محمد إسعاف النشاشيبي - أبو العلاء المعري

كان النبي محمد، وكان هذا القرآن، هذا الكتاب المعجز، فكانت تلك الدنيا العجيبة العربية، وكان مع الهدى والخير ذلك العلم وذلك الأدب وتلك الفنون، وكان أولئك الأئمة وأولئك النابغون وأولئك العبقريون، وكانت تلك المؤلفات الفائقات المحققات، وكان أولئك المؤلفون الراسخون في العلم المستبحرون. وكان هذا العبقري أبو العلاء المعري (أحمد بن عبد الله سليمان) رب هذا المهرجان.

كانت الحضارة العربية، وكانت هذه المدينة الغربية، ولن يقدر أن يكفر إفضال المفضلين كافرون. فمحمد والقرآن هما شائداً هذا المجد، وهما القائدان، وهما الهاديان، وهما الشمسان الباهرتان، ذواتا الضياء السرمدي في العالمين. .

(كما أرسلنا فيكم رسولاً يتلو عليكم آياتنا، ويزكيكم، ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون - فاذكروني أذكركم، واشكروا لي ولا تكفرون).

(دمشق عروس الشام الموموقة، وواسطة عقدها المرموقة).

في دمشق هذه التي قلت فيها - يا أبا العلاء - قولك هذا في رسالتك إلى (أبى منصور محمد) قد مهرج العربيون لك اليوم هذا المهرجان بعد ألف سنة من سعادتك بكونك وسعادة العربية بك، وإن أمة أقامت من بعدك هذا الدهر الأطول تصارع الكروب والخطوب، وتقارع تلك الهمجيات الشرقية والوحشيات الغربية ثم لم تبد بل لم تهن ولم تستكن، إن أمة وقاها كتابها ووقت لغتها ولسان كتابها؛ وعرفت قدرها في الأقدار، وفضلها من قبل، ومسعاها اليوم، وأرادت ألا تزول وأن تكون فكانت، إن هذه الأمة لقوية وعزيزة وسائدة وخالدة في الخالدين.

بلاد الشام جلها، ولا أقول كلها، (وإن مع اليوم غدا يا مسعدة) لا تردد كثيراً في الوقت قول الشيخ:

ألفنا بلاد الشام إلف ولادة ... نلاقي بها سود الخطوب وحمرها

فطورا نداري من سبيعة ليثها ... وحينا نصادي من ربيعة نمرها

فالحال اليوم - يا أبا العلاء - متهادن، والدهر مهادن. وفي الدار من قبلك صالحون وصادقون ومخلصون و (ما الخلاص إلا في الإخلاص) كما يقول أبو المنصور الثعالبي ورئيس القوم ملآن من الفضائل الإسلامية ومن العربية والوطنية، وهو كما أردت وكما أحببت وكما قلت:

إذا ما تبينا الأمور تكشف ... لنا وأمير القوم للقوم خادم

لا يتركنّ قليل الخير يفعله ... من نال في الأرض تأييداً وتمكينا

وقد أتى بكثير الخير وأكثره. ومهرجانك هذا هو حسنة من حسنة من حسناته.

كونت العربية في اللغات تكوين الألماس والراديوم في المعدنيات.

(صنع الله الذي أتقن كل شيء)

ولله أن يفضل لساناً على لسان، وأن يحظى إنساناً على إنسان

(ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات)

والشيخ يقول في (الفصول والغايات): (وربك خص بالفضيلة من أختار) وإذا قال العبقري ابن جني: (إنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاف والرقة ما يملك على جانب الفكر، حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر) فما غالي بما قال ولا بالغ بل كان من المقتصدين. وهذا شيخ العربانيين العلامة الكبير (نلينو) الذي حذق لغات متقدمين ومتأخرين من الغربيين والشرقيين يعالن في خطبة غير متسمح في الكلام ولا مصاد بأن (العربية تفوق سائر اللغات رونقاً وغنى، ويعجز اللسان عن وصف محاسنها).

(ولو أبصروا ليلى أقروا بحسنها ... وقالوا بأني في الثناء مقصر)

فـ (لغة العرب افصح اللغات، وبلاغتها أتم البلاغات)

ولو تمثلت لغة غادة لأنشد المنشدون:

فدقت وجلت واسبكرَّت فأكملَت ... فلو جُن إنسان من الحسن جننتِ

فتنت هذه العربية (أبا العلاء) فتوناً، وسحرته فنونها، فأقبل رجلاً مسحوراً. شغف بكتابها (قرآنها) ذاك الشغف، وكلف بقريضها أي كلف، وهام بألفاظها هيامه بأقوالها.

(أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد كتاب بهر بالإعجاز.

ما حذي على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال. . جاء كالشمس اللائحة. . لو فهمه الهضب الراكد لتصدع (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) وأن الآية منه أو بعض الآية ليعترض أفصح كلام يقدر عليه المخلوقون فيكونون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق (فتبارك الله أحسن الخالقين).

(أجدني ركيكاً في الدين ركاكة أشعار المولدين).

ومن علق بأقوال العرب الأقدمين من الجاهلين أو المخضرمين أو الإسلاميين استنزل كلام المحدثين، وقضى قضاء أبى العلاء. وللكلام العربي القديم سلطان قاهر إذا استمكن من نفس خليطه سحره عما سواه، فلا يتقبل إلا إياه. ولولا أن عبقرية أبى تمام وعبقرية المتنبي جهرتا الشيخ وبهرتاه ما كان فخم حبيبا في (رسالة الغفران) ذاك التفخيم مشيراً إلى مقصدات له فائقات ثم قال: (إني لأضمن بتلك الأوصال، أن يظل جسدها وهو بالموقدة صال؛ لأنه كان صاحب طريقة مبتدعة، ومعان كاللؤلؤ متتبعة، يستخرجها من غامض بحار، ويفض عنها المستغلق من المحار) وما كان افتتن بأبي الطيب تلك الفتنة. وسبك حبيب - وأن كان محدثاً - عجيب. ولغته قد ضارعت أو قاربت في القوة قديمة مطبوعة.

ذكر صاحب (الغيث المسجم في شرح لامية العجم) جماعة من (الذين رزقوا السعادة في أشياء لم يأت بعدهم من نالها) فلما جاء إلى الشيخ قال: (أبو العلاء المعري في الاطلاع على اللغة).

يقول الأمام الشافعي في (رسالته في أصول الفقه):

(لسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي).

ولو أحاط إنسان غير نبي بجميع هذا العلم لكان الشيخ أبا العلاء، وإن لم يحط به كله فقد أحاط - كما يخال - بجله. وتلميذه أبو زكريا التبريزي يقول كما ذكر أبن العديم في كتابه (الأنصاف والتحري): (ما أعرف أن العرب نطقت بكلمة لم يعرفها المعري).

من حياة دمشق:



مجلة الرسالة - العدد 604
بتاريخ: 29 - 01 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى