سمير الفيل - عم جمعة..

وجدت عم جمعة يجلس كعادته أمام باب الجامع من الناحية المواجهة للسوق ، حيث المحلات قد بدأت فتح أبوابها مبكرا ، بينما البيوت تغط فى نوم عميق ،بعد أن أمتص الليل جهد الرجال .
عرفت كل ذلك مبكرا فى السوق ، فتحت عينى على الخفى والمبهم ،ورأيت أن أمارس فعل الستر لأن الله قد أمر به ، ولأن هناك أسرارا لابد أن تبقى فى الكتمان ، ، ففضح العبد مكروه .
بغض النظر عن أن الحاج خليل البطاحى ،كانت له شلة بين النسوان ، يأتين إليه فرادى ،لإراحة أقدامهن من المشى لساعات طويلة فى السوق جيئة وذهابا ،وحتى لو لم أر بعين رأسى أكثرهن يتلاعبن بعقل ذلك الرجل الذى يشكم زوجته الصالحة ، ويشخط فيها عمال على بطال ، ويؤنبها لأنها لم تأت له سوى بولد واحد أخرج عينيه من محجريهما ، وكومة البنات اللائى لاينفع معهن وقوف المحل ، فقد كنت أميل إلى السكوت عما كشفته لى الأيام من علاقات مريبة ،وتصرفات عجيبة .
عم جمعة ينصب عدة الشغل أمام الجامع ، وترمى عينيه نظرة أفهم معناها تماما ، فعلى أن أساعده فى فرش الملاءة على الأرض ، وتثبيتها من الحواف بعدة قوالب من الطوب ، وأترك له مهمة توسيط السندان ، أمام الرصيف بخطوتين لاغير ، هو الإسكافى الوحيد المعتمد فى هذه الناحية ، وابنته فوزية لن تأتى بطعام الغذاء فى العمود قبل العصر بقليل .
لم يكن الإسكافى الذى يصلح للناس أحذيتهم القديمة فقط ، بل هو أكثر من هذا . إنه منقذهم الأبدى من المذلة وكسر النفس ، فقد تذهب إلى عملك بقميص قديم أو بنطلون انتهى عمره الافتراضى ، لكن من المحال أن تذهب ، والحذاء الذى تنتعله فاتح فكيه ، ليرى الناس أصابعك وقد برزت من الجورب الذى لابد أن يكون مثقوبا هو الآخر .
وعلى هذا فقد كان عم جمعة سترا وغطاء لسكان السوق ،والأحياء القريبة من الجامع ، وهو علاوة على ذلك إنسان طيب ، بغض النظر عن كونه يطلب لى معه واحد شاى صباح كل جمعة، ويحاسب عليه ممتنا .
فى الوسعاية ، يركن ظهره فى جلوسه القرفصاء إلى الحائط ،حتى يأتى أول زبون ،ثم يفعل الأعاجيب كى يحفظ " الجوز " من التبدد والاندثار ، وإلى جواره كيس من القماش القديم يحوى قطعا مختلفة المقاسات من الجلد الذى تقوم عليه دعائم صنعته .
جاءت امرأة من الريف ، مدت يدها بالفردة اليمين ، لمت الملاءة على جسدها ، وانخرطت فى البكاء. لم يكن الشغل قد حمى وطيسه بعد ، إذ علا صوته ينادينى، خشيت أن يأتى الحاج فيجد المحل خاليا من الصبيان ، فيطردنى ،أشرت له من بعيد أن لا أحد هنا .
رأيت المرأة تجلس على مبعدة عنه ، معطية إياه ظهرها ، لكننى كنت ألمح اهتزاز جسدها من النشيج الذى يصل إلى، وأميزه فى هدوء السابعة صباحا .
جاءنى ، وسأل:" هل بعت شيئا ؟ " أفهمته أننى على فيض الكريم ؛ فزبائن الجمعة لا يتكاثرون إلا فى فترة عصيبة قبل صلاة الجمعة بساعة أو اثنين ثم يختفون كما جاءوا فجاة ، لنقضى اليوم كله نهش الذباب والهواء الراكد ، فأهل المدينة لايشترون الجمعة أبدا حتى لو قطعت رقابهم على النقيض منهم أهل الريف الذين يتكاثرون هذا اليوم. هز رأسه ، وأنا أدير هذه الأفكار فى رأسى .
بنصف ابتسامة منكسرة : " سأقف مكانك . لا يوجد معي غير جنيه واحد ، حاول أن تفكه من المقهى ، وبسرعة " .
لم أعقب، ونفذت ما طلبه منى ، عدت ، فأخذ الفكة ، ولف الحذاء بعد أن أصلحه فى كيس ورقى ، ومد يده للمرأة التى كانت قد كفت عن البكاء . رفضت أن تأخذ شيئا بالمرة ، لكنه اقسم أن تقاسمه ما معه ، وما تبقى يكفى ؛ فسوف يفطر ، ويشترى سجائره ، ويحاسب على الشاى . " ربنا الرزاق ".
لم أشاهد وجهها فقد كان مختفيا وراء " البيشة "، فقط شعرت من طريقة مشيها أنها قد صارت أخف ، وألطف .
حين جاء المعلم ، أرسلنى فى طلب فنجان القهوة ، عرجت فى طريقى إليه ، استفهم منه عما دفعه لذلك، هز رأسه ، وهو يقدم لى نصف ساندويتش الفول :" ربك يرزق الطير فى الحجر ، فما بالك بالأدمى يا ولد يافلفل " .
جاء صبي بطاسة بخور نحاسية ، دخل المحل بدون إحم ولا دستور ، أطلق البخور فى المحل. وقعت عين الحاج عليه، انتفض فى غضب ، وصرخ فيه :" إبعد يا زفت ".
بعد ربع ساعة لاغير دخل المقرىء ،وعدل القفطان ، استوى على المقعد واهتز جسده الملظلظ قبل أن يقرأ ما تيسر من سور القرآن الكريم ، وحين انتهى ، حملق فيه الحاج، وزغرله بعينين فيهما أثر الحشيش :" غدا ندفع . لم نستفتح بعد بأبيض ولا بأسود " .
أطلت عينى على الساحة. كانت الدائرة توشك على الاكتمال ،ورأس العم الطيب لاتكاد تظهر .
قلت للحاج ، وعقلى يلق فى رأسى كالبيضة الفاسدة :" سأذهب للمخزن كي أحضر البضاعة الناقصة " . هز دماغه موافقا . لم يعترض ؛ سلمنى المفاتيح .
بعد شارعين جانبيين قابلت فوزية ، سألتها : " إلى اين ؟".
كانت تعرفنى ، صمتت لبرهة :" أريد نقودا من أبي لأشتري للبيت فولا وطعمية ".
كانت تمسك طبقا، وتنظر نحو المآذن العالية فى رهبة ، سألتها :" انتظريني هنا سأذهب معك " .هزت رأسها موافقة ،ونظرت نحوى بابتسامة صغيرة كالشمس أول طلوعها .
أبقيتها أسفل البيت الذى يوجد المخزن فى طابقه الأول ، أحضرت البضاعة الناقصة ، وجدتها فى انتظارى، سألتها ::" كم الساعة ؟ " ضحكت فى براءة :" لا ساعة معي ."
قلت لها، وأنا أتمعن فى طابع ست الحسن على ذقنها :" ما رأيك ان نحوش من نقودنا ونشتري ساعة . يوم تلبسينها في يدك.. ويوم ألبسها أنا ؟ "
سرت للفكرة ، حتى أنها وضعت يدها فى يدى اليمنى الخالية . شعرت بالسعادة ، ورأيت البؤبؤ يلمع فى حبور. فط قلبى ، وقفز من بين الضلوع ، فقد كانت فوزية حلوة التقاطيع ، ولها عينان سوداويتان فى غاية الرقة .
كادت علب الأحذية تقع. بدون أن تنطق بكلمة واحدة مالت على ، حملت نصفها، واتجهنا إلى المحل ، كنت أسبقها بخطوات قليلة . رآنا الحاج ، تركها حتى وضعت العلب الكرتون على المقعد المجاور للفترينة الزجاجية . بعد أن انصرفت سألني وهو يلومني : " أين كنت ياولد؟ " . رددت على الفور: " فى المخزن " .قال بنبرة سخرية : " بمفردك ؟" هززت رأسى : " نعم " .
أجلسنى أمامه ، وحدق فى عينى :" ولد . إياك أن تغرر بي . أفهم حركات الصبيان الأشقياء مثلك ".
تركت المحل غاضبا ، ذهبت إلى عم جمعة ، جلست على الرصيف أتأمل الأحذية المهترئة التى تخيلتها وقد أصبحت بكثرة تكاد تسد عين الشمس، رأيتها تتحرك فى الفضاء لتتجه نحو المعلم . وددت أن أعمل مع عم جمعة ، وكنت أعرف أن أمى سترفض لا محالة، ولقد حزنت لذلك كثيرا .


* من مجموعة قصصية تحت النشر بعنوان" صندل أحمر " .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى