شيماء عبد الله - شفافية لون ضبابي.. قصة قصيرة

أتفرس في وجهها الجميل الذي ينبئ بعالم آخر مسكون بالوحدة، عالم لا نفهمه بقدر فهمها له ، ترى الأشياء التي لا نراها وتعرفها بقدر أكبر منا، تنود برأسها؛ تقلب أصابعها الرقيقة بأطرافها ممسكة ورقة؛ كمن يهش بأوراق سنين عجاف، تزم على شفّتها السفلى بنواجذ الألم تلوك المرارة ، أشعر بذلك أكاد ألمس أساها وحزنها، مشرئبة بعنقها لحظة صمت لتطلق أنفاسها بحسرة مع ابتسامة طفيفة : لم تحدقي بي !؟ فزعت وارتعدت أوصالي، أقترب منها رويدا رويدا ، وضعت كفي أمام عينيها أحركه يمينا وشمالا، باغتتني بخطفة ممسكة إياه لأصرخ بأعلى صوتي، تنطلق ضحكاتها من الأعماق ساخرة مني، أنظر لأمي وقلبي يخفق : إنها تضحك منا ترانا، أكاد أجزم بذلك! تشاطرها أمي ضحكة سريعة، تشبُ بقامتها وقوفا: هيا نلعب الغميضة، أسبقها مهرولة لأحشر نفسي خلف الباب؛ لحظات أراها أمامي وأصرخ هلعا متمازجا بين ضحك وبُكا، وهي ممسكة بي كالأحلام حين تفترسني، كخيالاتي الحمقاء عندما تنتابني بين اليقظة والشرود مغمضة العينين هلعا: “ماما” أقسم أنها تضحك منا جميعا، تلتقط كفي وتأخذ بي حيث مكانها في المطبخ، ترى الأشياء أكثر وضوحا منا حيث لا نفهم، تعلم بنا بإحساسنا، تهمسني مبتسمة :أنا ألقط أنفاسك وقلبك النابض، أسمعه قريبا فأستدل بمكانك، ضحكت منتشية؛ لم تكن تكذب ، لم تخاتلنا، إنه الشعور الذي لا يحسنه سواها، عندما تنعدم الأشياء نفقد لغة الصمت وتحسنها هي، تداعب السواد بعمق لا ندركه، تتطلع لمكامن الفرح رغم أساها، لم يكن حزنها من فقدان البصر إنما للُطمِها وإحالتها لقطعة حجارة لا يدرك الآخرون أنها من النفائس النادرة، ما بين منازل أخوتها استقرت أخيرا عندنا بعد أشواط جهد وعناء وبرغبة منها، شجرة اقتلعت جذورها واستحاروا لمنبت لها ، كانت تستلقي على آلامها كأنها تقول إنها سحابة تمطر ألماً بين سكونها ووحدتها وتغمرنا غيثا عندما تكللنا بالفرح المفقود، وتشع نضارة وذكاء لحماقة رؤيتنا للقبائح وبشاعة المناظر المؤلمة التي تعيش تجاويفنا، تعرف فلسفة الحياة بفكرتها مدركة أن الأشياء لا تتشابه برغم تفردّها بلون داكن لا تمتزج أطيافه بذواتها، وحدها تلمس شفافية الألوان برغم اشتعال دواخلها من ضنك ما هي فيه، وتمسُّكها بلباس السواد الذي أقسمت أن لا تتركه بعد آخر ومض من جذوة أمل خبت وحالت رمادا عند فقد أبيها، آه لرؤيتها كم من النعم ندركها ولا نشكر، جحود مطلق ما نحن فيه، مع كل صرخة ألم عند استواء نهارها والليل… تبتسم، أسألها بين حين وحين : أدرَكنا الليل ألا تنامين ؟! تجُر أذيال خيبتي وسوء تقديري بضحكة ساخرة منها: ماالفرق؟ النهار دفء والليل بارد أجرد لا يدع للنوم مغالبة، تلتقط أنفاسها مرة أخرى تفضي إليّ بما لم تبح به من قبل كوني كبرت لأواسيها : صيفا في إحدى البيوت التي آوتني عندما رمتني غربة أخوتي بشوارع النسيان؛ ألتحف الصبر وأتجرع لظاه وأتآزر بكل ما في الحقيبة خوف اعتداء أحدهم عليّ، تنسدل دموعها و يكاد قلبي ينفطر: ماالذي يجبرك على المبيت عند الغرباء ولك من الأخوة خمسة ، بتأفف تستطرد : القلب لا يعمى عن الرؤية، الفأر جميل وجبان ونخافه ياللسخرية والقط يتغزل بأقدامنا، نحن من نتلاعب بمخيلتنا كالشبح يسكننا إن سمحنا بذلك، كنت أستمع لها بكل حرص وإنصات ما تنطق به حكمة إلا العناد المتوطن فيها، بعد أيام من دردشتنا الدافئة تلك عدت من مدرستي الثانوية، بحثت بين زوايا البيت، لم أجدها، اقتربت من أمي مستفسرة عن غيابها، بلّغتني أمي أن صراعا عنيفا دار بينها وبين أخي لتحمل حقيبة أساها وغضبها المتقد حنقا منه كونه نهرها المبيت في بيوت الغرباء، أطلقت ما في جوفها لمواجهته، إن هذا العالم اللئيم لا يسعها؛ لا يطيقها لأنه عالم أعمى، بدأت ذكراها تداعب طيفي، كيف تجُر الطبلة عند بكائي لتغني طربا ثم تعمد للنشاز حتى أسقط أرضا من الضحك، كيف تسمع صوتي وأنا أنشد أغنية غربية دخيلة على مسامعها بعجب تسميني أم كلثوم الغرب، أفرح عند دعمها وتحفيزها لي وأنا ألقي على أسماعها قصة كتبتها ذات خربشة حين لا يصغي لي أحد سواها، أرى فيها تلك الصبارة التي نبتت جذورها في يباس تجتر رواء العطش من ملحنا اليومي، يوم جاء قريبنا متجهم الوجه يشق عليه الكلام فيها؛ بامتعاض : عنيدة عنيدة ، رأيتها على سلم الوزارة التي أعمل بها وهي تحتضن حقيبتها، سألتها ماالذي يجلسك هنا ! ينزوي يبكي مسترسلا: رأيت وجهها الحزين مبللا بالدموع، وقالت : مالذي أتى بك عرفان؛ هل كنت تتعقبني، أخوتي باعوني عرفان وباعتني الدنيا ولم أجد إلا السواد صحبتي وتلك الحقيبة التي أنهكتها السنون؛ أهو النهار أم الليل ؟ عجبت لسؤالها فالمكان يحتشد بصخب المارة! أمسكت يدها وأخذتها حيث سكناي ما إن وصلنا البيت ،أرادت أن تغتسل، ثم بسطت مصلاتها، وبدأت تصلي وتصلي حتى هدأت هدأتها الأخيرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى