديه الثلاث . إلا أنه يبدو عليها أكثر وقاراً وحشمةً من الأخريات . كانت الأكثر لفتاً لنظري من بينهن فهي كمن تعرف ماذا تريد وكيف ستصل إليه . " .

غزل : " هل نستريح على تلك الكراسي الخشبية الأنيقة ونطلب منكِ بكل محبة إعداد عصير الليمون الطازج الذي من المرجح بأننا نحتاجهُ جميعاً . آه مع القليل من السكر من فضلكِ . " .
نظرت إلى نفسها وكأنها ليست سيدة البيت بل مجرد خادمة تتلقى الأوامر وتنفذ . ذهبت إلى المطبخ من جديد وهي تحمل بيدها تلك الشمعة التي لا تبدأ بالذوبان أبداً . وضعتها جانباً وأخذت تبحث في السلال الموضوعة خارج الثلاجة .
" ربما لدي في مكان ما ليمون .. ليمون .. ليمون .. هنا أو ربما في هذهِ العتمة لن أرى ليموناً أصفر أو أخضر يبدو رمادياً أو أسود . ليمون بطعم العتمة . عظيم يا أنا لديّ وقت لإلقاء القليل من النكات . من يعدُ عصيراً في الرابعة فجراُ .. هل هذهِ الرابعة فجراً أبدية لم لا يتغير الوقت وكأنه تجمد . أهو حظي .. أين وضعت الأكواب . في أي درج . فوق نعم .. فوق . أعتقد بأني سأحتاج صفعة قوية لأفهم ماذا يحدث . لن تكفيني حموضة الليمون لأفهم ! .. " .
بعد دقائق وضعت إمام كل واحدة منهنَ كوباً .
نرمين : " هل تقدمين لضيوفكِ العصير بأكواب الشاي ! . كنت أفضل أن تعدي لي كوباً من الشاي ليعيد لي اتزاني لكوني مدمنةٍ عليه . لكن لم أكن أتوقع عصيرَ ليمون بكوب شاي ! .. " .
جومانا : " كنت أفضل فنجان قهوة بلا سكر مع قدح من الماء . لكن سأشرب على إي حال . " .
غزل : " شكرا . هذا بالضبط ما نحتاجهُ . " .

" نعم .. وبما أنني الأكثر من بينكن التي تشعر بالدهشة وتحتاج إلى التفسير حالاً . " .
نرمين : " لا تصرخي بوجهي أولاً وثانياً لا تحركي يديكِ هكذا بوجهي !! .. " .
نرمين هي أكثرهن حدةً وعصبية تشعر معها وكأنكَ في حرب وعليكَ أما الهرب أو مواجهة مصيركَ المشؤوم . وعلى إي حال ستكون الخاسرة لا محالة . لا تضع أي ماكياج أو ربما لا تتعرف بوجوه من الأساس كمادة تكميلية . شعرها يبدو طوال الوقت بحالة يرثى لها . صوتها ذو نبرة مستفزة . كلماتها توتركَ . لا بل تجعلك قلقاً . تنظر لها وتنوي ارتكاب جريمة قتل أو ربما تنوي أولاً أن تمارس جميع الطرق السادية كي تتلذذ بإيذائها , ثم قتلها حرقاً أن أمكن . ربما ما يكفي فعلاً قص لسانها . كي تشعر بعدها بالراحة الأبدية ولكن مع كمية العنف الذي يجتاحها فربما إن لم تعبر بالكلام . ستعبر بعنفٍ جسديٍ ضدك . صعقات من كهرباء عالية الفولطية ستفي بالتخلص الكامل منها .
غزل : " اهدئي ولو لمرة واحدة في حياتكِ واستمعي وأصغي .. "
قاطعتها جومانا : " الأجدر بي أن أتحدث فلقد ضاع الكثير من الوقت في مناقشة بيزنطية . والثواني والدقائق في حياتي أهم من أن تقضى في هذا العبث . في الحقيقة نحنُ لسنا سوى .. أنتِ . " .

" أنا .. كيف ؟!! ".

جومانا : " أعني نحنُ . بكلماتٍ أوضح ومحددة بشكلٍ كافي .." .
نرمين : " متى تنتهي هذهِ الخطبةُ العصماء التي ستغوصين فيها في غياهب النفس البشرية العظيمة . وأنا من مكاني أعلن بأني لا أسمع سوى لأب .. لأب .. لأب لا .. هراء .. " .
غزل : " لتكمل .. والحكم في النهاية لمن نعيش بداخلها ! . " .
جومانا : " نحنُ جزء من كيانكِ . فيوماً رائعاً تقضينهُ مع زوجكِ يكون من إعدادِ وتحضير غزل . يوماً هادئاً يتلألأ فيهِ البيت وقلبكِ . تمنحين يومها كل شيء تملكين . كل تصلي لأقصى ما تتمنين من السعادة . معهُ أو مع الآخرين . فالحب كما تعلمين لا يقتصر على رجل و .... " .
كان الأمر أشبه باجتماع تتحدث فيهِ جومانا عن الإرباح والخسائر . الأهداف والنتائج .. أمر يدعو للارتباك والارتياب ..
" أحممم ... نعم .. ".

جومانا : " أما أنا فلا أحب السرد الطويل في وصفِ نفسي , لكن سأستخدم الجمل المقتضبة كي تفهمي بشكلٍ سلس وعلى وجه الدقة مكانتي فيكِ . أنا من أخرجكِ منتصرة في نقاشات العمل . اليوم الذي غنيت فيه بصوت شجي على خشبةِ المسرح كنتُ هناك . عملكِ كمترجمة فورية , اللغة الأجنبية التي تتقنينها وتتحدثين بها أمام الأغراب . ثقتكِ بنفسكِ . جهدكِ المضني في جعل زواجكِ ناجحاً طول السنين القليلة الماضية أنا كنت سببه . الأعذار التي تتحجبين بها كذباً لكن ببراعتي أجعلها صدقاً لهم . الحماقات التي تُسقطكِ فيها من لا أنوي ذكر أسمها الآن .. وأنا أخرجكِ منها أحياناً بأعجوبة . كارهةً لا مُحبةً لما يحصل . مع أني أصُر على رغبتي في تولي ألأمور إلا أني لا أنوي التسلط . لكني الأجدر بتولي القيادة وهذا ظاهر كالشمس أمام عينيك . " .

نرمين : " الحمار يذكر أسمه أولاً !! " .
غزل : " كفاكِ استفزازاً . لم تذكر نفسها أولاً بل ذكرتني . أتمنى لو أنكِ تستمعين للنهاية . كما يبدو بأنني في النهاية سأصبح شبيهةٍ لكِ . ولن يكفيني نتف شعركِ المنتوفِ من الأساس . لكن أتمنى من كل قلبي أن أراكِ معتنية بذاتكِ إلا تتعلمين مني أبداً !! . " .

"يا رباه ثلاث نساء تافهات في بيتي وكأن حياتها هادئة بما يكفي لترسل لي الضوضاء والصخب . في ليلة الصمت هذهِ . ماذا فعلت ليلة أمس كي أحظ بنساء يحتجن قاضياً للفصل بينهن . ناشطة في حقوق الإنسان و الأخرى محامية و ختامها مسك مصارعة ثيران إلا أنها أشبه بثور هائج وليست هادئة بهدوءِ مصارع . " .

جمانا : " هل سأكمل أم سنبقى في هذه الدوامة إلى الأبد . أنتن لن تطقن صبراً لهذا الحكم ولا أنا . أما نرمين فهي كالنار في الهشيم . سماؤها ترعد وتتوعد , تبرق وتمطر . في لحظة الهدوء التي ينعم بها الإنسان في صمتٍ ترينها لا تطبق شفتيها على بعض . دائمة الاعتراض والسخرية . تحُول كل كلمةٍ قيلت أو تقال إلى حديثٍ يحاول تسقيطها أو الاستهزاء منها . كما رايتي فهي لا تملك أذنين . أعني ليس حرفياً أنما هي لا تحاول أن تسمع أو تعي على أقل تقدير . تصدر إحكاماً عشوائية غريبة عنيفة . بنبرة حادة لا بل حين تتكلم أشعر بأن .. هي على قول الحق لا تتكلم بل تصرخ . لكن أشعر بأن مسامعي طبلتي السمعية قد ثقبت ليصل صوتها إلى مكانٍ أبعد من مجرد أجزاء مخي لا بل تخترق جمجمةً عظمية . فيخرج صوتها . لنرتاح ونعود في سلامٍ كما بدأنا .. ".

" ما المطلوب مني الآن . هل أنا تلميذة لتشرحوا لي عن حياتكم منذ بدء الخليقة . لكن كان لديكِ حق . كان الأفضل لو أعددت قهوة . فحديثكِ لاستيعابهُ يحتاج إلى قهوة مرة وسيجار فاخر وقليلاً من الحبوبِ المهدئة .. ".

نرمين : " مع أني لستُ سيئة إلى هذا الحد . لن أدافع عن نفسي يكفيني أن أكون الذئب الذي يفترس الخراف الوديعة . لكن كم مرة بصوتي أخذت لكِ حقاً ضائع بصراخي عديم الجدوى كما تصفينه . من وضع لكِ حدوداٍ وخطوطاٍ حمراً لا يتجرأ أحد على التقرب منها وليس اجتيازها .. لكن ماذا يقال في حرم نساء لسن إلا أطفالاً .. " .

غزل : " صوتكِ العالي دليل على ضعف موقفك .. متى تفهمين ذلك ؟ . " .

جومانا : " أو كما يقول جبران خليل جبران لا تعتاد على الصراخ أبداً فمن يفهمك يسمع صمتكَ جيداً . " .

نرمين : " وقالوا أيضاً . أغلبوهم بالصوت قبل أن يغلبوكم .. فما رأيكم ألان . " .

مرة أخرى شعرت بأن دورها في هذهِ الليلة دور ثانوي وليس دور البطولة . ربما شعرت بأنها الكومبارس بين الحضور . أو ربما ممثلة صامتة أو شخص دوره فقط أن يمر من أمام الكاميرا بعد أن يقول المخرج ( أكشــن ) .
" أرى أنكن ستستمرن لطلوع فجر أخر على جثتي بعد ألف سنة . متى تنتهي هذهِ المهزلة الثلاثية الأقطاب . أنا أتكلم بكل جدية ولا أقبل أي مقاطعة أو أي تعليق ولا حتى همساً أو نظرة امتعاض أو حتى استهزاء أو ربما سعادة .. لن تكن لأي منكن السيادة عليّ ... " .

قاطعتها جومانا : " إضافة بسيطة لو سمحتِ نحنُ أربعة و آسفة على المقاطعة . ".

" ماذا .. أربعة وأينها تلك .. وكأن ما ينقص هو هراء رابع .. ".

جمانا : " في الحقيقة .. " .

" اختصري الترهات الرسمية والمقدمات المقفاة بعناية ... " .

جومانا : " أنها مرح .. لعبتها الدائمة الاختفاء . لا تبرر ولا تفكر . قردة أقرب مما تكون إلى إنسانة سوية مثلنا , أعني بتصرفاتها . أنها بلا خطة بلا هدف غايتها المتعة . الاستهتار .. الضحك .. التسلية .. مجنونة عفوية لعوب .. كأنها احتست عشر زجاجات خمر لذلك فهيه كثيرة الترنح . على فرط عدم اتزانها تبدو كمن تتعاطى الكوكايين بجرعات زائدة .. ا لا تلاحظين ؟!! .." .

" ماذا بالضبط ؟ "

جومانا : " الكارثة .. " .

نرمين : " الحق يقال هذهِ فعلاً لكارثة . هي أكثر ما يثير عصبيتي في هذا الجسد المشؤوم . أنظري ما نرتديه من اختيارها من يرتدي فجراً ثوباً بحرياً و كعباً عالياً .. !! " .

غزل : " ربما تَخيلت بأننا ذاهبات للسير على رمل الشاطئ ولسنا بزيارة لها اليوم . " .

جومانا : " يا الهي .. لما أنا الوحيدة التي عليها التحلي بكل هذا العقل , سأتحدث بهدوء كيف نتمشى على الرمال بكعب عاليٍ ؟ هذا لو صدقت بأنها لا تعلم بأننا هنا ولسنا على الشاطئ .. " .

" فليكن أربعة .. أربعة لا يهم أصمتن !! " .
كأن الدم بدأ يتجمع في رأسها وتغير لون وجهها إلى الأحمر .
" أنه أنا وانتن لستن سوى بعض مني أنا . وعليه أن جهاز التحكم في يدي . ولن أضمن بهذا الكم من عدمِ اتزانكن واستهتاركن أن تكن صاحبات الأمر . أنا هنا الآمر والناهي . نحنُ معاً على هذهِ السفينة . من تنوي المغادرة فتغادر لا أكترث فمصيرها الغرق . لا أنكر أن ما فعلتن من أجلي ليس بقليل . لكني سأبقى ربان هذهِ السفينة حتى بعد غرقكن جميعاً . سأبقى لقيادةِ هذه الروح ... ... "
لكن رغم محاولتها الاستمرار بالكلام .. حدث فجأة أن دخل رجل من بين العتمة التي تحيط بها . وهي جالسة بين النسوة . وقف خلفها وضع يده على كتفها وهمس شيئاً لم تسمعه . لكنه أعاد نفس الشيء أكثر من مرة . رغم ذلك استمرت بالحديث إليهن . وبلا أي سابق إنذار أخذ يهز كتفيها بشدة بكلتا يديه ويقول بنبرة اشد ومحملة بالقلق .
" مريم .... مريم .... مريم استيقظي . تأخرنا على العمل ! " .
فتحت عينيها بصعوبة . لم تصدق أنها لا زالت مستلقية في الفراش . متعرقة بشكل مخيف . أنفاسها كأن شيءً ما يُعيقها . عدلت وضعها . نهض هو من السرير .. أتى بكأس ماء .
" أشربي !! " .
" ماذا حصل أين ذهبن .. ؟؟ " .
" لا شيء حبيبتي ليس سوى كابوس ... " .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى