محمد عبد الحليم غنيم - مقعد مريح فى شرفة تطل على شارع مغلق

فى جلسته المريحة فى هذا المقعد الجديد الذى أتت به زوجته من دولة الإمارات فى الإجازة الأخيرة ، لا يتذكر هل كانت إجازة نصف العام أم نهاية العام ، ليس هناك فرق ، فى هذه الجلسة المريحة وعبر الشرفة التى تطل على شارع مغلق ، تذكر وتذكر وكل ما يتذكره يبدو له ناقصاً أو مشوشاً مثل كتبه ومشاريعه التى لم تكتمل أبداً ، تذكر رجلاً مريضاً وشابة صغيرة ، تلميذة ، فى المرحلة الثانوية ، تجلس أمامه يلقنها معلومات عن الفعل والفاعل وناب الفاعل والمفعول به والمفعول معه والمفعول لأجله ، وامرأة شابة أيضاً لا يذكر منها سوى كفها الضخمة وفمها الشهوانى الوسيع ، هل هناك علاقة بين الكف الضخمة والفهم الشهوانى الكبير ؟ ورجل مريض يجلس فى مقعد مثل المقعد الذى يجلس عليه الآن ، وفتى ضخم أسمر الوجه لا يشبه أبداً ذلك الرجل المريض ولا يشبه تلك المرأة الشابة أيضاً. الفتى ينظر إليه شذراً . آه يا للذاكرة اللعينة ، هناك طفل أيضاً ، من ثلاث إلى أربع سنوات ، ها هو اسمه يقفز أمام عينى ، اسمه ، اسمه محمود . يتذكر الآن أن هذه الأسماء كانت مشروع رواية لم تكتمل ، كتب منها عدة فصول وتوقف ، شعر للحظة أنه يكتب سيرته الذاتية وأن ثمة أحداث ستكون محرجة وسوف تسبب له مشكلات مع زوجته والمجتمع ، أى مجتمع ، إنه لا يخشى أحدا ولا يعمل حسابا لأحد ، هذا ما يقوله فى العلن ، لكنه فى الحقيقة يخشى المجتمع ، يخشى نظرة المجتمع له ، تؤلمه نظرات الناس إليه . هل يتذكر الآن ما حدث له مع جارته الصغيرة عندما رأته أمها وهو يقبلها فى فناء البيت ، وكيف أنه لم يعد يدخل بيتها ولا يستطيع أن يصوب نظره نحوها، تزوجت الفتاة وبقيت تلك الذكرى مثل غيمة خفيفة . لديه مشكلة مع الماضى ، يحاول أن يمسك به ، يحاول أن يجمع تفاصيله فى يده ويعيد تركيبه من جديد، يحاول أن يجعله يمشى أمامه أو يروضه ويركب صهوته ، وفى كل مرة يفشل، مثلما يفشل الآن فى الإمساك بخيوط الأحداث ، لكى ينسج منها قصة ذات مغزى وإيقاع وبهجة تشرح القلب ، وتعيد بسمة إلى وجه شاحب يشعر بالقرف من كل ما يحيط به من بؤس وعبث. وهذا المقعد المريح ، هل طلبه من زوجته أم أتت به من نفسها ،لا يتذكر يا للذاكرة الخئون ! أين هى الآن ؟ هل انتهت إعارتها ، وعادت إلى عملها فى مصر، فى هذه المدرسة الملاصقة للمنزل، منزله الذى اشتراه من بائع الخردوات ودفع فيه مبلغاً خيالياً ، لماذا يدفع مثل هذا المبلغ الكبير فى هذا المنزل الحقير ؟ أبسبب تلك المرأة الجميلة ، زوجة بائع الخردوات التى سلبت لبه ؟ وها هو جالس فى المقعد المريح فى هذا المنزل الحقير الذى يطل على شارع مغلق لا تدخله الشمس، وها هو يشعر بالبرد وعليه أن يعود إلى داخل المنزل قبل أن تنادى عليه وتوبخه على جلسته فى تلك الشرفة حتى هذا الوقت المتأخر من الليل .

.
د. محمد عبدالحليم غنيم - مقعد مريح فى شرفة تطل على شارع مغلق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى