جابر عصفور - مائة عام على تعريب إلياذة هوميروس

لا يكتمل تاريخ أي ثقافة إلا بتاريخ الترجمة فيها. ولا يعلو قدر أي ثقافة إلا بعلو قدر الترجمة فيها كمّا وكيفًا. وقد تعلّمنا من الأمم المتقدمة أن الترجمة أصل من أصول التقدم.
تتسابق الأمم الناطقة باللغات الأوربية في مدى الترجمة, بل يصل الأمر إلى درجة أن تصدر الترجمة الإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية أو الألمانية لكتاب من الكتب التي تصدر في أقطار هذه اللغات مع صدور الكتاب نفسه في لغته الأصلية. وقد حرصت الأمم الآسيوية المتقدمة, وعلى رأسها اليابان, على أن تترجم إلى لغتها كل ما تصدره الأقطار الأوربية - وغير الأوربية - من منجزات التقدم والحضارة في كل أنواع المعرفة والإبداعات المختلفة. وقد أدهشني - وأنا أتابع الكتابات المترجمة للفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا - أن اللغة اليابانية من أكثر لغات العالم احتفاء بكتاب هذا الفيلسوف ما بعد الحداثي, وهو أمر دفعني إلى الشعور بالخجل, نتيجة علمي أن مصر التي أنتسب إليها بدأت نهضتها قبل اليابان, واستهلت حركة ترجمة قوية قبل اليابان, ولكننا تعثّرنا مع غيرنا من الأقطار العربية بينما مضت اليابان في طريق التقدم المنشود إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه, ولاتزال رحلتها في أفق التقدم الذي لا نهاية له أو حدّ.
ويدفعني ذلك إلى تذكّر ما شاهدته من احتفالات رسمية وشعبية في السويد, حين كنت أعمل أستاذًا زائرًا في جامعة ستوكهولم, وذلك بمناسبة انتهاء مترجمة سويدية شهيرة من ترجمة مجلدات رواية الكاتب الفرنسي مارسيل بروست (البحث عن الزمن المفقود) إلى اللغة السويدية, وقد رأت الأوساط الثقافية السويدية في اكتمال الترجمة ونشرها حدثا ثقافيا ضخما يستحق الاحتفاء والإشادة والتقدير, فأقامت المنتديات الفكرية, وتولت تكريم المترجمة بأكثر من وسيلة, ووضعت مكتبات السويد أغلفة مجلدات الرواية مكبّرة على زجاج نوافذ العرض فيها, وظلت الترجمة حديث السويد كلها لفترة غير قصيرة, وكنت أشاهد ذلك وأسأل نفسي عن اليوم الذي تقوم فيه الأوساط الثقافية بتكريم مَن ترجموا الروائع العالمية من الأعمال الإبداعية, أو ترجموا أمهات الكتب التي تأسس بها ميراث الإنسانية العلمي والفكري. وخطر على بالي اسم حسن عثمان المترجم المصري الذي عمل حوالي عشرين عاما في ترجمة ( الكوميديا الإلهية ) لدانتي عن اللغة الإيطالية القديمة, كما خطر على بالي سليمان البستاني الذي قضى ما يقرب من خمسة عشر عاما في ترجمة إلياذة هوميروس, أو تعريبها نظما.

هوميروس منظوما
ولا يعرف الكثيرون أن سليمان البستاني (1856-1925) أصدر ترجمة الإلياذة كاملة, في مجلدين ضخمين في ما يزيد على ألف ومائتي صفحة من القطع الكبير, سنة 1904 في القاهرة. وكانت مكتبة المعارف ومطبعتها الكائنة بأول شارع الفجالة هي صاحبة الفضل في الإصدار الاستثنائي الذي أعلنت عنه على النحو التالي: (إلياذة هوميروس معربة نظما, وعليها شرح تاريخي أدبي, وهي مصدّرة بمقدمة في هوميروس وشعره وآداب اليونان والعرب ومذيلة بمعجم عام وفهارس بقلم العلامة المفضال سليمان أفندي البستاني. وتحتوي على 1260 صفحة مطبوعة طبعا متقنا على ورق جميل). وكان سعر الجزأين مجلدين جنيها مصريا وثمانية قروش, بينما كان سعر النسخة المغلفة بغلاف ورق ملون جنيها مصريا لا غير, ويضاف إلى ذلك ثمانية مليمات أجرة البريد (البوسطة). وقد احتفت الحياة الثقافية العربية والمصرية بصدور الترجمة احتفاء لافتا, لم يحدث من قبل مع ترجمة كتاب. وهو احتفال جعلني أؤمن أننا سبقنا السويد والأقطار الأوربية في الاحتفاء بالترجمة, سواء في تاريخنا العربي الذي يرجع حتى إلى ما قبل زمن المأمون ومدرسة الحكمة, أو بدايات تاريخنا الحديث حين قام محمد علي بتأسيس مدرسة الألسن, وتتابع أجيال المترجمين وأعمال الترجمة على امتداد الأقطار العربية التي سبقت إلى النهضة, وذلك في السياق الذي وصل إلى ذروة من ذراه الدالة سنة 1904 حين صدرت ترجمة البستاني لإلياذة هوميروس فاحتفت بها الحياة الثقافية العربية احتفاء استثنائيا يليق بها, وأقول استثنائيا لأن مثل هذا الاحتفال لم يتكرر حسب معلوماتي.
ولاأزال أذكر مشاعر الدهشة والإعجاب التي انتابتني عندما قرأت ترجمة البستاني للمرة الأولى منذ زمن بعيد, ولاتزال هذه المشاعر تعاودني كلما عدت إلى هذه الترجمة وتوقفت عند المقدمة الطويلة, أو الدراسة الضافية التي يصل عدد صفحاتها إلى مائتي صفحة محتشدة بكل ما ينطق بقيمة الترجمة وفضل المترجم واتساع معارفه. ولا عجب أن يبذل المترجم من سنوات عمره هذا العدد الكبير من الأعوام التي قضاها باحثا ومنقبا ومتعلما في الوقت نفسه. وقد تولى بنفسه رواية حكاية التعريب و(حكاية المعرّب) فأخبر قرّاءه أنه كان كلما قرأ منظومة من المنظومات القديمة والحديثة ازداد إعجابه بالإلياذة, لأنها وإن كانت أقدمهن عهدا فهي لاتزال أحدثهن رونقا وأبهرهن رواء وأوسعهن مجالا وأبلغهن جميعا فيما يقول, خصوصا بعد أن اتسعت خبراته ومعارفه, فقد كان يكلف منذ الصغر بمطالعة الشعر القصصي ولاسيما ما تعلق منه بالخياليات وعبادات الأقدمين, وتقلب ما بين أنواع الشعر القصصي إلى أن استقر إعجابه على الإلياذة التي نسج صفوة الشعراء على منوالها فلم يبلغوا شأوها وعقد عزمه على ترجمتها إلى اللغة العربية نظما, مؤمنا أنه ليس في شعر الإفرنج ولغاتهم ما يوفر للإلياذة أسباب البروز بحلة أجمل مما تهيئه لغتنا, فالشعر اليوناني - فيما يقول - لغته قريبة إلى الفطرة كلغتنا. وليس في شعراء أمة من الأمم من انطبقت معانيهم على معاني الإلياذة بالحكمة والوصف الشعري كالمتقدمين من شعرائنا.
وبدأ سليمان البستاني الترجمة في أخريات سنة 1887 بالقاهرة, معتمدا في البداية على ترجمة فرنسية يقارنها بترجمة إنجليزية. وكانت معرفته باليونانية القديمة قاصرة في ذلك الوقت, لا تتجاوز القراءة البسيطة وبعض أصول ومفردات لا تشفي غليلا, فأخذ يبحث عن أستاذ يساعده على إتقان اليونانية القديمة التي ينبغي أن ينقل عنها مباشرة, فاهتدى إلى عالم من الآباء اليسوعيين تلقّى على يديه دروس اللغة لأشهر في الدير, فأتقن أصول اللغة, وقرأ عليه فصولا من الإلياذة التي فسّرها له, وهو مُكبّ على الدرس متفرّغ للاستفادة. وبعد أن اطمأن إلى أنه يستطيع أن يتمم الدرس وحده, وأن يتناول تعريب الإلياذة من أصلها مع الاستعانة بكتب اللغة وتفاسيرها, بدأ التعريب من جديد, وأعاد النظر فيما سبق له ترجمته, فغيّر وبدّل, ونقح وصحح, وظل كذلك إلى أن رحل عن القاهرة سنة 1888, وانتهى به التطواف إلى العراق بعد أن زار الهند وأطراف العجم, فأقام في العراق سنتين, اضطر أثناءها إلى التوقف عن الترجمة .
وبعد العراق, سافر البستاني إلى الأستانة, واتخذها مقاما طيبا لسبع سنوات, كان فيها كثير التنقل بين الشرق والغرب, لكن الإلياذة ظلت رفيقه, حيثما توجه اختلس الأوقات ليعود إليها, ويضيف إلى ما ترجم, وكثيرا ما حصل ذلك في رءوس الجبال وعلى متون البواخر وقطارات سكك الحديد, فالترجمة بذلك وليدة أربعة أقطار العالم. وكان كلما استقر في مكان توخى الإفادة من أهله, وبخاصة في الأستانة, حيث هيأ له حسن التوفيق الاتصال ببعض أدباء اليونان عشاق هوميروس وإلياذته مثل استافريدس مترجم السفارة الإنجليزية وكارولينس أحد أساتذة الكلية اليونانية في الأستانة (استانبول) وبعضهم من قرّاء العربية, فكان يشاورهم في بعض ما التبس وأغلق وهم لا يضنّنون بعلمهم وعونهم, وهكذا, ظل حال سليمان البستاني إلى أول صيف 1895 حيث خرج بعائلته إلى مصيف فنار باغجة في ضواحي الأستانة, وظل فيه أربعة أشهر فرغ في نهايتها من عناء التعريب.

التعريب والترجمة
وكلمة التعريب التي يستخدمها البستاني لا يختلف معناها عن معنى كلمة الترجمة التي نستخدمها في هذه الأيام, فالرجل كان أقرب إلى المصطلح التراثي القديم الذي كان يعني النقل من لغة أخرى إلى اللغة العربية. لكن البستاني لم يتصوّر جهده قائما على النقل البسيط فحسب, فقد رأى أن دلالة التعريب لا تكتمل إلا بترجمة المعاني المنظومة شعرا باليونانية إلى معان منظومة شعرا بالعربية, وأضاف إلى ذلك ضرورة الشرح, مدركا أنه لو عرض الإلياذة على قراء العربية عارية من الشروح لما خالوها إلا هيكلا شعريا لا تزيد فائدته على شيء مما بين أيديهم من الدواوين الشعرية التي لا عدّ لها ولا حصر. ولذلك انتهج البستاني أسلوبا لم ينتهجه أحد من الشراح, فرجع بالقارئ إلى حضارة الأمة العربية والمشهود من أساطيرها وعباداتها والمأثور من آدابها ومناهج شعرائها, والإعجاب باتساع لغتها في الوضع لكل معنى من المعاني الفطرية مع عجزها في الحال عن تأدية بعض الأوضاع العصرية. كل ذلك بالمقارنة والمقابلة مع نظائره في الأمم القديمة وبخاصة اليونان.
ومضى البستاني في إنجاز الشرح إلى أن عاد إلى القاهرة سنة 1896, وانصرف فيها بعض الوقت إلى مساعدة قريبه بطرس البستاني في إنجاز (دائرة معارف البستاني) وعاد بعد ذلك إلى العمل في الشرح وكتابة دراسة التقديم إلى أن فرغ من العمل سنة 1902, فباشر طبع التعريب في مطبعة صديقه الشاعر نجيب متري صاحب مطبعة المعارف الذي احتفى بالترجمة, واستمر تصحيح بروفات الطبع إلى أن خرجت الترجمة سنة 1904, خالية تماما من أخطاء الطباعة التي نراها هذه الأيام, ونموذجا فريدا على التأني في العمل والحرص على الإتقان, وعلى تفرّد المترجم الذي كان يعرف - إلى جانب العربية التي أتقنها إتقانا لافتا - الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية واليونانية والتركية والفارسية وغيرها من لغات العالم القديم والحديث. وأضيف إلى ذلك حرصه على التعلم والمراجعة طوال السنوات التي قضاها عاشقا للإلياذة لم يبعده عن هذا العشق المناصب الكبيرة التي تولاها.
وقد أعان البستاني على ما وصل إليه من علم وضعه الطبقي والعائلي على السواء, فهو ينتسب إلى أسرة لبنانية ثرية, ولد في بكشتين إحدى قرى إقليم الخروب التابع لقضاء الشوف في لبنان, وتعلم في بيروت, والتحق في سن السابعة بالمدرسة الوطنية التي أسسها قريبه المعلم بطرس البستاني, فقضى فيها ثماني سنوات إلى أن تخرج وعمل مدرسا فيها. وأخذ يكتب بعد تخرجه في صحيفة (الجنان) التي أصدرها نسيبه الذي استعان به في إنشاء دائرة المعارف. وذهب إلى العراق بدعوة من أحد أشرافها لإنشاء مدرسة وجريدة في البصرة, فلبّى الطلب وأنشأ في البصرة أول مطبعة وأول جريدة, ثم انصرف إلى الأعمال التجارية, وفارق العراق بعد جولات في غيرها من الأقطار, وعاد إلى لبنان ليؤازر بطرس البستاني في دائرة معارف, وذهب إلى الأستانة, حيث اختلط بالساسة وقادة الرأي, الأمر الذي أدى إلى انتخابه سنة 1908 نائبا عن بيروت في مجلس النواب العثماني, ثم مجلس الأعيان, وفي سنة 1913 أسندت إليه وزارة التجارة والزراعة, إلى أن استقال احتجاجا على تقارب حزب الترقي والاتحاد مع ألمانيا, وذهب إلى سويسرا التي أقام بها لسنوات خمس, وتنقل بعدها ما بين دول العالم, فقد كان محبا للسفر, إلى أن توفي في نيويورك, ونقل جثمانه إلى مسقط رأسه.
وقد ترك سليمان البستاني آثارا كثيرة منها تاريخ الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده, وتاريخ العرب في أربع مجلدات, ومذكراته, وغيرها من كتب الخواطر والتأملات, فضلا عن دواوين الشعر, ولكن ذلك كله لم يصنع مكانة الرجل الثقافية, ولم تترك له مناصبه وعراقة محتده ذكرى, كما فعلت ترجمته إلياذة هوميروس التي تظل عمل عمره الذي خلّده في تاريخ الثقافة العربية الحديثة, ووضعه في مصاف المترجمين الأفذاذ الذين يتجاوز عملهم حدود الترجمة إلى الإسهام الكبير في تاريخ الدرس الأدبي بمجالاته المختلفة. ولا غرابة - والأمر كذلك - أن يتوقف دارسو الأدب الحديث ونقده على مقدمة الإلياذة التي كتبها البستاني ليروها نموذجا للريادة في التأريخ لفن الترجمة ومدارسها عند العرب, وأن يتوقف الدارسون عند هذه المقدمة ليروا فيها نموذجا فريدا لبدايات دراسات الأدب المقارن في الثقافة العربية الحديثة, خصوصا بما رواه البستاني من معلومات عن هوميروس الشاعر اليوناني القديم وإلياذته, وكيف وصلت هذه الإلياذة إلى العرب, وكيف اهتم بها عشّاقها من المترجمين الذين لا نعرف عنهم الكثير مع الأسف. ويتوقف عند الحواجز التي حالت دون نقل الإلياذة إلى اللغة العربية فيذكر حاجز الدين الذي كان ينفر من الوثنية التي تنتسب إليها الإلياذة, كما يذكر أن مترجمي الخلفاء كابن الحضيّ وابن حنين وآل بختيشوع لم يكونوا عربا وإن تفقّهوا بالعربية على أساتذتها فلم يكن يسهل عليهم نظم الشعر العربي, وكانوا بنظر العرب علماء أكثر منهم أدباء, وإن كانوا حريصين على آداب لغاتهم إلى الدرجة التي حلّوا جيد اللغة السريانية بقلادة الإلياذة منظومة شعرا كانوا يترنمون به في مجالسهم ويختم البستاني حديثه عن الحواجز بقوله إن العرب أنفسهم لم يكونوا يحسنون فهم اليونانية, ولم يكن فيهم من صلح لترجمة نظم الإلياذة.
ويستدرك البستاني على نفسه بقوله إن العرب نقلوا عن الفارسية ملحمتها الشهيرة الشهنامة للفردوسي, وهي تحتوي على عبادات وثنية وأساطير مثل الإلياذة, ولكن هذا النقل لا يبرر نقل الإلياذة لأن الارتباط بين الفرس والعرب كان أكثر من ارتباطهم باليونان, وشتان بين ناظم الإلياذة وناظم الشهنامة, فالأول (هوميروس) من عبدة الأصنام والثاني (الفردوسي) من أدباء الإسلام, ومع ذلك فلم يقم بين العرب من تجرد لتعريب الشهنامة إلا بقيام ملك يحسن فهم العربية والفارسية طرب بتلاوة الأصل فأراد أن يطرب أمته بتلاوة التعريب, هو الملك المعظم عيسى بن العادل أبو بكر الأيوبي, فتوسع بالرزق على الفتح بن علي البغدادي الأصبهاني لما توسمه فيه من قدرة وكفاءة على الترجمة , فأتم الفتح الترجمة إلى العربية سنة 679م.

الإلياذة والحضارة العربية
ومن أمتع الصفحات التي كتبها البستاني في تاريخ الإلياذة عند العرب الصفحات التي تؤكد أن شعر هوميروس كان معروفا عند خاصة العلماء في بغداد لعهد العباسيين من الذين كانوا ينشدون الإلياذة بأصلها اليوناني وترجمتها السريانية, والظاهر أن الإلياذة كانت منتشرة بين الخاصة في بلاد الفرس والكلدان في زمن الدولة العباسية لأن ثاوفيلس الرهاوى الذي نظمها بالسريانية كان منجم المهدي ثالث خلفائهم. وينقل البستاني عن ابن أبي أصيبعة - في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) - أن خَرْشَى جارية الرشيد الرومية تبنت إسحق المعروف بابن الحضيّ, وأدّبته بآداب الروم وقراءة كتبهم, فتعلم اللسان اليوناني علما كانت له فيه رئاسة, فكان يجتمع عنده أحبابه من الخاصة كي يستمعوا إلى معارفه, وإلى إنشاد الشعر اليوناني في بيته. وقد فعل ذلك حنين بن إسحق الذي روى عنه إنشاد شعر هوميروس في بيت ابن الحضى. وقد ذكر هوميروس المؤلفون العرب من أمثال ابن أبي أصيبعة, كما ذكره البيروني في كتابه (الآثار الباقية عن القرون الخالية), وكذلك الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل). وقد أكثر أبو الفرج الملطى المعروف بابن العبري من ذكر هوميروس في تاريخه, الأمر الذي يؤكد به البستاني أن هوميروس كان له شأن مذكور عند نقلة الكتب من بطانة الخلفاء, ولكن إلمام أدباء العرب بأقواله كان إلماما ناقصا, ظل منحصرا في أفراد معدودين من كبار الكلدان, أما منظوماته الشعرية فالثابت أنها لم تعرّب ولم يتول أحد ترجمتها فيما يؤكد البستاني.
وأتصور أن وعي البستاني بمكانة الإلياذة من ناحية, وقيمة هوميروس في تاريخ الشعر العالمي من ناحية ثانية, وتقصير التراث الأدبي يالعربي في نقل آثار هذا الشاعر والتعريف به من ناحية أخيرة, كان دافعا أساسيا دفعه إلى التعريف بهوميروس وترجمة رائعته الإلياذة التي شغلت الدنيا والناس على امتداد القرون. وقد زاده اقتناعا بما عقد عليه العزم ما انتهى إليه من وجود الطابع الملحمي في الشعر العربي. ولذلك أفرد بابا في مقدمته للملاحم أو منظومات الشعر القصصي بما يماثل الإلياذة, فأشار إلى ضروب الشعر عند الإفرنج وقابل بينها وبين ملاحم الأعاجم والملاحم العربية من الشعر الجاهلي وجمهرة أشعار العرب, واستطرد من ذلك إلى إلقاء نظرة على جاهلية العرب وجاهلية اليونانية, وانتهى بمعارضة بين اللغة العربية واليونانية. مبرزا اتساع اللغة العربية وثروتها القديمة وكثرة مترادفاتها وتعدد المعاني فيها للفظ الواحد مع إيضاح فائدة ذلك. ولم تنسه هذه الحماسة للغته وفخره بماضيها ذكر حاضرها وإيراد أسباب الضعف في تأدية ما استحدث من المعاني العصرية.

الشاعر الأعمى
ولم يفت البستاني أن يبدأ تقديمه بصورة متخيلة لهوميروس الشاعر اليوناني الأعمى, وانتهى إلى قبول رأي هيرودتس في تفسير أصل اسمه المركب من ثلاث كلمات بمعنى كفيف البصر, وهو تخريج حسن لأنه من الثابت أن بصر هوميروس كُفّ وهو لم يكد يتجاوز سن الشباب. وقد أشار إلى ذلك في أبيات من منظومته (الأوديسة) وقد ولد في ضاحية أزمير. ورعاه زوج أمه الذي تولى تعليم الصبي الذي سرعان ما تفوق على أستاذه. وشرع في قرض الشعر الذي حمله معه, وينشده خلال أسفاره, إلى أن ذاعت شهرته, خصوصا بعد أن نظم ملحمتيه الرائعتين (الإلياذة) التي تتحدث عن حرب طروادة بسبب الجميلة هيلانة, و(الأوديسة) التي تتحدث عن ترحال البطل اليوناني أوديسيوس خلال عودته إلى موطنه إيثاكا, عائدا من حرب طروادة, وغيبته الطويلة على زوجته الجميلة الوفية, بنيلوبي, التي أطمع غيابه الطامعون فيها, فقاومتهم بالحيل المختلفة, ومنها حيلة نسج ثوب عرس جديد, كانت تنقض في الليل ما نسجته منه في النهار.
ولا ينسى البستاني أن يروي الروايات المختلفة عن شخصية هوميروس, مقارنا بين الأقوال المختلفة. ولا يغيب عنه ما انتهت إليه طائفة من الباحثين, في أواخر القرن الثامن عشر بزعامة وُلف الألماني, من الذين انتهوا إلى الشك في وجود هوميروس, وافتراض أن المتأخرين اخترعوا شخصيته اختراعا, ونحلوه القصائد التي تجمعت عبر الزمن, وتألفت منها ملحمتا الإلياذة والأوديسة. ويعلّق البستاني على هذا الرأي بقوله إن أفكار مدرسة وُلف انتشرت في بداية أمرها انتشار الشرر ثم ما لبثت أن خبت. ولم يكن البستاني يدري - حين كتب هذا الكلام - أن سيأتي عبقري كفيف آخر, هو طه حسين, يتابع ما فعله وُلف, فيطبق مذهب الشك على الشعر الجاهلي, ويذهب إلى أن أغلب هذا الشعر منحول, وأن أمرأ القيس شخصية مخترعة اخترعها العرب كما اخترع اليونان شخصية هوميروس, وكان طه حسين متأثرا في ذلك بأفكار المدرسة التاريخية التي تنتسب إلى ولف الذي تحدث عنه في بعض كتبه, وتأثر بمدرسته فانتهى إلى مثل ما انتهى إليه في كتابه (الشعر الجاهلي) الذي صدر بعد صدور ترجمة البستاني للإلياذة بثلاثة وعشرين عاما, ولا أعرف هل قرأ طه حسين ما كتبه البستاني عن انتحال شعر هوميروس ورفضه دعوى الانتحال أم لا. وظنّي أنه لم يطّلع على ما كتبه البستاني وإلا كان ذكره, أو لعله أغفله عمدا أو بلا وعي لأن البستاني من المناهضين لنظرية الانتحال في شعر هوميروس.
ضد الانتحال
وأتصوّر أن شعور البستاني بأهمية هذا الموضوع هو ما دفعه إلى أن يفرد لما أسماه (الرأي الوّلفي) قسما خاصا, في معرض حديثه لنظرية انتحال (الإلياذة) في القرن الثامن عشر, وهو النظرية التي دعا لها بعض العلماء ممن أنكروا على هوميروس إنشاء (الإلياذة) وما يتبعها من سائر شعر هوميروس, وذهبوا إلى أنها قصائد متفرقة لشعراء كثيرين رواها الرواة, وعني بجمعها المشغوفون بمطالعة الشعر. وكان من نتيجة قولهم هذا أن هوميروس رجل وهمي خلقته مخيلات الشعراء, ويقول البستاني إن ذلك ما يُدعى في عرف الإفرنج (الرأي الوُلفي) نسبة إلى ولف العالم الألماني, وإن لم يكن هو السابق إلى نشر هذه النظرية, وإنما نسبت إليه لأنه كان أشد دعاتها, وتيسر له نشر اجتهاداته في زمن ثوران أفكار وانقضاض على كل كبير فيما يقول البستاني الذي يضيف أنه سبق وألف أفراد ذوو شأن في عالم الأدب فلم يكن لكلامهم شيء من الوقع. وقد بدأ الشك في نسبة الإلياذة والأوديسة إلى هوميروس في أواخر القرن التاسع عشر, فذهب كازوبون الفرنسي إلى إنكار وجود هوميروس وكون الإلياذة من نظم شاعر واحد, ولم يترك اجتهاده صدى كبيرا, وجاء بعده في الإنكار هيدلين قس أوبنياك فكان صدى إنكاره أعلى, الأمر الذي فتح باب الإنكار لموطنه بيرو والإنجليزيين وود وبنتلي, وتبعهم فيكو الإيطالي, فأربى بكتابته على من تقدمه فيما يقول البستاني الذي يؤكد أن صاحب القدح المعلى في هذا المضمار هو ولف الذي ما كاد ينشر مقدمته على الشعر الهوميري في أخريات القرن الثامن عشر حتى شاع في ألمانيا, وانتشر منها إلى أوربا.

العرب وطرائق الترجمة
وأشعل تشجيع جمال الدين الأفغاني وغيره حماسة البستاني فوق اشتعالها, فاندفع إلى ترجمة الإلياذة التي ملكت عليه لبّه وجنانه, وأكمل الترجمة , وأضاف إليها دراسته الخالدة التي لم يفته فيها استقصاء طرائق الترجمة عند العرب, واختياره طريقة حنين بن إسحق والجوهرة وغيرهما, وهو أن يأتي بالجملة اليونانية فيحصل معناها في ذهنه, ويعبر عنها في اللغة الأخرى بجملة تطابقها, سواء ساوت الألفاظ أو خالفتها. وقد حسم البستاني أمره في تحري الصدق في النقل مع مراعاة قوام اللغة, فلا يزيد شيئا على المعنى ولا ينقص منه ولا يقدم أو يؤخّر إلا ما اقتضاه تركيب اللغة, فكان يعمد إلى الجملة سواء تناول بيتا أو بيتين أو أكثر أو أقل ويسبكها بقالب عربي, يجلو رواءه على قدر استطاعته. ولكن لما كان الشعر العربي يختلف طولا وقصرا باختلاف أوزانه, كان لابد من حصول التفاوت في النسبة بين عدد أبيات الأصل وعددها في النقل, وليس في اللغة اليونانية شطر وبيت كالعربية فكل شطر منها بيت تام, ثم إنه كثيرا ما يحصل الترابط فيها بين بيتين وأكثر بما لا يجوز في منظومات - الشعر في اللغة العربية. ولهذا لم يكن في الإمكان نقل البيت اليوناني بيتا أو شطر عربيّا فيما يقول البستاني, وكانت النتيجة أن جاءت الأبيات العربية في ترجمة البستاني بين العشرة والأحد عشر ألف بيت نقلا عن أصل عدده بين الستة عشر والسبعة عشر ألف بيت.
ويمضي البستاني في تعداد الصعوبات التي واجهها في الحفاظ على الأصل, وتعمّده تجنب الوحشي والحوشي من الكلام, والصعوبات التي لاقاها في ترجمة الألفاظ التي لا مرادف لها في اللغة العربية, فاضطر إلى انتقاء ألفاظ يمكن إطلاقها على المعنى المراد ونبّه عليها وإلى نهج أسلوب في التركيب الوصفي لا يختل معه نظام اللغة العربية. ومن ذلك ما يتصل بأسماء الآلهة التي وضع لها اليونان أسماء بعددها, فلم يذكرها البستاني كما هي, فحيثما توقف على اسم آلهة عاد إلى معنى الاسم اليوناني وعرّبه بما يرادف ذلك المعنى أو قاربه, فأطلق على ربات الغناء ومنشدات الآلهة - مثلا (القيان). والقينة في اللغة العربية الجارية المغنية. وأما الموصوفات العلوية الموضوعة لمعنى معيّن, فقد أطلق عليها أسماءها التي تنطبق عليها في العربية, فأطلق على آلهة الفتنة (فتنة) وآلهة الشقاق (شقّاق) وهلم جرا.
وقد لاحظ البستاني أن أسلوب الإلياذة يتضمن تراكيب وصفية تلازم الكثير من الأعلام, وقد يكثر تكرارها على نحو لم يره سائغا في اللغة العربية, وذلك مثل وصف أخيل بخفة القدم ووصف هكطور بهز الخوذة ونسطور بأنه راعي الشعب وزفس (زيوس) بأنه أبو الآلهة والبشر.
وقد خفف البستاني في التكرار في مثل هذه الحالات, وانتقى ألفاظًا حسبها خفيفة على المسمع العربي, حسب ذوقه وذوق عصره, فقال على أخيل (طيار الخطى) وهكطور: (هياج التريكة) وما أشبه, ولم يكن بالأمر السهل عليه تعريب الأعلام, خصوصا أنها كانت أسماء شخصيات غير مألوفة, فلجأ إلى التعريب على طرائق العرب القديمة, فقال: زفس (زيوس) وهرمس وحاول قدر الإمكان الحفاظ على الأصل اليوناني مع مراعاة صحة اللفظ العربي, وتابع العرب في الأسماء الشائعة, فأبقاها على حالها, فلم يقل ألكسندر أو ألكسندروس على ما يقتضيه اللفظ اليوناني, وإنما الإسكندر لإجماع العرب على كتابته بهذا الهجاء. وفعل ذلك في الأسماء التي زاد عليها كتاب الإفرنج والعرب على كتابته بهذا الهجاء. وفعل ذلك في الأسماء التي زاد عليها كتاب الإفرنج والعرب حرف هاء في أوائل الأسماء المبتدئة بحرف علة ثقيل, فكتب: هوميروس وهيرا وهيبا كما قالوا هيرودس وهيرودوتس وهرقل وهيلانة, مع أنه لو روعي رسم الحروف اليونانية لما وجدت الهاء, ووجب أن يقال إيرودس وإيرودوتس وإرقل وإيلانة, على أن العرب لم يفعلوا ذلك في كل الأحوال, فقالوا أوميروس وأسيودس بدل هوميروس وهسيودس في الكتب القديمة.

أوزان الشعر
ويتابع البستاني إبلاغ القارئ بكل تفاصيل تقنيات ترجمته, ذاكرا كيفية الحروف التي لا مقابل لها في اليونانية, والحروف التي لا مقابل لها في العربية, وتنافر التقاء الحروف, ومواقع النبر. ويقف وقفة خاصة عند تقنيات الترجمة نظما, فيدخل في باب النقد الأدبي وأسلوبيات الترجمة وعلومها المقارنة في الوقت نفسه, فيحدّثنا عن معاني أوزان الشعر العربي, وكيف أن لكل بحر من بحور الشعر العربي ارتباطات معنوية وعاطفية, وهو تصور لم يعد يقبله النقاد العرب المحدثون ويصل ذلك بحديثه عن الفوارق بين القوافي والأوزان اليونانية والإفرنجية من ناحية والقوافي العربية من ناحية مقابلة. ولا تفوته الإشارة إلى القوافي الضيقة والثقيلة وجوازات الشعر وعيوب القافية. ويختم بالإشارة إلى ضروب النظم (المثنى, المربع, الموشّح, والمستطرد, والمصرّع) في التعريب, غير غافل مشكلات المجاز والتراكيب التي لا سبيل إلى ترجمتها حرفيا. ولا ينسى فعل الحضارة في استهجان المستحسن واستحسان المستهجن في التشبيه والمجاز, ويقوده ذلك إلى مقارنة مسهبة بين اللغة العربية واللغة اليونانية لا أعرف لها نظيرا إلى اليوم.
وسواء اختلفنا مع الرجل في بعض أفكاره النقدية أو اختلفنا معه, وفعلنا الأمر نفسه في بعض تفسيراته وتحليلاته, وسواء اختلف معه علماء اللغة اليونانية اليوم في ترجمة هذه المفردة أو ذلك التركيب, فالمؤكد أن الجهد الخارق الذي قدمه الرجل جعل من مقدمته عملا قائما بذاته. ولذلك نلتفت إليها في تدريسنا النقد العربي الحديث, وننظر إليها بوصفها وثيقة من أهم وثائقه التي تتناول مجالات عدة, وتشمل ما نسمّيه مبادئ النقد, وقواعد التذوق الشعري, وتفاصيل كثيرة في نظرية الشعر وتفاصيل أكثر عن جماليات الأوزان والقوافي, جنبا إلى جنب الدراسات اللغوية والأدبية المقارنة التي تكشف عن معرفة مذهلة باللغات والثقافات والحضارات. والأمر نفسه ينطبق على المقدمة من منظور تاريخ الأدب الذي تعد المقدمة نموذجا من نماذجه الحديثة المبكرة, خصوصا ما ورد فيها عن مراحل الشعر العربي وتطوّره. وقد أشرت من قبل إلى ريادة المقدمة في نظرية الترجمة والحديث عن مناهجها. فضلا عما نقوله اليوم عن الدراسات المقارنة في الترجمة , ومحصلة ذلك كله أن جهد تقديم الإلياذة لا يقل أهمية عن ترجمتها. وأغامر فأقول إن جهد التقديم سوف يبقى كثيرا أكثر من بقاء الترجمة , ذلك لأن الترجمة يمكن أن تصبح مقبولة, رائعة في عصرها, كما يمكن أن تختلف النظرة إليها في عصرنا حسب اختلاف الذوق والنظرة إلى الشعر وإلى الترجمة الشعرية التي تتأثر بالمدرسة الشعرية السائدة في عصرها.
مترجم استثنائي
ولسوء الحظ, لم يكن البستاني ينطوي على موهبة شعرية عالية كتلك التي انطوى عليها البارودي وشوقي, فهبطت به قدرته الشعرية عن أن يحلِّق بلغته في الترجمة إلى المصاف الشعرية الرائعة, فجاءت الترجمة ثقيلة اللغة في المعاني, عسيرة الفهم في التراكيب وصيغ التعريب التي اجتمعت فيها الغرابة وصعوبة المأتى.
ولذلك فإن ترجمة سليمان البستاني الشعرية تظل عملا استثنائيا عظيما في عصره, مذهلا في ثقافته, لكنه يغدو غير مقبول في عصرنا, إلا على سبيل ذكر الخصائص التي لابد أن تجتمع في المترجم الاستثنائي, وقد كان سليم البستاني مترجما استثنائيا بلا شك, وصل إلى آفاق لم يصل إليها أحد في عصره, لكنه كان شاعرا غير متميز, يخلو شعره من وهج العبقرية المتقّد, فجاءت ترجمته الشعرية ثقيلة. وإذا كنا نحتفل في هذا العام بمرور مائة عام على صدور هذه الترجمة , تقديرا لقيمة البستاني وإنجازه, فإننا نحتفي بالصبر والجهد والحماسة والتفاني في العمل والتمكن من المعارف التي تؤدي إلى التميز, كما نحتفل في الوقت نفسه بسليمان البستاني الناقد والمؤرخ ودارس الآداب المقارنة وأستاذ نظرية الترجمة , وذلك في مقدمته التي أثق في أنها ستبقى طويلا, وستظل مقروءة أكثر بكثير من نظمه الشعري الصعب في ترجمة الإلياذة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى