جمال الدين علي - ظل مجنون.. قصة قصيرة

بخيوط الظلام سحب أنفاس الفاجعة الثقيلة وهال فوق جثة صديقه التراب. ثم جلس فوق قبره يقرأ عبارات الشوق التي بعثتها له فتاته في خطابها الأخير الذي لم يستلمه سوى الآن. كانا يحتسيان الخمر البلدي في الحانة الشعبية; وكلما ارتشف كأسا من الغيرة; كان يشعر بوخز الألم في جدار رحم الثأر وتتفجر صرخة مكتومة من عينيه المنتفختين; و بدأ كائن هلامي يتململ ويتلوى بداخله; عض شفتيه من الغيظ; دلق زجاجتين كاملتين من العرق المبرد في جوفه المتقد بلا طائل; اشتعلت نار الشك أكلت أحشائه من الداخل وتصاعدت غلل الدخان وغطت تضاريس ذهنه الهجس.
كان جنين الانتقام قد اكتمل في خياله الثمل وبدأ شيطان التفاصيل المارد يثور بدواخله ذلك الذي ظل محبوسا في قمقم الشك منذ أزمان سحيقة. ويبدو أنه في هذه اللحظة الثورية التي انتابته قد ترنح من النشوة فانكب على وجهه وسقط القناع; فتحطمت الجرة على أرضية الخداع التي كان عقله الزلق يهابها كثيرا. لقد كره قيود العقل وسلاسل الحكمة التي أجهضت ثورته في مرات سابقة. جحظت عيناه وارتخي لسانه; وضع آخر كأس فارغ كما يضرب (الشيش) فوق طاولة الدومنيو منهيا اللعبة; بصورة مقززة تجشأ الأفكار المتولدة في بطنه الغريق بوجه صديقه وقال:
( أرقد يا عيش أنا جرابك).
اكتفى صديقه بالابتسام; فهو يعرف أن نديمه و صاحبه حينما تلعب الخمر برأسه يلثق حرف الراء و السين و يمضغ العبارات الرطبة ويمص عصارتها الحلوة ويلفظ نوى الكلام الجاف بوجهه ثم ما يلبث بعد أن يكون قد وصل إلى مرحلة اللاعودة أن يتهاوى كبالون مثقوب بمجرد خروجهما من أجواء الحانة العاصفة; فيضطر هو لحمله فوق كتفه حتى البيت.
( اذن هيا يا جراب العيش لأوصلك إلى السرير). قال الصديق متهكما.
نظر مليا في وجه صديقه فرأي خيالات غامضة تمرق أمام عينيه; طفلة خلاسية ذات نظرة ملتهبة تصرخ بهستريا ( جراب العيش الفارغ). كائن أسطوري وحشي الملامح بدأ يتقافز كقرد يخرج لسانه يسخر منه و يغريه بأنه يعجز عن المضي في طريق جده الأول. طريق الاثم القديم. خرجا من باب الحانة الضيق ثملين ومنفتحين على مصراعيهما; هو يتعكز على عصاة الانتقام وصديقه يهش سراب النشوة بالنكات البذيئة و كان يتخبط في مشيته مع كل ضحكة عارمة تجتاحه. بصعوبة صعدا التل الرملي وغبش الفجر الشفاف يفصل بين أرواح أهل الصلاح و عصبة الضلال. تدحرجا في بطن الوادي وكان يفصلهما عن بيوت القرية حزام من أشجار السلم العنيد.
( لكنها تحبه ولن تنظر إليك). صوت الشك الباهت يأتي من مكان خفي يهمس بكلام أحد الندماء كان قد التقاه صدفة قبل يومين في ذات الحانة ومع أنه شعر أن ذلك النديم يختبر مدى عشقه وغيرته ولكنه سلمه طرف مسامعه فأكلها. ولما شبع من النميمة مسح على شاربه و آثار الابتسامة التي سالت من فمه ما زالت باقية في زواية فمه; أردف بصوت خفيت ينفخ نارا ظلت وامضة تحت رماد الغيرة.
( بالأمس القريب عند المغيب رأيتهما بعيوني التي سوف يأكلها الدود قرب البئر القديم سلمته مظروفا وكانت مرتبكة تلفتت أكثر من مرة قبل أن تدسه في يده وتهرول عائدة).
وكأنه يتقيأ حبها من أحشائه توقف عن الترنح انحنى للأمام; مال رفيقه عليه يتفقده; استل سكينا من ذراعه وغرسها في صدره. انفجر الشيطان من الضحك; توراى القمر من الخوف; تجهم وجه الليل وأطبق السكون الموحش على تلابيب الكون.
حينما أنهى قراءة الخطاب الذي وجده بجيب صديقه; أطلق ضحكة مجلجلة وصل صداها إلى أسماع كائنات مجهولة كانت مستلقية بوداعة في ملكوت الله; هبت من رقدتها فزعة وركضت مسرعة; ركض خلفها بسرعته القصوى يريد أن يحلق بها ويخبرها الحقيقة و كلما التفت للوراء يرى ظلا مجنونا يطارده; فيزيد من سرعته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى