عبد القادر وساط - في ضيافة شعراء المُفَضليات (1)

ما أجمل الليالي المقمرة في الحلم!
هي لا تشبه في شيء تلك الليالي التي نعيشها في اليقظة.
وما أروع مشهد الرمال، الممتدة حتى حدود البصر، حين يغمرها ضوء القمر ويسبغ عليها لونا لا اسم له، لأنه غير معروف في الحياة الواقعية...!
لكنْ لماذا أتحدث عن الرمال في ليلة مقمرة
السبب بسيط للغاية
فأنا أحكي عن حلم جميل، قمتُ خلاله بزيارة لشعراء المُفضليات، في خيامهم المضروبة في عمق الصحراء...
لم أكن وحدي بطبيعة الحال. فحتى الحالم لا يجرؤ على المغامرة بنفسه وحيدا في تلك القفار الشاسعة . فإنْ هو فعل، فقد يضل ويهلك، وبالتالي، فإنه لن يستيقظ من جديد!
لم أكن وحدي إذن. كان يرافقني دليل في الخمسين من العمر. وكان (يرتدي) شملة يميل لونها إلى السواد، أو هكذا خُيل إلي في الحلم. ولما بلغنا خيام القوم، خاطبني قائلا
- ها نحن الآن قد وصلنا مَضارب الشعراء، أيها الحالم..
كان يصر على تسميتي بالحالم، رغم أني قلتُ له مرارا إن اسمي عبدالقادر..
والمهم أنه لم يكد ينتهي من كلامه، حتى ظهر أمامنا شخص قد جاوز الستين. ظهرَ هكذا، بكيفية مفاجئة، كأنه انبثق من العدم، ومع ذلك، فإن دليلي لم يرتبك ولم يبد عليه أنه فوجئ بظهور الرجل... بل إنه ابتسم عند رؤيته، وقال
- السلام عليك يا سُحَيْم بن وَثيل الرياحي..
قلتُ بنوع من الاستغراب:
- ولكنّ سُحيم بن وثيل من شعراء الأصمعيات... ونحن الآن في زيارة لشعراء المفضليات...
فلما سمع سُحيم كلامي، قال لي مبتسما:
- نعم أيها الحالم... أنا من شعراء الأصمعيات.. لكنني أحب أصحاب المفضليات وقد دأبتُ على زيارتهم و الجلوس إليهم، كي نروي الأخبار ونتناشد الأشعار...
قلتُ وقد زايلني إحساسي بالدهشة:
- يا سُحيم، أنا والله أحب قولك:
( أنا ابنُ جَلَا و طلّاعُ الثّنايا = متى أضَع العمامةَ تَعْرفوني)
وقد تمثَّل الحجاج بن يوسف ببيتك هذا، في خطبة من خطبه المشهورة... فأخبرني بالله عليك، كيف نقرأ ( طلّاع)، أبضم العين أم بكسرها؟
قال:
- كلاهما صحيح... فإذا قرأتَها بالخفض فهي صفة لأبي، وإذا قرأتَها بالرفع، فهي صفة لي أنا...
كنا نتحدث ونحن نمشي وسط الخيام، ويبدو أن الدليل كان يقودنا نحو خيمة شاعر معين، دون أن يكشف لنا عن اسمه...
قلتُ لسُحيم:
- فبَيّنْ لي أصلحك الله معنى بيتك هذا، فإنه يستعصي على أبناء زمني ...
قال:
- أنا ابنُ جَلَا، أي أنا سليل الشرف الواضح الذي لا يخفى... وطلاع الثنايا، وهي جمع ثَنيّة، أي الطريق في الجبل، فالمعنى هو أنني رجل جَلد، أقهر الصعاب... ومتى أضع العمامة تعرفوني، أي أنني متى أكشف عن وجهي، تنظروا إليّ فتعرفوا من أنا ...
و لما بدا لي أن هذا الشاعر المخضرم رائق المزاج، قررتُ أن أغتنم الفرصة و أطرح عليه المزيد من الأسئلة...فقلتُ له:
- أنتَ تقول في هذه القصيدة:
( عذرْتُ البُزْلَ إنْ هي خاطرَتْني = فما بالي و بالُ ابْنَيْ لَبُون؟)
فما معنى هذا البيت الصعب؟
فابتسم سُحيم وهو يجيب:
- البُزْل جمع ( بازل) وهو البعير المسنّ... وابن اللبون هو ولد الناقة في سنته الثالثة، وخاطرَتْني بمعنى راهنَتْني... فالمعنى إذن هو: إذا راهنني الشيوخ فذلك أمر مقبول وأنا أعذرهم لأنهم في سني، وأما الفتيان الصغار، فلا شيء يدعوهم إلى مخاطرتي...
وما كاد سحيم ينتهي من هذا الشرح، حتى استبد به ذلك الطرب الذي يستبد بالشعراء، فشرع ينشد، بصوت عذب، أبياتا أخرى من قصيدته الأصمعية التي نتحدث عنها، ومنها:
و ماذا يَدّري الشعراءُ مني = و قد جاوزتُ حدَّ الأربعين
أخو خَمْسينَ، مُجْتَمعاً أشُدّي = و نجّذَني مُداورةُ الشؤون
فلما كف عن الإنشاد، قلتُ له:
- يا سُحيم، قد بلغَنا الكثيرُ عن حبك للخمر، وكيف كانت امرأتك تلج في عتابك بسبب ذلك...بل إنك نظمت قصيدة مشهورة في ذلك...
قال:
- تقصد قصيدتي الدالية، التي أقول في مطلعها:
( تَقول حَدْراءُ: ليس فيك سوى ال = خمر معيب يَعيبه أحدُ)
فوالله لقد نسيتها فلم أعد أذكر سوى هذا المطلع...
فلما رأيتُ، فيما يرى النائم، أنه صادق فيما يقول، هممتُ بأن أقرأ عليه تلك القصيدة الجميلة، لولا أن جاءنا صوتُ الدليل:
- نحن الآن أمام خيمة ذي الإصبع العدواني، واسمه حرْثان، فلندخل آمنين...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى