محمد الفولي - عنتر عضمة

لم أبرع أبدًا في عقد الصفقات حتي قابلته. هو أول من لقنني مبدأ »إذا كنت تجيد أمرًا ما، فلا تفعله مجانًا»‬، حتي دون أن ينطق هذه العبارة. لكي أحكي قصتنا، أحتاج لجمع أشلاء حقبة مر عليها ستة عشر عامًا تقريبًا. هي سنوات لا أكن لها أي مشاعر سواء بالسلب أو بالإيجاب وتشغل حيزًا ضيقًا في ذاكرتي، بل هي مدفونة داخل عقلي، لذا سأضطر لتجريفه عبر هذه الكلمات التي أكتبها لأنتشل رفاتها وأنقاضها، لأبث فيها الروح من جديد، لأعيد تشكيل الأماكن وهو أمر لا يتأتي إلا عبر إعادة تشكيل الزمان، لكن ذلك الأخير ليس له هيئة واضحة، كثافته تتمدد وفقا لهواه، بل وقد تجعل ما كان بعيدًا ذات يوم يبدو أدني من حبل الوريد، وما كان قريبًا في غاية البُعد.
في البداية عجزت ذاكرتي الضعيفة عن استدعاء كل التفاصيل، لكن بعد وميض سريع يغشي البصيرة، أعقبه تشوش مربك، بدأت ملامح الصورة الأولي تتجلي: شاب في منتصف العشرينات تقريبًا، يقف مستندًا علي سور مدرسة بينما يلهو بسكين في يده اليسري المزينة بسوار علي هيئة أفعي. هو حليق الرأس، ووجهه مليء بالندوب، ينفث بتلذذ دخان سيجارته ثم يبتسم بعدها بلا داع ليظهر الفراغ الذي خلفه فقدان سنتيه الأماميتين.
يتخلي الزمان عن انكماشه ويمنح ذاكرتي جرعة منشطة قبل أن يتمدد وينبسط لتتراكم الصور والمشاهد والتفاصيل وأدرك تمامًا كيف سأبدأ في حكاية قصتي معه، فلا سبيل لسرد الأحداث سوي العودة إلي ذلك اليوم الذي أقنعت فيه والديّ بعد نقاش محتد بأنني لا أرغب في إكمال تعليمي في المدرسة الخاصة التي قضيت فيها عشر سنوات: من الروضة وحتي الصف الثالث الإعدادي، فقد حان الوقت لأخرج من القمقم وأتعرف علي عالم جديد. هما ليسا في حاجة لتكرار نفس النقاشات الطويلة والمملة التي خاضاها مع أخي الأكبر، وانتهت باستمراره في نفس المدرسة التي دخلها طفلًا وخرج منها نحو كلية الصيدلة، كما أن تخفيف عبء المصروفات الثقيلة للمدرسة الخاصة كان خيارًا جيدًا واقتصاديًا للعائلة، ضمنت عبره خروجًا آمنًا دون أي شروخ أسرية.
تملكتني رغبة عمياء في القضاء علي براءتي، وحماقتي، وكل الصفات التي يراها الآباء »‬حميدة». كان سبيلي لتحقيق هذا هو التخلص من قيود مدرسة »‬بورسعيد الخاصة»؛ قربها من المنزل ووجود رقيب عائلي بها، للانطلاق نحو ما رأيته رحابًا أوسع، لذا كان خياري هو مدرسة »‬عمر بن الخطاب» الواقعة بشارع الأربعين. توجب عليّ يوميًا الخروج من بيتنا القديم بشارع إبراهيم الرفاعي، بالقرب من البوابة الخلفية لسنترال المطرية، قطع المسافة القصيرة التي تفصله عن شارع التروللي، والذي قيل لي إن اسمه هكذا لأنه-قديمًا - كانت تمر به وسيلة نقل مُندثرة لم أرها أبدًا تحمل نفس المسمي، ثم السير في امتداد شارع عزت، وصولًا لشارع المشروع، فعبوره لبدء الرحلة في شارع الأربعين المترب، لأصل لوجهتي المنشودة، البعيدة عن وسائل وأنماط الرقابة كافة، حيث يمكنني تحقيق رغباتي في التعرف علي العالم الحقيقي والقضاء علي حماقتي في وسط لا يعرف أنني في الحقيقة أحمق منذ الصغر.
كانت البداية صعبة، تمامًا مثل المحاولة الأولي لاسترجاع تفاصيل قصتنا. دائمًا ما تكون الأمور معقدة بالنسبة للمُستجدين، صحيح أنه كان العام الدراسي الأول للكل في »‬عمر بن الخطاب»، لكن يُنظر لأبناء المدارس الخاصة دائمًا كمخنثين مدللين قادتهم ظروف خاطئة إلي مصير سيعجزون عن الصمود فيه. تزداد صعوبة المسألة غالبًا إذا كان هؤلاء المخنثون يعانون من السمنة ويرتدون نظارات، لكن بعد مشاجرتين أو ثلاث، تبدأ في عقد بعض الصداقات واكتساب نوع معين من الاحترام، ذلك الذي تحصل عليه بعد إثبات أنك تخطيت مرحلة التدليل ولم تعد مخنثًا.
بعد مرور شهر علي بداية العام الدراسي رددت أفواه الجميع اسماً واحداً فقط: »‬عنتر عضمة»، مجرد ذكر أنه يقف مستندًا إلي السور الخلفي للمدرسة، كان كفيلاً بتراجع الكثير من الطلبة عن خطط »‬التزويغ»، حتي إنني حينما أفكر حاليًا في الفترة التي بسط فيها سلطانه قبل أن يحدث ما حدث وتنتهي علاقتنا، أراه كعلاج أثبت -دون قصد- فاعليته في مواجهة ظاهرة الهروب من المدارس؛ كان يجب أن تتحلي بشجاعة كبيرة لتقفز من فوق السور وأنت تعلم بوجوده، لأنك إما ستتعرض للسرقة أو »‬التثبيت»- كما يُطلق علي هذه الممارسة تحديدًا - وبالتالي فقدان ساعتك، أموالك.. ربما حذائك، أو أحيانًا للضرب.
صيغت الكثير من الأساطير الحضرية حول سبب تسميته، فقيل إن اسمه الحقيقي هو عنتر أما لقب »‬عضمة» فاكتسبه بعد شجار مع أحد منافسيه استخدم فيه عظمة لضربه، وقيل أيضًا إنه هو كان من ضُرب بها لهذا فقد سنتيه الأماميتين، بل وذهب البعض إلي أن أيًا من هذا لم يحدث وكل ما في الموضوع أنه أثبت دائما جرأته وأن “عظمه ناشف”، لكن علي أي حال لم تبدأ علاقتنا بسرقة عند السور الخلفي للمدرسة، فكنت لا أزال سمينًا في عامي الدراسي الأول بـ »‬عمر بن الخطاب»، وكانت مسألة قفزي من علي السور تتطلب جهدًا كبيرًا، ليس من طرفي فقط، بل بالنسبة لصديقيّ في تلك الفترة محمد حسن وحمد لرفع جسدي القصير المتكور نحو الأعلي، لهذا كان خياري الدائم في أيام »‬التزويغ» خلال عامي الأول هو عدم الذهاب للمدرسة من الأساس، والتوجه مباشرة إلي »‬عم زينهم».
كانت »‬المؤسسة» التي يديرها »‬عم زينهم» جديرة بالاحترام، بل وإن ما شاهدته فيها من انضباط كان أمرًا مذهلًا، هو مخزن قديم في الدور السفلي بإحدي العمارات القريبة من »‬عمر بن الخطاب». يفتح أبوابه الحديدية في السادسة والربع صباحًا- قبل أي مدرسة- لاستقبال الطلبة الهاربين الذين يلتزمون بتعليماته بحذافيرها، لا يقدمون علي السباب أو الصراخ بصوت مرتفع كما تنص قواعده، يجلسون- لكى تزداد الصورة غرابة- على مصاطب تتراص فى مصفوفة منضبطة أمام ثمانية تليفزيونات تتصل بها ثمانية أجهزة «بلاى ستيشن». عقدتُ الكثير من الصداقات فى تلك الفترة مع طلبة من نفس المدرسة ومن مدارس مختلفة، وأحيانًا مع شباب جامعيين، وأرباب عائلات، بل ومع “عنتر عضمة” نفسه، الذى وجد لنفسه مصدر دخل إضافيا عن طريقى دون أى أسلحة بيضاء، أو ضرب أو تثبيت.
تظهر هيئة «عم زينهم» الآن أمام عينيّ بصورة فائقة الجودة، بل ربما بتقنية الـ4K، بشرته النحاسية، شاربه الرفيع، وجهه المربع، جلبابه البني، شعره اللامع المصفف نحو اليمين، وسيجارته الطويلة التى كان يلتهمها بشغف رغما عن نوبات السعال المتكررة. أتذكر الآن- وبقوة- صوته وهو يطالبنى بترك اللعب والقدوم للحديث مع «عنتر».
كنت أخوض مباراة مع صديق يُدعى إبراهيم وفقًا لقواعدنا الثابتة فى تلك الفترة: من يخسر يُسدد ثمن المباراة أو «على اللى يشيل»، كما اعتدنا القول. كنت ماهرًا للغاية حينها، خاصة فى لعبة «Winning Eleven 4»، التى أُطلق عليها مجازًا بين أبناء جيلنا «المصرية»؛ لأنها كانت أول لعبة كرة قدم على جهاز الـ «بلاى ستيشن» تضم منتخب مصر. هكذا وعبر مهارتى كنت أتمكن من الصمود فى أيام «التزويغ» من المدرسة إلى تلك المؤسسة المنضبطة بمصروف يومى قدره جنيهان من السابعة صباحا وحتى الثانية عشرة والنصف ظهرًا، وربما لهذا لفت انتباه «عضمة» الذى طلب من عم زينهم أن يتعرف عليّ «عشان ممكن نعمل مصلحة حلوة».
كانت تفاصيل الصفقة واضحة وبسيطة والسبب الرئيسى لقبولها هو وجود «عم زينهم» كضامن: سأستغل مهارتى لجنى المزيد من النقود للجميع. سأمثل «عضمة» فى مراهنات أمام منافسين آخرين سيجلبهم هو أو مدير مؤسستنا الترفيهية الصغيرة على أن توزع الحصص بالصورة التالية: 60% للمراهن الذى يفوز لاعبه، 30% لصالح عم زينهم و10% لصالح اللاعب الفائز. لم يخسر «عضمة» رهانه عليّ طوال عام دراسى كامل سوى مرتين أو ثلاث، وباتت لدى سيولة مالية لم أكن أتخيلها فى مثل هذه المرحلة العمرية. كنت حريصًا ألا يتم كشفى من هيئة الرقابة المالية فى المنزل، لدرجة اقتسامى أحيانا نسبة الـ10% مع منافسى الخاسر أيًا كانت هويته، لكن هذا لم يمنعنى من الاستمتاع بمكاسبى عبر الذهاب لـ«حفلات الطلبة» فى سينمات وسط البلد، واختراع مواعيد وهمية لحصص الدروس الخصوصية لإيجاد سبيل للخروج وإنفاق ما تيسر من مكاسبي.
لم تتعمق علاقتى بـ «عضمة» كثيرًا على الرغم من المكاسب المشتركة الكبيرة التى حققناها، فقد وقف حائلًا أمام محاولاتى البائسة لمحاكاة عالمه أكثر من مرة، مثل تلك المرة التى فزنا فيها برهان قدره 100 جنيه وكانت إمارات السعادة تبدو على وجهه- لا أدرى حقًا إذا كان هذا بسبب المكسب أم «الاصطباحة» التى كان قد انتهى من تدخينها- قررت بكل سذاجة سؤاله عما إذا كان يمكنه تعليمى كيفية «تسقيف الموس» ليرفض بحزم يتعارض مع حالته المزاجية «أنت فى الأول والآخر ابن ناس، مش ابن كلب زيي». صحيح أن علاقتنا لم تتعمق واعتمدت على «المهنية» فى أغلب جوانبها، لكن ظهورى معه أكثر من مرة بالقرب من المدرسة وتناقل الأمر على الألسن بين الطلبة، وفر قدرًا من الحماية التى كان يحتاجها ابن المدرسة الخاصة المدلل حتى ينهى عملية تحوله وانخراطه فى البيئة التعليمية الحكومية.
فى نهاية الصف الأول الثانوي، كنت قد ضقت ذرعًا من المسألة، ليس فقط بسبب الخطورة التى كان ينطوى عليها الأمر واضطرارى لإنفاق جانب كبير من الأموال التى كنت أجنيها لـ «شراء» أيام الغياب- كما كنا نقول- من شؤون الطلبة، فمدرسة «عمر بن الخطاب» كانت، وأعتقد أنها لا تزال، غاية فى الحقارة: يُمكنك مسح أيام غيابك برشوة شئون الطلبة ماديًا أو بالقيام بأعمال مهينة مثل تنظيف الفصول، الحمامات، مكاتب المدرسين، أو حوش المدرسة، وبهذه الطريقة يُصبح عدم وصول إنذارات الفصل أو استدعاء ولى الأمر مضمونًا. صارت المسألة تشكل ضغطًا نفسيًا هائلًا عليّ فى ظل ظهور وازع دينى بات ينفرنى من طريقة تحقيق هذا المكسب السهل، علاوة على اقتراب فترة الامتحانات.
تراجع حضورى فى «المؤسسة الزينهُمية» وبالتالى تدنى الدخل الذى كان يحققه «عضمة» وبدأ ظهوره بجوار السور الخلفى للمدرسة يتكرر بصورة أكبر، كان كل منا يكتفى بالنظر للآخر فقط من بعيد وفى ثانى أيام الامتحانات قال لى أحدهم إنه يجب علىَّ توخى الحذر لأن عنتر «ناوى لى على نية».
تتجلى صورته الآن أمامي: شاب فى منتصف العشرينات تقريبًا، يقف مستندًا على سور مدرسة بينما يلهو بسكين فى يده اليسرى. هو حليق الرأس، ووجهه مليء بالندوب، ينفث بتلذذ دخان سيجارته ثم يبتسم بعدها بلا داع ليظهر الفراغ الذى خلفه فقدان سنتيه الأماميتين، يلقى بعقب السيجارة ويتحرك نحو الأمام وهو يتثاءب، وفجأة يهاجمه رجلان من الخلف، يُسقط أحدهما سكينه ويضربه الآخر بكعب مسدسه على رأسه، تنساب الدماء على وجهه ويلتفت فى ذهول بينما يسمع عبارة «عامل فيها بلطجى يا روح أمك»، يحاول الانقضاض على أحدهما، لكنه يتفاداه ويعرقله قبل أن يمسكه الآخر ويقيده فى عمود الإنارة «عشان كل عيال المدرسة يشوفوا الدكر اللى كان مخوفهم».
كل الأمور واردة فى مدرسة «عمر بن الخطاب» ، ومنها أن تجد فى لجنة امتحاناتك أمينى شرطة فى أواخر العشرينات يخوضان اختبارات الصف الأول الثانوي، آملين فى إنهاء هذه المرحلة والانتساب لكلية الحقوق مستقبلًا والحصول بهذه الطريقة على ترقيات تنقلهم لمصاف الضباط. بالطبع قد يسمع أمينى الشرطة حكايات الطلاب عن الرعب الذى يبثه «عضمة» فى نفوسهم. لن يمانعا بكل تأكيد فى أداء «نمرة» تعجب الجمهور وعرض هزيمة عنتر على مسرح السور الخلفى للمدرسة. هل أخطأت حينما قصصت عليهما أسطورة «عنتر عضمة» فى يوم الامتحان الأخير؟ لا أدرى ولكن كل ما أعرفه فقط أنني- مهما حدث- ووفقا لكلماته «عيل بن ناس»، ولا يمكن لـ «أولاد الناس» تحمُل العيش بعلامة غائرة على وجههم تنتج عن عقاب أخبرنى أحدهم بأنه قد يجهزه لي.
مرت ستة عشر عامًا تقريبًا على ذلك اليوم، اليوم الذى شاهدت فيه «عنتر» يدمى بعدما غلبت الكثرة «الميري»- المتدثرة بملابس مدنية - الشجاعة، والسبب الوحيد الذى دفعنى لتذكره هو أننى رأيته أمس. تقدم سنه، لكنه لا يزال محتفظًا بملامحه الأساسية المشوهة.. رأيته هناك أمام محطة مترو عين شمس، يتشاجر مع سائقى توكتوك، شاهرًا فى وجهيهما السيف الذى أخبرنى ذات مرة أنه يمتلكه. يعرف الجميع أنه أداة تهديد فقط ليس إلا، لكن الكل يخشاه. لم أتوقف لمشاهدة كيف ستنتهى الأمور. لا أعرف إذا ما كان خوفًا من أن يتعرف عليّ، أم لأننى كنت متعجلًا العودة إلى المنزل، لكن كل ما أعرفه أننى بعد عدة ساعات من دخولى البيت، فتحت جهاز الكمبيوتر، وأمسكت بذراع التحكم الموصول به وقررت- لأول مرة منذ عامين- محاولة اللعب على وقع ذلك اللقاء، لكنى لم أعرف طعم الفوز وخسرت الرهان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى