محمد حمودان - آنسات نوميديا” و”المعركة الأخيرة للكابتن نعمت” على خطى جان جينيه، محمد لفتح يشهر جمال اللغة في وجه قبح العالم

محمد لفتح، روائي مغربي يكتب بالفرنسية، ولد سنة 1946بمدينة سطات. عاش لمدة في باريس التي رحل إليها في أواخر ستينيات القرن الماضي ليدرس علوم الهندسة في مدرسة الأشغال العمومية التي تركها قصد تحضير دبلوم في المعلوميات ليعود، إثر حصوله على الدبلوم، إلى الدار البيضاء حيث اشتغل لفترة كمعلوماتي، قبل أن ينتقل للعمل في الصحافة الثقافية أولا في المغرب ثم بعد ذلك في القاهرة حيث توفي ودفن سنة 2008.
أصدر محمد لفتح روايته الأولى “آنسات نوميديا” سنة 1992 عن دار النشر الفرنسية “لوب”، رواية ستعيد نشرها سنة 2006 دار النشر الباريسية “لاديفيرانس” ضمن سلسلة كتاب الجيب “مينوس” بالموازاة مع روايتين جديدتين هما “في سعادة الجحيم” و “عنبر أو تحولات الحب” ومجموعة قصصية تحت عنوان “وردة في الليل” متبوعة بــ “تحت الشمس وضوء القمر” وهي أعمال لاقت فور صدورها ترحيبا واسعا من طرف النقاد والمتتبعين سواء في فرنسا أو في المغرب، ليبرز اسم محمد لفتح كواحد من أهم الروائيين المغاربة بالفرنسية.
بعد ذلك ، ستصدر له نفس دار النشر رواية “طفل الرخام” والمجموعة القصصية “شهيد من زمننا” سنة 2007، رواية “يوم فينوس” وكتيب على شكل يوميات تحت عنوان “سقوط دائم” سنة 2009، رواية “حوا” و كتاب “حكايات العالم العائم” سنة 2010 و أخيرا رواية “المعركة الأخيرة للكابتن نعمت” سنة 2011.
بشكل متناقض، إذا كان محمد لفتح قد باشر نشر أعماله في سن متأخرة نسبيا، فإن محاولاته الأولى في الكتابة تعود إلى بداية ستينيات القرن الماضي وهو لم يتجاوز بعد عامه السابع عشر. ورغم تكوينه العلمي، فإن لفتح كان قارئا نهما للشعر والرواية ولكتب التراث، وذلك منذ السنوات الأولى لطفولته كما يستحضر ذلك في روايته “آنسات نوميديا” عندما يكتب: “تظل إحدى ألمع ذكريات طفولتي، ذكرى ساطعة لا تنمحي، تلك التي أرى فيها نفسي بجانب جدتي (أمي لالة)، وأنا أقرأ لها، وأنا أكتشف معها هذا العالم العجيب الذي كان هنا، عالم مذهل، عالم غني، ملفوف بصورة سحرية في القوائم الرقيقة لنملات صغيرة تركض فوق الأوراق المصفرة لكتاب فاتن: ألف ليلة وليلة.” في نفس السياق، يجدر بالذكر أن محمد لفتح كان يلتهم بالشراهة ذاتها، بالإضافة للأدب العربي، قديمه وحديثه، الأدب الغربي، الفرنسي منه بشكل خاص. لذلك، قد يصادف القارئ، الذي يستضيفه لفتح إلى ما يشبه “وليمة أدبية” تسيل فيها خمور اللغة المعتقة، بودلير، أبو نواس، رامبو، رابعة العدوية، ابن عربي، كما لو أن الكاتب يسعي لخلق عالم تتعايش فيه جميع الثقافات والحضارات في تناغم تام، بعيدا عن الخطابات الشوفينية، المتعصبة و المتحجرة.
فالمشروع الروائي لمحمد لفتح يظل، في جوهره، مشروعا موسوما بالمثالية، بل بالطوباوية إلى حد بعيد. فهو يؤمن بالقوة الخارقة للجمال، للفن في مواجهة عنف وقبح العالم حتى أنه يضع، في مواجهة النظام السياسي، “النظام الشعري، الوحيد الممكن” كما يكتب في “آنسات نوميديا”. فإستراتجيته في الكتابة تعتمد الشاعرية كأساس ينبني عليه الصرح الروائي، إستراتجية يلخصها لفتح كالتالي: “أزحت وجهة النظر الواقعية، الشاجبة، الملتزمة. كان هدفي شاعريا في المقام الأول. النموذج العظيم، المتعذر تجاوزه الذي كان يساور ذهني هو القديس جينيه. أن أصل إلى نبرة النشيد انطلاقا من المعيش الأكثر وضاعة، الأكثر فجاجة. ”
بالفعل، فإن لغة لفتح تتقاطع أحيانا كثيرة مع لغة جينيه، إذ تطغى عليها النزعة الغنائية، الزخم الميثولوجي والنفس التراجيدي بصورة مكثفة حتى أن رواياته تشبه أناشيد أو احتفال قداس حيث الكلمة هي الرب. الأمر الذي حدا بالكاتب المغربي الراحل إدمون عمران المالح، في محاكاة لعنوان الكتاب الضخم الذي كرسه سارتر لجينيه “القديس جينيه، ممثلاً وشهيداً”، أن يعنون دراسة خص بها محمد لفتح في كتاب جماعي بــ” قديس وشهيد”.
على غرار جينيه في الكثير من رواياته، يميل محمد لفتح إلى أسطرة شخصياته، بل حتى الأمكنة التي تدور فيها أحداث الروايات. ففي “آنسات نوميديا”، وهي رواية تتناول عالم الليل السفلي وجيش المهمشين الذين يستوطنونه: عاهرات، قوادون، لصوص، منحرفون، ينزع لفتح عن شخصيات روايته النسائية، وهي في أغلب الأحيان فتيات يحترفن الدعارة، الصفة البشرية ليحولها إلى كائنات نباتية، إلى أزهار تتفتح ما إن تغيب الشمس، لتسحر، برهافتها وعبقها، ليس الزبائن فحسب بل، وفي المقام الأول، القارئ أيضا. نفس الشيء يسري على قوادي الفتيات، وهما شخصيتان محورتان، إذ يختار لهما لفتح اسمين لهما حمولة وأبعاد رمزية وميثولوجية قوية: زباتا، اسم الثائر المكسيكي، وسبارتكوس، اسم قائد تمرد الرقيق في روما القديمة. وكذا بالنسبة لشخصية المثلي الدنمركي الذي يطلق عليه لفتح اسم انكفار الذي يحيل على قائد ومستكشف فيكينغي عاش في القرن الحادي عشر من الميلاد ، اسم استوحاه لفتح على ما يبدو من قراءته لبورخيس كما يوضح ذلك في “آنسات نوميديا”: “إنها قصة ـ “تحقيق” ـ لبورخيس، معنونة تحديدا بـــ: “قدر اسكندينافي”، هي التي أهدتني هذا الاسم الذي نسبته إلى شخصيتي. في هذه القصة، يتعلق الأمر بشاهدة قبر للفيكينغ، من حجر روني، منقوش عليها: “هارالد، أخ انكفار. كلاهما رحلا للبحث عن الذهب، ذهبا بعيداً وأشبعا النسر في الشرق. ماتا في الجنوب، في جزيرة العرب.” أما الفضاء العام للرواية، فيضفي عليه لفتح صبغة خرافية، وهو يحول المغرب إلى “جغرافية سياسية” اندثرت منذ قرون، أي نوميديا، اسم إقليم شمال إفريقيا التابع آنذاك للإمبراطورية الرومانية كما لو أن لفتح، بناءاً على إستراتجيته في الكتابة، يروم إلى التعالي عن الواقع المادي و إلى جعل “الشاعرية” موطن شخصياته ومسرح صراعها.
بعيدا عن “نوميديا”، اختار لفتح، كفضاء لأحداث “المعركة الأخيرة للكابتن نعمت”، مصر الحديثة، وإن كانت مصر الفرعونية تخترق الرواية بشكل قوي. يقارب لفتح في روايته هاته عالم “البورجوازية” المصرية ويكشف عن الامتثالية الخانقة والتناقضات التي تتخبط فيها هذه الطبقة الاجتماعية. ورغم أن لفتح كان قد أكمل كتابة “المعركة الأخيرة للكابتن نعمت” سنة 2006، أي عامين قبل وفاته، فإنه لم يكن يرغب في نشرها قيد حياته لأنه ربما كان يخشى، نظرا لأوجه الشبه العديدة بينه وبين بطل روايته، باستثناء الجنسية وكون الكابتن نعمت طياراً حربياً (وإن كان لفتح قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح ربان طائرة حربية، لولا مشاكله البصرية، حسب ما حكاه لي)، أن يتم الخلط بينهما، الشيء الذي يفترض أن يكون لفتح قد عاش تجربة جنسية مثلية أرادها أن تبقى طي الكتمان، وهذه مسألة لا علم لي بها . أغلب الظن إذن أن لفتح، وهو الذي اختار أن يعيش في القاهرة، كان يخشى أن يثير غضب وسخط المؤسسة العسكرية المصرية التي يكيل لها نقدا لاذعا كما للمجتمع المصري برمته ، خاصة وأن الرواية تحكي قصة طيار سابق في الجيش المصري سيكتشف، في خريف عمره، ميولا ته الجنسية المثلية، ليرتبط بعد ذلك بخادمه النوبي المراهق في علاقة حب صاعقة ستقوده إلى الهاوية.
يعالج إذن لفتح في هذه الرواية موضوع المثلية الجنسية في المجتمع المصري، وهو موضوع يظل حساسا إلى حد بعيد، وربما من أكبر الطابوهات في المجتمعات العربية المحافظة، لتأخذ الرواية شكل مرافعة ضد الزحف اللاهوتي و ضد خنق وقمع الحريات الفردية، وأولها كما يكتب لفتح حرية تصرف الفرد في جسده و حرية المعتقد. بصفة عامة، يظل لفتح في هذه الرواية وفيا للروح الغنائية للغته وللنفس العميق والطويل لجملته ولاستعاراته الغنية، لأسطرة الشخصيات والمكان، إذ سيتحول، في لحظة من لحظات الحكاية، عن طريق الهلوسة الغرامية، بطلا الرواية الكابتن نعمت وعشيقه الشاب إسلام إلى إلهين من آلهة الفراعنة: سوبك وحورس، والشقة المتواضعة التي يتقاسمان إلى معبد هائل. مع ذلك، فلفتح يميل بسهولة إلى الخطاب في لحظات كثيرة. ربما يعود ذلك لشعوره بحاجة ماسة إلى التعبير وبالتالي الدفاع عن وجهة نظر سياسية، حتى لو حتم عليه الأمر التضحية بإستراتيجيته الجمالية.
نيزك اخترق سماء الأدب المغربي سيصل ربما توهجه إلى سماوات أخرى، يظل محمد لفتح كاتبا حداثيا ترتبط عوالم كل أعماله الروائية ارتباطا وثيقا بالمدينة، وإن كان أسلوبه ولغته كلاسيكيين بمعنى الصرامة وإتقان “الصنعة” وكأنه صائغ مجوهرات متفان في عمله. قديس وشهيد و لما لا، مثل جينيه، ممثل أيضا.


* محمد حمودان

- عن كود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى