ريم بنت محمد اللواتي - ولا تيأسوا.. قصة قصيرة

لم يغمض لها جفن طوال تلك الليلة.. كانت غارقة في تفكير عميق لا مفرَّ منه، مُسيطر على كل ذرة من كيانها، وكأنه السلطان الذي يحلُّ على حاشيته فيذعنون له كالرقيق؛ حتى شعرت بأن رأسها يكاد ينفجر من دوامة الأفكار التي تعصف به.

كان قرص القمر يلتمع في صفحة السماء السوداء التماعًا متوهجًا على نحو موصول؛ باديًا لها وكأنه أشد إشراقًا من أيما ليلة من قبل هذه، وكأن ضياءه النافذ يحدق إلى عينيها، ويغريها بالاقتراب، ويهمس لها:

“إيهًا أيتها الصبية! ما الذي دهى عقلك الصغير هذه الليلة؟ ما الذي يخفت من بريق هاتين العينين اللؤلؤتين؟ لماذا يستعصي عليهما الإبحار في السبات كباقي الليالي؟ ماذا! أما زلت جالسةً على سريرك؟! لماذا لا تأتين إلى هنا؟! تعالي! احكي لي! أفرغي ما بجعبتك! أخرجي كل ما يعتمل في فؤادك!”.

حتى استسلمت أخيرًا.

نهضتْ عن سريرها، ومشت بضع خطوات إلى النافذة، وراحت تحدق بلهفة إلى ذلك الضياء المنير، حائرة الفكر، مضطربة الفؤاد:

– “آه منك أيها القمر!”.. غمغمت في كآبة مضة.

ثم لم تلبث حتى لبست ثوبها الملائكي، المحاكي ضياءَ قمرها في ليلته الرابعة عشرة تلك، المزيَّن بنقوش زهر الربيع، فبدا وجهها من خلاله أكثر صفاءً، وعيناها أشد التماعًا. ثم عادت إلى مكانها، إلى حيث القمر المنير، والليل الساجم، السابح في السواد. وعادت تحدق من جديد، ولكن هذه المرة بعينين أقل اتساعًا، وأقل لهفة، وأقل دهشة. من الممكن القول بأن تلكما العينين كان فيهما شيء من الإشفاق وشيء من الانكسار.

لقد ظلَّت واقفةً في تأملها ذاك حينًا من الزمن لا تريم، بيد أنها لم تحس بذلك.

– “أيها القمر المنير، ما أحسن تلك الصورة التي صورك عليها خالقك! يا لشعاعك المتوهِّج، يا لبياضك الناصع، يا لجمالك وسط هذا السواد العقيم! إنك لتؤازر شمس النهار في مهنتها، وتؤاخيها في إشراقتها! إنك تطلع كل ليلة على هذه الأرض، وتقوم بمهمتك على أكمل وجه، ودونما أي تقصير! فتنير الدروب الظلماء للسالكين، وتؤنس نفوس المستوحشين، وتحير عقول العلماء والمتعلمين، وتبهر أعين الناظرين!

بيد أنك في كل ليلة تتناقص عن سابقتها حينًا، وتتزايد حينًا آخر؛ فنراك تارةً بدرًا مكتملَ الصورة، وتارةً أخرى محاقًا حديث الولادة؛ لتعلن بذلك دخول أول الشهر؛ فيستبشر الناس بمقدمك فرحًا، ويودعوك حين نهاية الشهر حزنًا، ثم ينسون أو يتناسون كل فضلك عند طلوع الشمس!”.

ثم تغيرت نظرتها نحوه، وبدت وكأنها تستفسره معاتبة:

“ولكن، أصدقني أيها القمر: هل أنت حقًّا كما يراك البشر، دائم الإنارة متوهج الضياء، من جميع جوانبك؟! إن علماء الفلك والفضاء ليقرون بأنك – رغم كل الضياء الذي تتحفنا به على أرضنا- تحمل من جهتك الأخرى جانبًا أشد ظلمةً من سواد السماء نفسها! أوتخادعنا أيها القمر، بأن تظهر أمامنا الجميل وتستر عن نواظرنا القبيح؟!”.

ثم تحدَّرت على خديها دمعتان أشبه باللؤلؤتين؛ فزادتا عينيها جمالاً وبريقًا، وتابعت:

“ولكن تمهَّل لحظة، فإن ما تفعله -أنت- ليس من الخداع في شيء. إنك لا تقوم بذلك متعمدًا بمحض إرادتك، وليست تلك الظلمة التي في جانبك الآخر من صنع يديك، وإنما هي نتيجة طبيعية لانعكاس ضوء الشمس عليك.. إنها تلك الظاهرة التي يسميها العلماء بالظل؛ حيث يظهر ظلك في الجانب الآخر الذي لا نراه نحن، لأنه معاكس لجهة أرضنا!”.

ثم تنهَّدت على نحو ملأه التحسر والتأسف، وتتابع انهمال دمعها البراق، وتابعت من جديد -وهي تمسح بعضًا منه من على وجنتيها:

“نعم أيها القمر. إنك غير ملام في أي شيء، فأنت -واقعًا- لم تخطئ في شيء، ولم تقصر بشيء. إنك تعمل وفقًا لإرادة جبارة تفوق إراداتنا جميعًا، ولا تخالفها ولو بمقدار ذرة. إنك لا تمتلك عقلًا لتميز به ما تفعل، ولا ضميرًا يحثك على فعل شيء دون الآخر، ولا رغبةً ولا رهبةً تستشعرها عند قيامك بما تفعله كل يوم، وإنما نحن -البشر- الذين منحنا كل ذلك.

“نعم نحن. نحن الذين منحنا كل ذلك، ومنحنا ما هو أكثر من ذلك بكثير. ولكن -رغم كل ذلك- فإننا نحن الذين قصرنا، وأنت الذي فعلت كل ما يتوجَّب عليك فعله على أتم نحو”.

عند تلك اللحظة، شعرتْ بأن عَبَراتها تكاد تخنقها، وقلبها يعتصر ألمًا لما تضج به روحها الفتية؛ فأجهشت في بكاء مُرٍّ شبيه بنواح الأرامل على وحدانيتهن.. وبدأت تتماثل في ذهنها صُور متسارعة، ومقتطفات من ذكريات مرَّت بها خلال عمرها القصير، وارتعشتْ فرائصها ارتعاشة صغيرة في ظاهرها، عظيمة في أثرها على نفسها!

ثم رَنَتْ بطرفها نحو قمرها من جديد، وبدتْ وكأنها تستغيثه، وترفع إليه يد الغريق المشارف على الهلاك، إلا أن شيئًا من الطمأنينة والهدوء قد دَاخَلَ نفسها عندما نظرت نحوه.. لقد بدا وكأنه يبتسم لها.

لقد خالتْ لوهلة أنها تسمعه يناغيها من جديد، ويطمئن روحها الوالهة بشيء أشبه بترنيمة الوحي. لقد تردَّد في أعماق نفسها ذلك الصوت الشجي كأعذب ما يكون: “ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون”.. لقد شعرت بأن روحها تحلق إلى جانب ذاك القمر.

وبعد أن استقرَّت في أعماقها السكينة، وهدَّأ من روعها ضياء قمرها الباسم، انحنتْ نحو أحد أدراجها، واستخرجتْ منه نسيجًا يفوح بعطر ماء الورد، والياسمين، وفرشته في إحدى الزوايا، بالقرب من نافذتها. ثم عادت لتقف -مرةً أخرى- إلى حيث النافذة.

ثم سمعت صوتًا هو الأقرب إلى قلبها، يخترق الآفاق، ويصدح في جميع الأرجاء.

ولاح على جبينها ألق سماوي عجيب، وعلى شفتيها شبح ابتسامة.



* منشور بموقع شرق/غرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى