نهاد عبد الملك - فستان الفرح.. قصة قصيرة

في أحد أيام الزمن الجميل، والرومانسيات الخالدة .. على الشجن العذب لعبد الحليم، وألحان عملاق الجيل عبد الوهاب .. عاشت الحياة بكل أبعادها المرئية، وغير المرئية : علم .. ثقافة .. رحلات .. صداقات .. خبرات .. أساس تكونت من خلاله شخصية مبهرة .. بشوشة .. باعثة للأمل في كل المحيطين بها .. تحمل كمًّا من المشاعر الفياضة .. تخلب الألباب .
وهي تنهي آخر عام بدراستها الجامعية، وتهم بالتقدم نحو أولى عتبات الحياة العملية .. أتاها زهو أيامها .. جاد عليها زمانها بحب، تجرعته عشقًا لامنتهى له.. رأت بعينيه معنى وجودها بالحياة .. تقدم لخطبتها، ووافق أهلها عليه .. كونه يحمل كل المميزات، التي تمنوها لزوج ابنتهم .
مرت أيام الخطوبة كالحلم عامًا كاملًا .. يستعدان لحياة مقبلة عليهم .. أكملا كل شيء للبيت، حيثُ سيُسْكِنان مكنون روحيهما فيه .. حددا يوم الفرح والزفاف، وسافر حبيبها وخطيبها لباريس، في رحلة عمل، وشراء فستان الفرح .
وفي إنتظارها لعودته، لتكمل فرحتها معه .. مرتدية فستان الفرح .. في يوم شديد البرودة .. صاخب الرياح .. يأتيها خبر صادم، وكأن الحياة بخلت عليها أن تمنحها السعادة بدون مقابل .. مات خطيبها، وحبيبها في حادث .
عند سماعها الخبر .. تخرج للطرقات .. مندفعة بوجه الرياح .. تدفع الرياح لا لتستطيع السير، ولكن لتقاوم السقوط، لأنها لو انهارت، وتهاوت فلن تقوم مرة أخرى .
مرت عليها أيام، لم تكن تعلم نهارها من ليلها .. حتى منحها الله السكينة من فضله، ورحمته .. رضيت بما قسمه الله لها، وأغلقت أبواب قلبها على حبيبها، وأحكمت غلقها .. حزمت كل ذكرياتها، وأرسلتها فى رحلة للفناء .
قررت أن تمنح البسمة التي حرمت منها .. غيرت مسار حياتها .. درست تصميم الأزياء، وصارت مصممة متميزة لفساتين الأفراح .. كانت مصممة ذات طابع خاص للغاية .. ليس لديها تصاميم جاهزة لأي أحد، ولكنها كانت تلتقي العروس أولًا، وتسألها عن تخيلها للفستان، وما تتمنى أن تكون عليه صورتها يوم الفرح، ثم تصمم لها مايجعلها لؤلؤة متوهجة، وسط إنبهار الجميع .
مرت سنوات .. وسنوات ..
ذاع صيتها، وصار اسمها يتردد بكل الأوساط الراقية، وكأنها جزء أساسي في تجهيز أي فرح ..
وفي أحد الأيام .. دخلت عليها فتاة في خجل، وبدأت تتحدث معها .. كانت عيناها تنم عن ذكاء، رغم هدوئها، وبحثها عن الكلمات في ارتباك واضح، وعندما أخبرتها بأنها تعيش بعيدة عن مصر منذ زمن، أدركت سبب ارتباكها في الحديث ..
قالت لها إنها عاشت مع والديها لأعوام عديدة بكندا، وتلاقت أحد العاملين بالسفارة المصرية، وارتبطا، واتفقا على الزواج، ولكن صدر قرار بنقله، وعودته لمصر .. كان عليها الاختيار بينه، والمكوث مع أبيها هناك، حيث توفيت أمها منذ عدة أعوام، ولا تريد أن تتركه هناك وحيدًا، ولكن أبيها أنهى ترددها بقرار قاطع، وهو أن تتزوج، وأن يقيم لها فرحًا ضخمًا بمصر، لأن سعادته هي سعادتها، ومن المستحيل أن يكون عقبة بطريق فرحتها أبدًا .
أحست، وهي تحادث الفتاة، بإحساس غريب .. شىء يخترق جنبات فؤادها، وكأنه صدى يتردد بصندوق أجوف .. أزاحت عن فكرها هذا الشعور، وحاولت الانشغال مع الفتاة في تحديد تصوراتها عن الفستان، برغم أنها شعرت بحزن خافت بين كلمات الفتاة افتقادًا لأمها، ولكنها كانت مقتنعة بقدرتها على بناء فرحة غامرة لها .
ودعتها الفتاة، وهي تذهب بألفة بالغة ..
بعد أسبوع .. عادت كما اتفقا، لترى الأفكار الأولية عن التصميم، ولكن هذه المرة لم تكن بمفردها .. كان معها والدها ..
دخلت الفتاة مع والدها، وأسرعت الفتاة بالتعارف بينهما، وما إن التقت نظراتهما، حتى ساد صمت عميق للحظات .. ثم أشارت للفتاة ووالدها بالجلوس .. حاولت التركيز في التصميم، برغم التشتت الذي أصاب أفكارها، ولا تعلم ماذا حل بها ؟!! يسوقها الفضول، وألجمها ألف سبب، لتصمت .
توالت جلسات التصميم، وفي كل مرة، كان والد الفتاة حريصًا على الحضور، ومع مرور الأيام أحست بشيء ينمو بداخلها، ولكنها عاجزة عن تحديده، واستمرت على تلك الحالة، حتى أن جاءها والد الفتاة يومًا بدونها، وصارحها بلا مقدمات بإعجابه الشديد، وانبهاره بها، وباح لها بحبه، الذي بات ينمو كل يوم أكثر من اليوم السابق له .
وفي لحظة صدق مع النفس .. أدركت أن ما مر بحياتها لسنوات طوال ماكان إلا انتظارًا له .. تعلمت أن ترتدي قناعًا سعيدًا .. ثقيلًا للغاية .. أثقل مما تستطيع دمعتها حمله، كأن عقارب الساعة اتخذت أماكنها، لتدق وقت النصيب، وتعلن أن وقت الفرح قد حان بعد الغياب ..
الطيور تقطع كل المسافات في أسراب من أشباهها، وإن ظلت وحيدة تكون كالتي هجرتها الأرض كلها، و لا وطن لها .. قررت أن تعود للحياة .. للأمل .. للحب .
اقترب موعد الفرح، ولأول مرة تحضر تصميمين، أحدهما للفتاة باللون الأبيض، والآخر لها باللون العاجي ..
قد نخطو خطوات، نظن أنها طريق نهاية الحياة، فتكون هي باب السعادة، والبداية لحياة جديدة ..
"إذا رضيت بما قسمه الله لك، فسيعطيك الله يومًا ما تريده، وتتمناه".



* نشرت في الاهرام اليومي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى