ياسر رامي - فتاة النَّجدين

"بنت أبوها" كان اللقب الذي يصاحبها كظلها، أينما ذهبت في محيط عائلتها، فكم من طفلة كان بطلها الاول "‬أباها"، وكم من أنثي كان عشقها العُذري "‬اباها"، وكم من أب كان ضحية غيرة ابنته العفوية، هكذا كان حالها يتأرجح بين تلك الحالات.
لذا كانت صدمة فاقرة ألقت الرعب في قلبها، عصفت بروحها كالغثاء الأحوي، وقت أن غيبه الموت عنها، فقدت سندها، شريانها الوتين، وهي لم تنه عقدها الثاني بعد، أصبحت كالقشة في مهب الريح منكبة علي وجهها، فلمن تلوذ بالفرار من بطش الحياة؟، من تحتضن هربًا من غدر الإنسان؟، لمن تحكي لساعات طوال ما يجول في خاطرها من طموحات؟، لمن تنصت لتتفادي العثرات المؤلمة؟، من يجمع شتات فكرها؟
ظلت شريدة الذهن، حتي مراسم دفنه لن تحضرها إلا بجسدها البالي، فعقلها وروحها في عالم آخر لا يعلمه إلا من يفقد عزيزه، توأم روحه، فهي غير مدركة من يأتي ومن يذهب؟، فتارة تشرد في حديث خيالي معه، وتارة تتخيل موقعه في الجنة جزاء ما صنعه لها، فكيف لا يكون رجل حنون مثله في الجنة؟، وكان للذكريات لحظة بلحظة النصيب الأكبر من شرودها وغيابها عمن حولها، فالذكريات كانت تفر إليها مهرولة لتكون بمفازة عن ألم الفراق والوحدة وتبديد ظلمة المكان الذي لا تصنع الشمس فيه فارقًا، فالعتمة لا تتزحزح وكأن علي أعينها أكنة، وفي أُذنها وقرًا يفصلها عن العالم المُتوحش بعد رحيله المفاجيء، هي ليست علي علم بنظرات الريبة من البعض، والقلق من البعض الآخر، والتوجس خيفة علي سلامة عقلها من فريق آخر ممن حضروا لمواساتهم، لا تعلم أن كل تلك المشاعر المتباينة وجدت بعد أن رأوها تبتسم بل تضحك أحيانًا وسط ترتيل آيات القرآن، فهم لا يعلمون أنها تضحك من القلب علي ما تتذكره من مواقف جميلة جمعتها مع من فقدت، فليست كل المواقف تحكي، وليس كل الانطباعات تُعلن.
وقد يكون الأب بالفعل مع الأبرار لسبب وحيد، أنه غرس حب القرآن في قلب طفلته الصغيرة، فمن شب علي شيء شاب عليه، فكان القرآن ربيع قلبها ونور صدرها وذهاب همها وجلاء حزنها في شتي المواقف، كان القرآن وتضرعها إلي الله من يعيدنها لحالتها الطبيعية، بعد لطمة قوية من قريب، أو صدمة عنيفة في لعبة الحياة، او لحظة مريرة تَجِن فيها بحثًا عن حضن دافيء يحتويها، يحيي روحها ذات المتّربة المنتثرة، ملائكة الله تحرسها، ورغم صغر سنها إلا أن الله حباها غريزة الإحساس بمن تحادثهم، وبما يوعون، ويحدث ما كنته في صدرها، بات من المستحيل أن تُخدع في شخص، أيًا كانت خبراته او عمره، الكل سواسية أمامها، عراة الفكر، حتي ورقة التوت لا تستر أفكارهم، ذكاؤها قادها أن تقود من حولها، حتي الأم أصبحت بمثابة طفلة صغيرة تحتاج لرعايتها، ليس هذا ما تغير في الابنة فحسب، بل أصبحت قوية كبركان خامد من داخلها، ناعمة نضرة من خارجها، تُدرك جيدًا متي تتوحش وتثور؟، ومتي تحتفظ بحيائها وأنوثتها وصوتها الرقيق.
توحشها ظهر وتفاقم بعد أن فقدت السند، ولن تجد في شقيقها الأكبر نعمة الأخ، فخذلانها كان من شِيمه، فهو ليس إلا شابا لم يكتسب صفات بطلها الأوحد، لذا كانت الخلافات لتباين أفكارهما، وعدم إدراكه طبيعة المسئولية التي وقعت علي كاهله، وكانت الفجوة السحيقة بينهما، كما لم يحالفها الحظ أن يكون »‬الخال والد» مثلما يرددون دائمًا في الأمثال، ولتكتمل خيبة أملها فلم تلق الاهتمام المرجو من عمها أيضًا، لكن كل هذا تداركته بشكواها وتضرعها لخالقها في لياليها المُظلمة التي تملكتها ونخرت قواها لفترة طويلة، قبل أن تقوي علي غدر الزمان، وتبث غضبها في عتو، علي من تركوها فريسة للزمن وهم أحياء، وتولوا عنها في أحلك الظروف، ولم يلقوا بالًا بحالها، كم من مرة يشكو الخال والعم للأم من كلمات ابنتها القوية، وعباراتها الجارحة، فالابنة أقسمت جهد أيمانها ألا تكون صاغرة، بل ستجعل كبرياءهم شتاتاً، لذا لم تعبأ الأم بشكواهم، بل ربتت علي كتف إبنتها الأبية، فاليوم تعلمان من الأذلة، ومن الأعزة.
ما أعقب وفاة الأب من حقائق تتكشف يومًا تلو الآخر، جعل الفتاة تأنس رشدها مبكرًا دون من في عمرها ، فتخلب العقول بتحليلاتها الدقيقة للشخصيات، الجميع يتقرب منها، وهي تُرحب لا تنفُر، وكان لابد في مجتمعها الجامعي أن يأنس الرجال إلي مجالستها، ويسعوا لمخاطبة ودها، محاولات طويلة، ولتلمس في أحدهم الطيبة، فتفتح له المجال ليعرفها عن قُرب، قد تعوضها طيبته عن الوجوه الباسرة حولها ولو قليلًا، لكن مع مرور الأيام اكتشفت أن الطيبة تغشيها السذاجة وعدم النضج والتهرب من مسئولية أفعاله، بل شخصية تتأثر بآراء الآخرين تجعله يثور عليها برؤيتهم هم لا هو، فما إن تتجاذب أطراف الحديث معه لا تجد أي حُجة، وهي لطالما سئمت الشخصيات الضعيفة المُنقادة، كيف تأمن علي نفسها مع شخصية مثله!، لا تعلم ماذا تريد من الحياة!، فكم من مرة تأففت من كثرة ترديده لعبارات الأسف جراء تصرفاته!، كم من مرة جعلته منكسراً أمامها لا يقوي علي مجابهتها، ليس هذا ما تصبو إليه في شريك الحياة، فما كان منها إلا إنهاء العلاقة، فيما يرضي هو أن يتمسك بالخيط الأخير في وجودها في حياته، بصفته صديقاً، تضعه عند حده او تتغافله، إذا لقبها »‬بحبيبتي»، أو صارحها بافتقاده لها.
وتظل مرغوبة ممن حولها ، وتستمر في سماع التلميحات، وتتلقي المكالمات من المحيطين، لكن كبرياءها جعلتها تترفع عن تلك الصغائر، بل قادتها أن تترفع عن أن تبوح لأحدهم بإنجذابها له، بالرغم من أنه الوحيد الذي استطاع أن يحتويها بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، يعلم ماذا يقول؟...ومتي يظهر؟...ومتي يختفي تمامًا من حياتها؟، ليلهب مشاعرها، لتجد نفسها تبحث عنه، وتترك ذاتها هائمة في حبه، رغم أن تلك ليست بشخصيتها التي عهدتها، ولكن كان للحب الكلمة الفصل في تصرفاتها، فهو اصبح يترك لذة في حياتها، بسمة علي شفتيها، راحة في قلبها، رضا في عقلها، وطالما انتظرت منه أن يُشنف أذنيها بما تريده أن يحدث من تطور في العلاقة، لكنه ليس بالشخص السهل الطباع، أو من أصحاب التصرفات المتوقعة، فهو إن سقط بكلمة يُلحقها بفعل يبدد وقع الكلمة عليها، ورغم أنه مُحير، إلا أن ذكاءه وتصرفاته المتباينة تثير فيها الرغبة للاستمرار، وإكتشاف أبعاد شخصيته أكثر، وكأي مُحبة مُنجرفة بدأت تضع له العذر، وليس عذراً فحسب، بل عشرات الأعذار، فقدمها انزلقت في شباكه تمامًا، لكن مازال عقلها يجعلها تلاعبه مثلما يفعل حتي لا يتصور أنها في انتظاره، كبرياؤها رغم كل شيء لاتزال صحواً، لا تسمح بهذا، وإن كانت تصرفاتها المُتسرعة علي غير العادة قادتها لأخطاء كادت أن تفضح مشاعرها في مرات قليلة.
وكونها تشعر بالأحداث قبل وقوعها، ظل قلبها يخفق ذات ليلة بعد أن حادثته في الهاتف، وبالفعل تعرض لوعكة صحية ألمت به، جعلته يخضع لفحوصات طبية، ويختفي من حياتها تدريجيًا، سعت أن تتواصل معه كثيرا، وكان يتهرب، لتضع له الأعذار، وتتركه يعود لها بإرادته او لا يعود، ولكونه حبها الأول الذي تأبي أحيانًا كثيرة أن تعترف به، وتُكذبه في أحاديثها مع من يعلم من المُقربين، إلا أنه يداعب فكرها بين الفينة والأخري، وها هي تبحث عمن يحل محله في أعماق شخصيات من حولها، لكن لا تجده إلا في ملامح بعضهم، لتغلق هذا الباب، وساعدها علي هذا الفعل، أنها دخلت مُعترك إثبات الذات في العمل، ولم تمر أيام إلا وكانت حديث الجميع في أروقة عملها، وتتقدم سريعًا فيه، فهي من تملك الذكاء الإجتماعي المنضبط ، وهي من تملك الشخصية اللافتة في محيطها، فليست كل أنثي قادرة أن تقود الجميع، تجعلهم قادة وقتما يريدون، ورعاياها بطيب خاطر منهم وقت أن تريد، كشفت لوغاريتمات المعادلة الصعبة للعلاقات الإجتماعية والوظيفية دون خطأ دينياً كان أو دنيوياً، ورغم قيادتها للجميع فإنها في أعماقها تحلم بمن يقودها ويصبح شريك حياتها، وسنداً من جديد.


* نشرت بجريدة أخبار الادب المصرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى